الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ساق البامبو .. والبحث عن الوطن .. في غربة الانسان

منير ابراهيم تايه

2016 / 3 / 18
الادب والفن


"الحزن مادة عديمة اللون،غير مرئية ،يفرزها شخص ما،تنتقل منه الى كل ما حوله، يُرى تأثيرها على كل شيء تُلامسه، ولا تُرى"
ما ابلغ هذا الوصف ..
احيانا يحتاج الانسان الى ان يذهب بخياله بعيدا.. الى اللامكان، فاذا وصل الى هذه الحالة فاليك الحل.. "ساق البامبو" رواية تخطفك إلى عالم بعيد، ستأخذ دورك فيها،وستكون أحد أفراد الرواية ... بعد ان يخضع راشد الطاروف لمشيئة والدته بالانفصال عن الخادمة الفلبينة جوزفين التي تعمل في بيتهم والتي كان قد تزوجها سرا، وحيث ان للعادات والتقاليد في المجتمعات الخليجية سطوة ثقيلة على حياة الافراد، لا تترك لهم فرصة تحديد واختيار مصيرهم، وحرصا من والدته (غنيمة) على مستقبل شقيقاته الثلاث حيث كان من الطبيعي أن تتلوث سمعة العائلة فيما لو افتضح أمر هذه العلاقة مابين راشد ذلك الشاب المثقف الذي يحلم بكتابة روايته الاولى ــ سليل العائلة العريقة والخادمة الفلبينية التي كانت هي الاخرى مدمنة على قراءة الروايات قبل أن يقودها مصيرها الى الكويت لتعمل خادمة متخلية بذلك عن دراستها من اجل مساعدة عائلتها وهربا كذلك من واقع بائس كان من الممكن لوالدها ان يسقطها فيه فتصبح عاهرة كما هو الحال مع شقيقتها الكبرى إيدا.
ستعيش مع عيسى / خوسيه وتبحث معه عن هويته، ستصبح انت هذا الطفل، تعيش احزانه وتضحك معه وتبكي عليه.... ستتجلى لك ازدواجية هوية البطل من خلال اسمه المزدوج عيسى/خوسيه .. فسؤال الهوية هو ما يطرحه الروائي، من خلال حياة شاب ولد لأب كويتي، ينتمي لعائلة عريقة، ومن أم فلبينية، فتوزعت الرواية بين هاتين الهويتين في علاقة ملتبسة يغلب فيها الشعور بالانتماء إلى ثقافتين مختلفتين، وعدم القدرة على التماهي مع إحداها وترك الأخرى، الرواية تمتاز بسلاسة الأسلوب بعيدا عن التعقيد والتعمق في التحليل..
انها سيرة حياة بطلها، في الفلبين اسمه خوسيه ميندوزا وفي الكويت عيسى الراشد،ابن خادمة فلبينية متعلمة ساقتها حياة الفقر في الفلبين لتلاحق حلم المال والحياة الرغيدة في بلاد النفط، فتكون الكويت هي تلك الدولة..
تعمل الخادمة لدى عائلة كويتية وهي من العائلات ذات الوضع الاجتماعي المرموق، حيث تلتقي براشد ابن العائلة الوحيد شاب يتيم رومنسي يميل الى الكتابة والتعاطف مع الكادحين، ويبدو مصدوم لعدم موافقة والدته على الزواج من فتاة التقاها في الجامعة و السبب الفرق في المستوى الاجتماعي.
تنشأ علاقة حب بين راشد والخادمة ويقرر راشد الزواج من جوزفين ولكن بشكل سري وبموجب عقد زواج عرفي يشهد عليه اثنين من اصدقاءه، تحمل جوزفين بوليدها ليكون عيسى / خوسيه ثمرة ذلك الزواج فيما بعد، وحين تعلم والدة راشد "غنيمة" تقوم بطردها من المنزل بعد ان يعترف راشد ان من تحمله جوزفين هو ابنه من زواج عرفي، وخوفا من الفضيحة يخرج راشد من منزل اهله لغضب والدته عليه، ويسكن مع جوزافين في شقة منفصلة، وحين يولد عيسى يحمله راشد الى والدته ليحنن قلبها خاصة انه الذكر الوحيد الباقي من العائلة، لكنها ترفضه وتطلب منه التخلى عن جوزفين، عندئذ يتخلى الأب عن الابن الذي لم يبلغ شهره الثاني من عمره، ويرسله إلى بلاد أمه، وفي الفلبين، يكابد الطفل الفقر وصعوبة الحياة، ويمني نفسه بالعودة إلى بلاد أبيه، حين يبلغ الثامنة عشرة، ومن هنا تبدأ الرواية ..
في الفلبين يتربى عيسى، عند عائلة جده ميندوزا حيث تدور معظم احداث الرواية وتحكي قصص الاشخاص الذين ارتبط بهم، من خالته ايدا وابنتها ميرلا وخاله بيدرو وجده وتلك العجوز التي اسكنها جده في طرف الارض التي كان يعشقها ويقضي فيها وتحت اشجارها الكثير من الوقت مثل بوذا. وكذلك اخاه من امه الذي غرق في مياه المجاري المجاوره الى البيت ليصاب باعاقه دائمه في الدماغ اثناء وجود عيسى/ خوسيه فقط عنده وهو ابن خمس سنوات وشعوره الدائم بالذنب على ما حدث له
تمضي الايام ويصبح عيسى شاب قادر على السفر ويعود الى الكويت بلد والده والتي كانت امه جوزفين تهيئه باستمرار ليعود اليها في يوم من الايام، طال الانتظار وتأخر الاتصال ليكشف لهم غسان صديق والده بأن راشد كان قد وقع في الاسر اثناء مقاومتة للاحتلال العراقي وعثر على جثته في قبر جنوب العراق.
ويقوم غسان على مساعدته في الوصول الى الكويت وتعريفه على عائلته، لكن ملامحه الفلبينية شكلت عائق لقبوله ضمن افراد العائلة فعاش على الهامش في غرفه جانبيه وكأنه واحد من الخدم... ولا يكاد احد يتواصل معه الا اخته من اباه لكن حتى تواصلها كان منقوصا...فيقوم بشراء سلحفاة يناجيها حين يشعر والوحدة، ودفعه صراعه الداخلي الى مغادرة المنزل بعد ان بدأت ام جابر احدى الجارات تتساءل عن ذلك الخادم الفلبيني وتطلب ان يساعدها في خدمة ضيوفها ليسكن في شقة منفصلة، ويعمل في احد المطاعم، ليتعرف اثناء ذلك على احد الشخصيات المهمة في حياته وهو فلبيني مسلم اسمه ابراهيم ويلعب هذا الابراهيم دورا محوريا في الرواية، وفي لحظة ضعف وحالة من الانفعال التي احس بها بعد علمه من خلال الشلة الكويتية التي يتسكع معها بعد ان تعرف اليهم اثناء رحلة لهم الى الفلبين والتقاهم في الكويت صدفه، بأن عمته (هند) هي احدى المرشحات للانتخابات البرلمانية، مما دفعه لكشف سر علاقته بعائلة الطاروف، فافتضح امره عن طريق جابر ابن ام جابر جارة العائلة احد افراد الشلة ، لتقوم جدته غنيمة بقطع المال الذي كانت تخصصه له شهريا، ونتيجة لحالة الضياع التي تسيطر عليه عاد الى الفلبين مجبرا تاركا ارض والده ليعيش الى جوار عائلته في ارض ميندوزا، حيث تزوج ابنة خالته التي لم تعرف لها اب مثله ولكن في ظروف مختلفة، وكان قد احبها على الرغم انها تكبره باربع سنوات

