الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فراشة .. قصة قصيرة

بهجت العبيدي البيبة

2016 / 3 / 24
الادب والفن


في حديقة غناء ينظر فراشة محلقة تهبط على زهرة متنقلة من زهرة إلى أخرى، تداعبه تلامس بجناحيها مقدمة أنفه، يظل ساكنا، يتمنى أن تسكن قليلا على وجهه، تتركه وتطير بعيدا، تغيب عن عينيه، يشعر بالوحدة، يجول بعينيه في المكان، تصل إلى أنفه رائحة زكية، يستنشقها مغمض العينين،  لا يدري كم من الزمن قد مر، يفتح عينيه يفتش عن الفراشة التي غادرته طائرة بعيدا، يلتفت يسرة ويمنة، يظهر على بعد حصان مرقط بألوان ثلاثة: الأبيض والأسود والأصفر الداكن، بشعر طويل يتدلى على الناحية اليسرى من عنقه الطويل، يقترب منه يسمع صهيله، يدنو أكثر مهرولا، يقف أمامه رافعا رأسه كما لو يود محادثته، يشعر بألفة غريبة تجاهه، يضع يده اليسرى على عنقه يمسح بها على شعره الناعم، يتحسس جسده، يمشي بيده على بطنه، ينهض من مكانه يبحث عن قطعة من السكر يريد أن يطعمه، يضع يده في جيبه، ليخرج منها كيسا حريريا، يفتحه، فتتحول قطع السكر بعد أن يلمسها إلى قطع من الماس يقدمها الحصان المرقط يعرض عنها، ويذهب بعيدا مسرعا، عكس ما جاء، فيختفي عن ناظريه بعدما دخل في شق صغير، انتابته الدهشة، كيف يدخل حصان بهذا الحجم في هذا الشق الصغير، يفرك عينيه ويفتحهما ثانية ليجد الشق وقد ضاق أكثر، يغمض عينيه ثانية، ويظل برهة ويفتحهما، وينظر صوب الشق الذي دخل إليه الحصان ذات الثلاثة ألوان، فلا يجد له أثرا.
يتذكر الفراشة ويبحث عنها فتفتح عينه على غراب يدور فوق شجرة كبيرة مورفة، ويرسل نعيقا، لم يستوحش صوته، بل يبعث فيه في نفسه حنينا لشيء لم يستطع تحديد كنهه، يهبط الغراب قليلا متجها ناحيته، يقترب منه مرسلا نعيقه، يحرك مكنونات نفسه، يجهد ذاكرته محاولا الوصول لكنه ذلك الحنين الذي يستشعره في نعيق الغراب الأبيض، الذي يدنو منه أكثر، يهبط بجواره، ينظر إلى منقاره، الذي يلمع بلون ذهبي مرسلا أشعة لم يستطع أن يتحمل قوتها، فيغمض عينيه قليلا، ثم يفتحها، ليجد الغراب الأبيض وقد التصق بقدمه، باعثا منقاره الذهبي يعبث بقدمه، فإذا برعشة تهز كل جسمه، رعشة تثمله لم يشعر بمثل تأثيرها في حياته، رعشة أبهجت كل ذرة في كيانه، تمنى لو استمرت طويلا، لكن سرعان ما غادره تأثيرها لتحل في نفسه حيرة، حينما بحث على الغراب الأبيض فلم يجد له أثرا.
يستنشق الهواء المعبق بروائح الزهور بعمق، ويخرج زفيرا هادئا مرسلا ناظريه صوب الشجرة الكبيرة التي كان يدور فوقها الغراب الأبيض ويتذكر الفراشة التي غادرته، فيعمل حدقتيه في كل اتجاه مفتشا عنها، تستعصي عليه رؤيتها، يدور برأسه في كل اتجاه، تخرج حمامة سوداء من بين قدميه، ينظر إليها فيجد منقارها معكوفا شديد السواد، ويلحظ عرجا في مشيتها البطيئة في محاولتها الابتعاد عنه، تجر ساقها الشمالية، ترفرف بجناحيها، فيبدو الأيسر بطيئا، تستمر في الابتعاد يرقبها بتأمل، يسكن في نفسه حزن مبهم، يعيده لماض في حياته، يستنهض ذاكرته ليتعرف على زمن هذا الحزن، يزداد غموضا، يلح على ذاكرته، متى كانت أول مرة يعتيرني ذلك الشعور، يعيد النظر للحمامة مهيضة الجناح، مكسورة الساق، فإذا بها تقترب من الشجرة الكبيرة، ترفع جناحيها، يخذلها الجناح الأيسر، يزداد حزنه، يكاد يتعرف على أول خيط لمعرفة أول مرة هاجمه هذا الحزن، يشعر بنور يملأ كيانه، يعاود النظر للحمامة التي تستنهض ريشها لتطير، تستمر في المحاولة، تقترب من مغادرة الأرض، تنجح في الارتفاع قليلا، يسعفها جناحها الأيسر، يرفرف في الهواء، تعلو قليلا فتتحول إلى فراشة، هي نفسها التي كان يبحث عنها، ينهض من مكانه مسرعا نحو الشجرة الكبيرة، ليجد في يده نايا، لم يكن قد عزف على هذه الآلة من قبل، فيضعها في فمه ليرسل أنينا تهتدي إليه الفراشة، التي تقترب منه، لتقف على مقدمة أنفه، فيحبس أنفاسه، حتى لا يتحرك شيء في جسده كي لا تهرب الفراشة ثانية بعيدا، يفتح عينيه، وينفض عنهما ستائر النوم، وينظر من النافذة، ليجد الشمس متوجهة في كبد السماء، ويجد فراشة لفظت أنفاسها بجانبه على السرير، فيذكر متى سكنه حزنه الدفين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش


.. -إيقاعات الحرية-.. احتفال عالمي بموسيقى الجاز




.. موسيقى الجاز.. جسر لنشر السلام وتقريب الثقافات بين الشعوب


.. الدكتور حسام درويش يكيل الاتهامات لأطروحات جورج صليبا الفكري




.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس