الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللغط السياسي وخراب العالم

محمد قرافلي

2016 / 3 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


"اللغط السياسي " وخراب العالم :

أين يبدأ لغط السياسي؟ وأين ينتهي ؟ ما شروط إمكانه وما حدوده؟
ما الذي يجعل الجمهور يصدق لغط الساسة ويأخذه بمحمل الجد؟ وما عسى الممارسة الفلسفية تقدمه بموازاة ذلك اللغط الذي اضحى نمطا للوجود؟
يتأسس "اللغط السياسي" على جملة من المغالطات او الاوهام التي لايتوقف اللاغط السياسي عن ممارستها سواء على الذات او على الآخرين، والتي انكب عليها الفكر الفلسفي خلال مراحل اهتمامه بالتفكير في أسس الوجود الانساني، في شروطه ومقتضياته.
يتوهم "اللاغط السياسي" انه مدرك لحقيقة لغطه ودوافعه، إذ ما يلبث يمتحي في لغطه من مرجعيات فلسفية وفكرية ولغوية لقاموس مفاهيمي يتلبسه ويدعي انه اهل لحمله واستيعابه من قبيل مفاهيم السياسة والسياسي والفاعل السياسي والمشروع ويستدعي منظومة من القيم من حرية وعدالة ومساواة وكرامة...
توازي لازمة ادعاء التمكن النظري لازمة ثانية لا تقل ادعاء عن الاولى ولاتنفصل عنها تتمثل في النجوع العملي . يراهن عليها اللاغط السياسي للبرهنة على تمكنه من فقه الواقع ومن فقه المناسبات والنوازل وانه وحده من بيده مفاتيح تدليل الواقع وإخضاع الوقائع للبرمجة رغبة في حل المعضلات، في إنقاذ " الشعب" من ضروب التأزيم وقيادة سفينته الى بر الأمان .
المثير في تلك اللعبة المشبوهة ان الكل قد وقع في شباكها إلا باستثناء نزر يسير من ظل يغرد خارج السرب !
قد لايحتاج الناظر اليوم والمعاين، للغط السياسي الذي يخيم في الكثير من المنابر التي تعمل على الترويج لذلك اللغط، الكثير من الجهد النقدي لإماطة اللثام عن الفراغ المهول الذي يلف اللغط السياسي سواء من حيث عقم الخطاب او محدودية الأثر على مستوى الفعالية والنجوع.
الواقع ان "الفاعل السياسي" بعدما تبين تنكره لمنظومة القيم الفكرية والأخلاقية التي راكمتها البشرية طيلة مسيرتها بدءا من الانجازات التي تحققت خلال اللحظة اليونانية مرورا بما عرفته العصور الموالية من بناءات فلسفية ونظرية تروم التأسيس النظري للفعل السياسي عموما قد جعله يتخبط في لغط ليس فقط على مستوى الكلام والخطاب بل تخبط في الفعل والممارسة.
لقد تنبه مبكّرا الخطاب الفلسفي الى الافات الناجمة عن ممارسة اللغط السياسي خاصة حينما يمتد الى الحياة العامة ويتولى " اللاغط السياسي" مهام التدبير والتسيير والتوجيه فإن ذلك يندر بانعكاسات كارثية على نمط الوجود ويهدد كل ما هو إنساني.
لذلك توخى أفلاطون نقد الأسس التي تقوم عليها سلطة الوهم وسلطة الخطابة وتمييزه بين الرأي الخادع وسلطة المعرفة . يتبين ذلك من خلال أسطورة الكهف حيث يشبه الحياة العامة بمثابة سجن تقع فيه الذات ضحية الخداع الذي يمارس عليها في الحياة اليومية .
كما يمثل الدرس السقراطي نموذجا لكل فاعل سياسي من خلال علاقته بألسبياديس ، هذا الأخير بقدر اعجابه بسقراط فإنه لايخفي رغبته في ممارسة الفعل السياسي ومساهمته في تدبير شؤون المدينة.
ما كان على المعلم "سقراط" الا ان يعترف بقيمة ذلك الرهان وجسامته من خلال التركيز على الصور والنماذج التاريخية والحية التي يمكنها ان تقدم مثالا يحتدى لشاب مفتتن بالصور التي يعج بها واقعه السياسي، من شخصيات أسطورية، وشخصيات سياسية كبركليس، وفكرية من ممارسي الخطابة ومختلف فنون القول...
بإمكان "سقراط" ان يرشده الى استلهام قدوة او نموذج معين ويريح ضميره. إلا أن "سقراط" يحدس مدى صعوبة ان تنهض الذات بمهام تدبير شؤون المدينة بدون ان تدرك تلك الذات ليس فقط خطورة ذلك الرهان، بل ما يستلزم من مقومات فكرية واخلاقية .
أن تتحمل الذات عبء قيادة الآخرين وتنصب نفسها الناطق باسمهم مهمة لا يجرؤ على النهوض بها الا فئة نادرة ومن طينة خاصة . بالأحرى ان يكون من طينة الآلهة او من اختارته الآلهة ان ينهض بتلك المهمة كما يؤكد سقراط نفسه في محاورة مينون معتبرا السياسي كائنا إلهيا ينشد الكمال المطلق والخير الأسمى متمثلا في العدالة.
لذلك ما يفتأ سقراط يضرب الأمثلة لألسبياديس منبها الى ثقل المهمة ، وان لايغتر بشبابه وجماله على اعتبار ان هناك من هم أقوى منه حنكة ودراية بعالم السياسة مثل الفرس، او من يتمتعون بسلطة القول مثل الخطباء.
تستلزم مهمة التدبير إذن استعدادات ومؤهلات خاصة تجعل تلك الذات تتمكن من التعالي على مختلف النزوعات البهيمية وتستعيض عن النزوعات الذاتية ، وتسمح لها بتجاوز انواع الإغراءات والامتيازات التي تتولد داخل وحول الممارسة التدبيرية.
لاريب ان تم تمثل ذلك العمل التطهيري الذي ألزمه "سقراط "على نفسه وأناط به "السبياديس" وتشبيهه بعملية الولادة،( كأن على "السبياديس" ان يولد ولادة جديدة ويقطع مع مختلف الصور لكي يتسنى له نحث صورته الخاصة). وتارة يعتبره "سقراط" يشبه عمل الطبيب أبقراط في علاجه لمختلف أمراض الجسد.
الغرض من هذا الملمح الإشارة الى ابعاده النظرية والعملية التي لايمكن لأي فعل معرفي او أخلاقي، أو بالأحرى للفعل السياسي، ان يقوم ويتحقق بدون الأخذ بالاعتبار تلك المقتضيات .
كما لايمكن تفهم المسعى التطهيري الذي شكل محور الهم السقراطي الا ضمن نفس السياق، إذ لاينفصل تدبير الشأن العام عن تدبير الذات والعودة اليها باستمرار بل بدونه يسقط كل تدبير ويصير مآل الذات التخبط في اللغط والتغليط والإغراق في الصور الوهمية. بل إن التدبير الذاتي لايتحقق الا بمعيّة الآخر بواسطته ولأجله مهما كانت وضعية ذلك الآخر الاعتبارية شابا او شيخا، غنيا أو فقيرا ، حاكما أو محكوما. لذلك تبدو شخصية سقراط النموذج والمثال لذلك " الفيلسوف /السياسي " الذي يكرس حياته لتحقيق الخير الأسمى .
لعل هذا المسعى الذي ألزمه سقراط على نفسه وجعله ميسما لكل من يدعي الاهتمام بالشأن العام ما أثار حفيظة الطغمة اليونانية او ما يمكن نعتهم "بالساسة اللُّغٓ-;-ط " مقابل " الساسة الأُصلاء" ، تلك الشرذمة الأولى التي تحرص على مراكمة الألقاب والمقتنيات وتلميع الصورة منتهجة مختلف سبل التضليل والالهاء والتوهيم . إذ لايمكن تفهم ذلك التوجس السقراطي من مخالطة الوجهاء والمتمسحين بالسلطة ، وكذا توجسه من اللهث خلف طلب الحظوة واعتلاء المناصب الا بداعي الاستجابة لاعتبارين:
- يتمثل الاعتبار الأول في كون المسعى السقراطي يدرك عين اليقين ان الفعل السياسي خاصة لاينفصل عن مقتضياته الوجودية والفلسفية والعملية ، وان السياسي الحق في نظره من تتحقق فيه العدالة والفضيلة في أسمى صورهما ، إذ لا ينفصل في نظره النافع عن الطيب، والطيب الممتع عن العادل وعن الخير الأسمى الذي يمثل تجليا لذلك التناغم، حيث يؤكد إكسنوفان " أن سقراط يجعل كل من يقترب منه أشد استقامة بواسطة أقواله وأفعاله" . وكذلك حال الفعل السياسي في نظره، وما على السياسي الأصيل إلا ان يستلهم ذلك النموذج الأسمى الذي ينكشف فيه الكمال الأخلاقي.
- اما الاعتبار الثاني لذلك التوجس فإنه ليس الخوف من عواقب ذلك وإن كان المسعى السقراطي يستشعره مشيرا إلى ذلك بقوله في محاورة الدفاع " إذا ما كان المرء يرغب في الدفاع عن العدالة ، وإذا ما كان يرغب بالاستمرار في الحياة، يجب عليه ان يظل مجرد شخص نكرة، بدل ان يصير شخصية عمومية دائعة الصيت " . بل إن مرد التوجس يعزى إلى طبيعة السلطة ذاتها وما تنتجه من نزوعات تجرد الذات من مقوماتها الإنسانية وتقوي فيها صنوف أوهام التحيّز والتسيد والتسلط .....!
هكذا يتحول التوجس السقراطي الى دافع لمساءلة السلطة ومسبارا لقياس حدة توترها وبوصلة لتحديد خطوط التماس ونقط التقاطع قصد ان تنكشف الحدود بين ان يتحول الفعل السياسي إلى غاية في ذاته، ومطية للاغط السياسي ومطلبا للتكسب وتحصيل المجد الشخصي وبين أن يظل إلزاما فكريا ومقتضى اخلاقيا ينشد الخير العام والخلاص الإنساني بدل الخلاص الفردي!
بخلاف ما يتبادر الى الأذهان ان الحس الفلسفي ظل يحلق خارج الهم السياسي فإن الممارسة الفلسفية تبرهن على تهافت تلك الدعوى كما بينا سلفا وكما تكرس داخل الممارسة الفلسفية. حتى لو افترضنا جدلا أن سقراط قذ ظل بعيدا عن مركز السلطة بمفهومها الاختزالي فإنه بالمقابل كان أكثر سياسية من اهل اللغط السياسي وشراذم المتعلقين بأهذاب السلطة السياسية. بل الأهم من ذلك أنه يضع النموذج الأسمى الذي ينبغي على السلطة السياسية ان تنتهجه في نشدانها للعدالة وللكمال.
حاصل الكلام أن " اللغط السياسي " الذي يخيم اليوم على العالم ويؤذن على نتائج كارثية لم يكن في منأى عن ، الهم الفلسفي ، بل شكل هاجسا لكل مهتم بالفكر الفلسفي . إذ أن هاجس الفكر الفلسفي لايروم فقط الكشف عن هشاشة ما هو مألوف ومتداول وما يلفه من زيف وخداع على مستوى النظر والممارسة بل يتوخى التأسيسس لمبادئ وقيم جديدة وايضاً المراهنة على آفاق ارحب للوجود الانساني.
تشهد على ذلك اعمال اغلب الفلاسفة، لا أدل على ذلك من المحاورات الأفلاطونية في سعيها الى الحفر في مختلف العلاقات الناظمة للفعل السياسي في علاقته بما هو معرفي وبما هو أخلاقي .



محمد قرافلي من المغرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تهاجم أردوغان.. أنقرة توقف التبادلات التجارية مع تل


.. ما دلالات استمرار فصائل المقاومة باستهداف محور نتساريم في غز




.. مواجهات بين مقاومين وجيش الاحتلال عقب محاصرة قوات إسرائيلية


.. قوات الأمن الأمريكية تمنع تغطية مؤتمر صحفي لطلاب معتصمين ضد




.. شاهد| قوات الاحتلال تستهدف منزلا بصاروخ في قرية دير الغصون ش