الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


«الكتلة التاريخية» في العراق… تفكيك المقاربات

صادق الطائي

2016 / 3 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


في خضم أحداث الشارع العراقي وأخبار الاعتصام الذي دعا له السيد مقتدى الصدر على بوابات المنطقة الخضراء، لحين انتهاء المدة التي حددها بـ45 يوما لتشكيل حكومة جديدة، يتصاعد النقاش بين مخالف ومؤيد لما يحدث، أو محاولة المراقبين استشراف ما سيحدث.
ومع هذا الاحتدام تم طرح مفهوم «الكتلة التاريخية» الغرامشوي بكثافة، في إشارة إلى التقارب أو التحالف بين التيار المدني والتيار الصدري، وهنا نحاول قراءة وتفكيك بعض المقاربات التي اشتغلت على إعطاء صفة الكتلة التاريخية لهذا التحالف. ربما كانت الإشارة الأبكر والأهم في هذا الخصوص هي مقالة د. فارس كمال نظمي الأكاديمي واستاذ علم النفس في جامعة بغداد، الذي كتب مقالا تحت عنوان «الشيوعيون والصدريون وخيار الكتلة التأريخية» نشر في 17/6/2010، وقد ذكر فيه عدة مقاربات وصفت ما نشهد اليوم من تحالف بين التيار المدني بتوجهه العلماني اليساري والتيار الصدري، وكأني بهذا المقال النبوءة يصف ما يحدث اليوم، وقد اعتبر العديد من الناشطين المدنيين في ساحات التظاهر آراء د. فارس كمال نظمي صوتهم التنظيري المعبر عن توجهاتهم الفكرية، فماذا كانت المقاربات التي بنيت عليها أطروحة «الكتلة التاريخية» في العراق؟ قدم د. نظمي أطروحته بناء على ثلاث مقاربات تاريخية وخرج منها بقراءة سيكوسياسية للكتلة التاريخية التي نادى بها، فكانت المقاربة الاولى هي الاصل النظري للمصطلح أو المفهوم الذي صكه المفكر الشيوعي الايطالي انطونيو غرامشي في عشرينيات القرن الماضي، حين اقترح قيام تحالف بين قوى الإصلاح من ماركسيين وليبراليين في شمال إيطاليا المتقدم صناعياً، وقوى الكنيسة الكاثوليكية المسيطرة على جنوب ايطاليا المتخلف اقتصادياً، سعياً لنهضة شاملة تحقق الوحدة الإيطالية. اما المقاربة الثانية فكانت حركة «لاهوت التحرير»، وأحد أهم تجلياتها «الجبهة الساندينية» التي حكمت نيكاراغوا (1979-1990) وهي كتلة تأريخية نشأت في ستينيات القرن الماضي من تحالف قوى اليسار الماركسي مع المسيحيين المدعومين من الكنيسة، ونجحت بكفاحها العسكري والسياسي في إسقاط نظام سوموزا المدعوم من المخابرات المركزية الأمريكية عام 1979. والمقاربة الثالثة هي بعض إشارات نفوذ اليسار في مدن جنوب العراق الشيعية، وبشكل خاص مدن العتبات المقدسة في النجف وكربلاء في منتصف القرن الماضي، بناء على إشارة للمفكر حنا بطاطو في دراسته عن العراق التي اقتطع منها د. فارس كمال نظمي بعض الاستشهادات، التي تشير إلى أن نحو ثلث أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي (1955-1963) ينتسبون إلى عائلات دينية (السادة). كما شهدت مدن النجف وكربلاء والكاظمية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين تجاوراً سلمياً فريداً من نوعه بين انتفاضات الشيوعيين، ضد السلطة الملكية، ونشاط المرجعيات الدينية التقليدية هناك، إذ عزا بطاطو ذلك جزئياً إلى أن الكثير من الشيوعيين الناشطين في النجف مثلاً كانوا من أبناء العلماء أو أقاربهم.
ولتفكيك هذه المقاربات، وتبيان مدى اتفاقها مع الحالة العراقية اليوم، يمكننا القول إن اطروحة غرامشي عن «الكتلة التاريخية» كانت ملحقة بأطروحته حول المثقف العضوي ودوره في الحراك الاجتماعي، لقد كان الفرق بين شمال ايطاليا الصناعي المتحضر وبين الجنوب الزراعي المتخلف كبيرا، اذ وجدت التيارات الليبرالية والماركسية والنقابات في الشمال، بينما غاب دور المثقف في الجنوب، وانحصرت شريحة المثقفين في رجال الكهنوت الذين تميزوا بسطوتهم في المجتمع التقليدي، فكانت أطروحة غرامشي بالعمل على مثقفي الكنيسة الذين لم يكونوا مسيسين، وإقناعهم بالعمل على رفع الظلم والحيف عن مريديهم من رعية كنائسهم، على أن يتم هذا العمل وفق المنظور الماركسي المطالب بالعدالة الاجتماعية والوقوف بوجه النظام الفاشي الحاكم، والعمل على توحيد شمل الكادحين، سواء كانوا مؤمنين أو ملحدين، وهذا الامر لا ينطبق بشكل من الاشكال مع قواعد التيار الصدري، لأن الاسلام السياسي ومنه التيار الصدري طرح نفسه بديلا عن الاحزاب العلمانية، وقام نشاطه على فكرة أن الاسلام دين ودولة، وان تحقيق العدالة الاجتماعية تتم عبر الحكومة الاسلامية التي يحقق شروطها حكم الفقيه، وهذا العائق الايديولوجي يقف سدا مانعا بين التيارين، وهو ما ذكره د. نظمي مع التقليل من شأنه عندما ذكر «أن التمايز والتباعد بين التيارين يتضح بجلاء في القشرة الايديولوجية التي تغلف الشخصيتين»، لكن يجب القول هنا إن تيارات الاسلام السياسي في العراق بتوجهاتها وما يشكل كينونتها هي تيارات تقسيم مجتمعي، أكثر منها تيارات قادرة على عبور هويتها الطائفية إلى الفضاء المجتمعي، إذ أن هويتها المذهبية جزء لا يتجزأ من كينونتها، رغم محاولات بعض الحركات، ومنها التيار الصدري، العمل على مد جسور التفاهم والحوار مع الحركات والأحزاب المختلفة معها طائفيا، إلا أن ذلك بقي في اطار القشرة السياسية التكتيكية، أما جوهر الحركات فقد بقي محكوما بجوهره المذهبي، بالاضافة إلى ذلك، أن مؤسس التيار السيد محمد الصدر كان من دعاة الولاية العامة (ولاية الفقيه) ولمن يريد معرفة تفاصيل رأيه في هذا الامر عليه قراءة كتابه «مبحث ولاية الفقيه» الذي طبع عام 2013 بمقدمة كتبها السيد مقتدى الصدر وفيها اشارة واضحة لكون السيد محمد الصدر كان «ولي فقيه»، وبالتالي فان التيار يسعى لحكومة حتى إن كانت مدنية أو تكنوقراطية إلا انها تبقى تحت ظل الولي الفقيه، وهو ما يتعارض بشكل جوهري مع وجهة نظر أي محاولة علمانية إلى كينونة الدولة وعلاقتها بالمجتمع.
اما المقاربة الثانية القائمة على دور الكنيسة في امريكا اللاتينية وتحديدا (لاهوت التحرير) في الكتلة التاريخية، فيجب أن نشير إلى أن تلك الكنيسة مرت بمتغيرات جذرية غيرت مواقفها تاريخيا، فقد كانت كنيسة متحالفة مع الوجود الاستعماري الاسباني، منذ دخول الاسبان إلى امريكا اللاتينية حتى 1880، ومع التغيرات وثورات التحرر الوطني تحول موقف الكنيسة ليتماهى مع النخبة الاوليغاركية الزراعية حتى 1930، ثم حدث التحول في تقارب دور الكنيسة مع البرجوازية الوطنية وتياراتها المحافظة، الذي اكد على اهمية التنمية المجتمعية حتى 1968، ومع قيام الانقلابات والحكم العسكري وجدت الكنيسة نفسها في مفترق طرق، فإما تقف مع انظمة القمع البوليسي، أو تقف مع الطبقات المسحوقة والمستغلة، وهذا ما كان عبر تفعيل نمط من الاشتراكية المرتكز على العدالة الاجتماعية، وتقليل الفوارق بين الطبقات، من خلال روح