تنتهي الرواية بعد ان نعرف بأنه انجب طفلا ذكرا لم يكن يشبه والدته ذات الملامح الاوروبية، وانما جاء بملامح كويتية فاسماه راشد على اسم والده، واعتقد ان هذه النهاية المفتوحة ربما لتمكن الروائي من تتبع راشد الحفيد في رواية لاحقة..

العنوان "ساق البامبو" ، منذ البداية، يأتي على الرسالة السياسية في الرواية. والراوي يقدم تفسيرا للعلاقة بين ساق البامبو ومحنة بطل الرواية، يقول عيسى لنفسه: "لو كنت مثل شجرة البامبو، لا انتماء لها. نقتطع جزءا من ساقها… نغرسه بلا جذور في أي أرض… لا تلبث الساق طويلا حتى تنبت لها جذور جديدة.. تنمو من جديد.. في أرض جديدة.. بلا ماض.. بلا ذاكرة.. لا يلتفت
إلى اختلاف الناس حول تسميته… كاوايان في الفلبين… خيزران في الكويت… أو بامبو في أماكن أخرى" (ص 94))
التناقض يشطر حياته شطرين؛ فهو "عيسى" وهو "خوسيه" وهو لا يكاد يدري ديانته: أمسيحي كأمه أم مسلم كأبيه؟ انه السؤال الديني على المستوى الخارجي، لا سيما في العلاقة التشابكية بين الأديان و الطمأنينة التي يمكن أن تقدمه للإنسان الشغوف بالبحث عن معنى – داخل المتون الدينية- للوجود الإنساني، فالبطل مشظى بين أديان عدة، وليس داخل دين بعينه.
يقول عيسى "كنت أمام إبراهيم أجلس، كان صامتا كما كنت أنا أيضا. في أذني اليمنى صوت الأذان يرتفع، في أذني اليسرى قرع أجراس الكنيسة. في أنفي رائحة بخور المعابد البوذية تستقر. انصرفت عن الأصوات والرائحة والتفت إلى نبضات قلبي المطمئنة، فعرفت أن الله هنا (ص300)

