الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نساء على خط النار

ندى الخوّام

2016 / 3 / 20
الادب والفن


إن تأمُرَ قلمك لشدِّ رِحالِهِ نَحوَ رِحْلَةٍ شاقَّةٍ للتنقيبِ بذاكرتِهِنَّ المُوجَعة المحشوة بمشاهد الرعب ورصاصات التهديد طيلة عقد من السنوات، لتُعيد بقرارك الزَّمَنَ إلى الوراءِ بقرعَ طُبولَ فُضُولِك وإصرارِك بِكشفِ السِّتارِ عَن جِراحٍ ظنَّها أصحابُها أنها قدْ دَخَلَتْ غيبوبةً عبرَ الزمانِ، لتوثِّقَ سِيَرَ نُسوةٍ أنَّثْنَ المَكانَ والزمانَ والمعركةَ على حدٍ سواءٍ بصلابَتِهِنَّ وعِنادِهِنَّ وإصرارِهِنَّ على المواجهةِ والبقاءِ؛ يَكتُبْنَ حِكايةَ وطنٍ صارَع، وبِكلِّ الطُرقِ، عشرية مِنَ الدَّمارِ والقَتْلِ والانتهاكِ والاغْتصاباتِ الرُّوحِيةِ والفِكريةِ والجَسَديةِ، في خِضَمِّ مَا أُطلِقَ عليها بــ(العُشرِيةِ السَّودَاءِ)؛ لهُوَ عَمَلٌ رِساليٌّ لا يَخوضُ بِهِ إلَّا مَنْ يَمتَلِكُ إصرارَ وعنادَ الصحفيةِ (زهيَّة منصر)، التي قدَّمَتْ مُؤلَفِها (على خط النار) إلى الأجيال التي ورِثَتْ مُخَالَفاتِ تِلْكَ العُشرِيةِ وناقَضَتْ أحلامَهُمْ باسْتِمْرارِ الحياةِ المَدَنِيةِ الهانِئَةِ في رُبًوعِ البلاد.
مأساةٌ وثَّقَهَا التاريخُ، وخَزَنَتْها الذَّاكِرَةُ وكَتَبَتَها أنَامِلُ المُحبين لِقَولِ الحَقِيقَةِ وبيانِها، حشدٌ منَ صورِ الانفجَاراتِ واخبارِ القتلِ والدخانِ والأشلاءِ المقَطَّعَةِ تَنْفِيذاً لأحكامِ التياراتِ الإرهابيةِ التي عاثت فسادا بمفاصل الحياةِ فِي الجَزائرِ وأصدَرَتْ قراراتِها بالحُكْمِ عَلى كُلِّ مُخالفٍ لها بالإلحادِ وشرَّعَتْ قَتْلَهُ، ولمْ ينْفَذِ الصُحَفيونَ مِنْ الحُكمِ عليهمْ بالخَوَنَةِ والمُلْحِدِينَ؛ فهُم فَرِيسةٌ مطاردةٌ مِن قِبلِ أنيابِ الإرْهابِ الأَسْوَدِ بِكُلِّ ما يَحْمِلُ مِنْ مَعنىً لِلظلامِ والسَوْداويةِ التي خزَنَتْها ذاكرتُهُنَّ فكانَتْ أعيُنُهنَّ كامِيرا مُتَنَقِّلةً تصطادُ الكوارِثَ ومناظرَ الدمَارِ، وآذانُهُنَّ وعاءً تَشَرَبَ بأصواتِ استغاثاتِ الأبرياءِ وزَهقِ الأرواحِ، وحقائبُهُنَّ ألغاماً مؤقتةَ الانفجارِ وهُنَّ يُخَبِّئْنَ تَحْتَها عُدَّةَ التَخَفِّي للنجاةِ مِنْ رَصاصَاتٍ ليستْ بطائشةٍ ابداً؛ تُحاوِلُ أن تَكتُبَ تاريخَ رحِيلِهِنَّ مِثْلَمَا كَتَبَتْ تاريخَ رحيلِ زملاءِ مِهْنَتِهِنَّ، النُسوةُ اللواتِي كَتَبْنَ تاريخَ الجَزائِرِ الحدِيثِ في أوجِّ انتشارِ المِحنَةِ والتأزُّمِ الأمنِيِّ الذي عصفَ بالبلادِ آنَذاك.
ثلاثةُ أيامٍ قَضَيتُها مَع ضيفاتِ (زهية منصر) وهنَّ يَسْرِدْنَ كمَّ الوجعِ اللامتناهي، فليسَ منَ السَّهلِ أنْ تَفتَحَ أبواباً على ذاكرةِ الألَمِ في محاولةٍ لتَوثِيقِ مَا يَدورُ بِها مِن صُورٍ متناقضةٍ جَمَعَتْ بينَ التَّحَدي والخَوفِ، العِنادِ والإصرارِ والحَذَرِ، الدمعِ والسخريةِ من قدرٍ كادَ يُصيبُ هَدفَهُ، الجريِ وراءَ الخَبَرِ ووراءَ الاسماءِ وتَشييعِ الصناديقِ، والثباتُ لخلقِ الحياةِ من جديدٍ مهما كانَ الثَّمَنْ.
كنت أقرأُ شهاداتِ صحفياتٍ جزائرياتٍ شقَقْنَ بأصابِعِهِنَّ وعِنَادِهِنَّ جُدرانَ المَوتِ وعبرنَ فَوقَهُ، اجتزنَ الصراطَ بقدرةٍ منَ السماءِ التي أصدَرَتْ قَرَارَها بِبَقَائِهِنَّ على قِيدِ الحياةِ، وبالتالي على قيدِ الجرحِ؛ الذي لم تَرْحَمْهُ صلابةُ امرأةٍ ورَثَتْ عِنادَهَا مِنْ أرضِها كـ(زهية منصر) فأصَرَّت على فتحهِ والتوغلُ بينَ خدوشِهِ وجَداولَ نَزيفِهِ، وهيَّ تُشاكِسُهُنَّ تارةً، وتَرمِي لَهُنَّ طُعْمَ الأسماءِ أو الامْكِنَةِ أو التواريخِ تارةً أخرى، ليروينَ لِقلَمِها مُسلسَلَ الرعبِ وما خلَّفَهُ مِن خَسائِرَ رُوحِيَّةٍ ومَادِّيَةٍ، بالدمعٍ والانهيارِ كما فعلتْ (زهية بن عروس)، أو بالتَخَفِّي ورَاءَ صُمُودِهِنَّ كـ(زهرة فرحاتي) وكثيراتٍ مِنْهُنَّ، فَقَطْ لِأنَّ رَغبَةَ الإرْهَابِ كانَتْ تُراهِنُ عَلى قُدْرَتِها بزجِّ الجزائرَ إلى كهوفِ الظَّلامِ ونَجَحَتْ بِذلِكَ فِي خِضَمِّ عَشرِ سنواتٍ سوداءَ، لم تزَلْ بَعضُ آثارِها تَدُورُ في أرضِ (الدزاير) كما يَرُوقُ لأهلها تَسمِيتها، لكنَّ التَّحدي والعِنادَ والطموحَ بعشقِ الأرضِ ومِهنةِ المَتَاعِبِ كانَ بالمِرْصَادِ.
(على خطِّ النَارِ) مؤلَفٌ أنتَجَتْهُ أنامِلُ الصُّحفيةِ والكاتبةِ (زهية منصر)، البنتُ التي لم تفارقْ ذاكرتَها صورُ الحربِ ومخالفاتِها وملامِحَ منْ كانُوا وقودَها، تمتلكُ الكاتبةُ لغةً سرديةً سلسةً وعفويةً، مضمِرةً بالكثيرِ مِمَّا لَمْ تقُلْه بعد، أرى أنَّ الكاتبةَ تَتَعاطى بسجيَّتِها مَعَ الورقِ والكَلِماتِ دونما تَصنُّعٍ أو خيانةٍ للسردِ، وبالتالي دون خيانة للحقيقة ودون خيانة لنفسك العبارةُ التي قرأتُها بينَ صَفحاتِ خَطِّ النَّارِ، "خيانةٌ أنْ تخونَ نفسكَ"
ولا ننْسى أنَّ البِدايةَ بأيِّ عَملٍ قَد تَبدو صَعبَةً وشاقةً؛ لكِنَّ العِبرةَ بالخواتيمِ كَما يُقال، لِهذا صاغَتْ (زهية منصر) خَواتِيمَ حكاياتِ ضَيفَاتِها في سطورٍ كَانَتْ بِمثابةِ قُصصٍ قَصيِرةٍ تحكي بِها الكاتبةُ نزقَ عقدٍ مِن مُسلسلِ الرَّعبِ.
(زهية منصر) ابنة الأرضِ والكلمةِ، صحفيةٌ منَ الرُّخامِ، عَنِيدةٌ كَجبالِ جَرجَرَة، تتعاملُ معَ الواقعِ بوَجَعٍ سَاخرٍ، ثابتةُ الخُطَى وثَاقِبةُ النَّظَر، رَصَدَتْ يَدَ العُنفِ المُوجَّهِ صوبَ زُمَلاءِ مِهْنَتِها وهيَّ الطفلةُ العَنِيدةُ التي طَالَما حَلِمَتْ بمُمارسةِ مهنةِ المتاعبِ، بجهدٍ شخصيٍّ قامَتْ تِلكَ الصُّحفيَّة بِجَمْعِ وتَوثِيقِ سِيرةٍ ذَاتيةٍ لِبَعْضِ ضَحَايَا العُنْفِ الإرهابيِّ ونِيرانِ (العشرية السوداء) فِي الجَزائِر، والتي امتَدَّتْ فِيمَا بَعدُ إلى أغْلَبِ البُلْدَانِ العَرَبيةِ بدايةً بِالعراقِ واسْتِمرارِها بالوُصُولِ إلى أبْعَدِ نُقْطَةٍ بحسبِ رَغباتِ السَّاسَةِ، وَقُوى الهيْمَنَةِ الكُبْرَى.
ثَلاثةَ عشرَ اسماً كلُّ اسمٍ منهن يَحمِلُ مَعَهُ حِكايةً أخَذَتْنا إلى أعماقِ الوَجَعِ، حَيثُ تَنِزُّ الرُّوحُ ويَحْتَضِرُ الوَطَنُ وتَخونُ اللغةُ في سردها ، بِتَوغُّلِ العُنْفُ الدَّمَوي والارهابُ إلى مَفاصِلَ كثيرةٍ مِنَ الحياةِ، بَلْ كادَ لا يَتْرُكُ مِرْفَقَاً مِنْها إلَّا وبصمَ أصابِعَهُ بدماءِ مَنْ هَانَتْ عَلَيهِم أرواحُهُمْ لِمُواجَهَةِ هذا النَّزَقِ الوَحْشِّيّ الذي تَمْتلكه كائناتٌ هي أبعدُ ما تَكُونُ عن البشريةِ؛ وإنْ كانَتْ بالهَيئَةِ تَدُلُّ على َذلِك، إذ كَانَ للإعلامِ حُصَّتُهُ الكُبْرى مِنْ بَراثِنِ هَذا العُنفِ الذي أباحَ قَتلَ الأقلامِ والحَناجِرَ الإعلامية الناقلةِ للحَقِيقَةِ، والعاملةِ سلطةً رابعةً من أجلِ أداءِ رِسَالَتِها الفَعَّالة والفَاعِلَة للفردِ والمجتمعِ . وهو مَا تُثْبِتُهُ (فاطمة رحماني) ضيفةُ الكاتبةِ قائلةً: لِهذا كانَ الصُّحَفِيُّونَ دائِمَا وَقُودَاً لِلمعارِكِ الذاهبةِ نَحوَ الحًريةِ.


ندى الخوّام / بيروت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة أسطورة الموسيقى والحائز على الأوسكار مرتين ريتشارد شيرم


.. نحتاج نهضة في التعليم تشارك فيها وزارات التعليم والثقافة وال




.. -الصحة لا تعدي ولكن المرض معدي-..كيف يرى الكاتب محمد سلماوي


.. كلمة أخيرة - في عيد ميلاده.. حوار مع الكاتب محمد سلماوي حول




.. لماذا تستمر وسائل الإعلام الغربية في تبني الرواية الإسرائيلي