التسامح المسيحية، وكل مراحل التطور تلك غير متوفرة في حركات الاسلام السياسي العراقي، رغم كون التيار الصدري ولد كمعبر عن مهمشي وفقراء الشيعة، وكانت احيائهم معاقل لهذا التيار، إلا أن ذلك بمثابة القشرة التي حاول د. نظمي الاشتغال عليها وبناء اطروحة التقارب الصدري الشيوعي. والمقاربة الثالثة القائمة على بعد تاريخي عراقي قائل بوجود تجاور بين نضال الشيوعيين والاسلاميين فهو اجتزاء للحقيقة التاريخية، التي قالها بطاطو في دراسته، إذ أن المد الشيوعي المكتسح لمعاقل التدين التقليدي في المدن المقدسة في حقبة الاربعينيات والخمسينيات كان المحرك الاساس لولادة الاسلام السياسي في العراق، ودعم مرجعية الامام محسن الحكيم لهذا التوجه الذي توج بفتوى (الشيوعية كفر والحاد) عام 1959، بالاضافة إلى ولادة تيارات تحديثية في بنية الحوزة والدرس الديني، غايتها الوقوف بوجه المد الشيوعي، اما وجود قيادات في اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب الشيوعي من اولاد علماء الدين، فقد طرحه بطاطو كمؤشر على كثافة الوجود الشيوعي في مدن العتبات المقدسة، وأن رسوخ البنى التقليدية الدينية والعشائرية هي التي حمت هؤلاء الناشطين من بطش النظام الملكي، وليس تجاور نضال الاسلاميين والشيوعيين في تلك الحقبة.
وتبقى هنالك إشارة اخيرة في موضوع اطروحة «الكتلة التاريخية» في العراق، وهي خلو الساحة العراقية مما عرف باليسار الاسلامي، مثال اطروحات المفكر حسن حنفي في مصر، أو الحزب الاشتراكي الاسلامي في السودان، أو تيار الاسلاميين التقدميين في تونس، أو منظمة مجاهدي خلق الايرانية، وهذه كلها تيارات حاولت العمل على بناء ثنائية تستلهم التراث الاسلامي، وتعمل وفق منهجية ماركسية على التعاطي مع مشكلات المجتمع، التي لو وجدت لمثلت دعما كبيرا لبناء كتلة تاريخية مع حركات التيار المدني، فالاسلام السياسي العراقي يكاد يخلو من طروحات كهذه، إلا في بعض الحالات الخاصة مثال ذلك اطروحات المفكر هادي العلوي أو الشيخ عبد الكريم الماشطة أو المفكر طه جابر العلواني أو السيد هبة الدين الشهرستاني أو المفكر عبد الجبار الرفاعي، والذين بقيت محاولاتهم الفكرية عبارة عن انشطة فردية لشخصيات اسلامية تنويرية لم تلق التفافا مجتمعيا يحولها إلى تيارات فاعلة.
ونسأل د. فارس عمر نظمي عن الامنية التي طرحها في نهاية مقاله قبل اكثر من ست سنوات حين قال «ليبدأْ الصدريون بالمبادرة بأن تثبت الكتلة الصدرية في البرلمان الجديد جديتها ومصداقيتها في برنامجها الداعي لتشكيل وزارة خبراء وأكاديميين، بأن تتبنى ترشيح وزراء يساريين تكنوقراط غير حزبيين، في خطوة تمهيدية أولى على طريق تأسيس كتلة تأريخية عراقية كبرى «علمانية- دينية»، تسعى لإصلاح العلاقة المختلة بين المجتمع والدولة والسلطة) لماذا لم يتم ذلك؟ وكيف سيتعامل التيار مع الفساد الذي اغرق البلد وكانوا هم جزءا منه؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جيل الشباب في ألمانيا -محبط وينزلق سياسيا نحو اليمين-| الأخب


.. الجيش الإسرائيلي يدعو سكان رفح إلى إخلائها وسط تهديد بهجوم ب




.. هل يمكن نشرُ قوات عربية أو دولية في الضفة الغربية وقطاع غزة


.. -ماكرون السبب-.. روسيا تعلق على التدريبات النووية قرب أوكران




.. خلافات الصين وأوروبا.. ابتسامات ماكرون و جين بينغ لن تحجبها