والوطن كذلك اشكالية أخرى: أهو موطن الأم والنشأة والواقع، أم موطن الأب والمستقبل والحلم؟
وهو يتأمل هذا الذي أورثه له أبوه، و يفعله الكثير من أشباه أبيه بمن هن مثل أمه.
يقول: "تتحول الفتيات هناك إلى مناديل ورقية يتمخط بها الرجال الغرباء… يرمونها أرضا… يرحلون ثم تنبت في تلك المناديل كائنات مجهولة الآباء، نعرف بعضهم بالشكل أحيانا، والبعض الآخر لا يجد حرجا في الاعتراف بذلك، لكنني الوحيد الذي كان يملك ما يميزه عن أولئك مجهولي الآباء… وعدا كان قد قطعه والدي لوالدتي بأن يعيدني إلى حيث يجب أن أكون، إلى الوطن الذي أنجبه وينتمي إليه؛ لأنتمي إليه أنا أيضا، أعيش كما يعيش كل من يحمل جنسيته، ولأنعم برغد العيش، وأحيا بسلام طيلة العمر" (ص 18)
وحين يفلح عيسى في العودة إلى الكويت بمساعدة صديق والده، وهو الحدث الذي جاء بعد أن فقد والده حياته في الغزو العراقي للكويت، كانت الصدمة في رفض جدته استقباله في منزل العائلة، الا انها أبدت بعض اللين ليدخل خوسيه البيت لكن في غرفة بملحق البيت كالخدم. وتكشف الرواية عن حب تكنه الجدة للحفيد ذي الوجه الفلبيني (ويبدو أن المأساة كانت في وجهه يفضحه أو بالاصح يفضح الأسرة العريقة)، هذا الحب بعثه الذي انبعث في نفس الجدة هو صوت خوسيه لصوت ابنها الفقيد، وهو لحسن الحظ أو لسوئه (لا ندري)، الوحيد في ذرية الطاروف الذي جاء ذكرا، وبمرور الأيام ترق الجدة للحفيد تدريجيا، ومما ساعد على تطور العلاقة هي "خوله" اخت "خوسيه" من أبيه التي مثلت له طوق النجاة، فكانت الجسر الذي التقى فوقه الحفيد وجدته لتنفرج احواله بعض الشي، إلا أنه في كل الأحوال كان معزولا عن الأسرة، لا يسمح له بحضور حفلاتهم، كما يقضي جل وقته ومناسباته وحيدا.
فالنبتة غير قادرة على الثبات في التربة مهما ارتوت بالماء، لكن الأحداث التالية كانت تحمل له بؤسا، كما بدأت. فقد انتشر الخبر الذي حرصت الأسرة وكافحت من أجل اخفائه، وعرف الناس بأمر الحفيد "الفلبيني"؛ ليواجه مصير الطرد من جديد رغم بعض المقاومة اليائسة ومحاولته التمسك بوطن لم يشعر يوما أنه وطنه، حيث أقام فترة يعمل ويسكن مع صديقه حتى استسلم في النهاية.
عمل روائي يستحق القراءة والتأمل عمل الكاتب على تصوير الوعي الانساني بشكل عميق تصدى فيه لحقائق اجتماعية تزاحمت فيها احداث الرواية بين ازمنة وتحركت بها ما بين بيئتين جغرافيتين واجتماعيتين تحملان تناقضات واختلافات كبيرة.
"علاقتك بالاشياء مرهونة بمدى فهمك لها " جملة للكاتب الكويتي اسماعيل فهد اسماعيل استعارها لتكون بداية قبل الدخول الى تفاصيل الاحداث التي يستعيدها عيسى / خوسيه وهو يكتب سيرته في مسعى منه لفهم قسوة هذا العالم الذي لا يزال البشر فيه يقسّمون الى سادة وعبيد وفق قوانين واعراف اجتماعية ثقيلة مبتدأ باسمه خوسيه كما "يكتب وينطق به في الفلبين كما في الانكليزية وجوزيه في العربية كما في الاسبانية وفي البرتغالية بالحروف ذاتها يكتب ، ولكنه ينطق خوسيه .
أما هنا ،في الكويت ،فلا شأن لكل تلك الاسماء بأسمي حيث هو .. عيسى !.. كيف ولماذا ؟ هو لايعرف لأنه لم يختر اسمه ليعرف السبب ،كل مايعرفه أن "العالم كله قد اتفق على أن يختلف عليه! وهو يتمنى ـ بعد هذا النكران الذي قوبلت به هويته الانسانية ــ لو كان مثل شجرة البامبو،لا انتماء لها : "نقتطع جزءا من ساقها .. نغرسه بلا جذور، في أي أرض ..لا يلبث الساق حتى تنبت له جذور جديدة ..تنمو من جديد .. في أرض جديدة ..بلا ماض ..بلا ذاكرة .. لايلتفت إلى اختلاف الناس حول تسميته .. كاوايان في الفلبين ..خيزران في الكويت ..أو بامبو في أماكن أخرى ".
الحكاية حافلة بتفصيلات واحداث وازمنة وتنوع في تقنيات الكتابة أنتجت عملا يمثل تجربة انسانية أعتمدت على أحداث وتواريخ موضوعية، والرواية في هذا النموذج بمثابة المنطقة التي يقابِل فيها الوهم في شكل معتقدات موروثة والواقع والظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تكوّن الاساس لتلك القلاع في الهواء .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