الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قُبْلَة .... قصة قصيرة

بهجت العبيدي البيبة

2016 / 3 / 27
الادب والفن


تغرق الشمس في محيط غيوم متلاطمة، تنذر السماء بقذائف من مطر يدوم أيام، يرسل البرق أشعته فتحيل ظلام الغيوم إلى نهار للحظات، ما تلبث قتامة العتمة تضرب بستائرها السوداء، تغيب ملامح النهار، لا يمكن تحديد أي وقت هذا منه، يتوشح الجبل بعباءة سوداء، يصل أذنيه خرفشة إثر وقع أقدام على العشب، يرهف سمعه محاولا تحديد ناحية صوت احتكاك القدم بالعشب، يدنو وقع الخطوات، تبدو حادة ينتابه خوف، يضاعف قتامة نفسه، يهجم على مخيلته مشهد لأسد يفتك بطفل رضيع، كانت أسرته قد ضلت الطريق في رحلة عزمت على قضائها في أحد أدغال الغابة، حينما أصاب السيارة عطب، فتعرضت لشراسة أسد لم يطب له إلا افتراس الرضيع، ليغادر الأبوين ما بين شعور النجاة والتهام فلذة الكبد.
تمنى لو فقد حاسة السمع، ساعتها سيواجه مصيره فجأة دون تعرض كل ذرة في كيانه للاحتراق كل لحظة، ليس هناك من سبيل لرؤية الخطر الداهم مرأى العين، التي أفقدها أفول الشمس في بحر غياهب الغيوم، لتقضي بالإعدام على حاسة النظر، لم يأته صوت وقع الأقدام، يرهف سمعه، لا يصل أذنيه خرفشة، ولا يسمع إلا صرير الهواء، يتملكه الخوف، تسري في جسده رعشة، لم يعد يسمع شيئا، هل فقد حاسة السمع؟ يصغي بقوة شديدة، لا تطرق أذنيه أي علامات لصوت، يفرقع بإصبعيه الإبهام والوسطى بجانب أذنه اليمنى، لا يسمع شيئا، ينتقل ليفعل الشيء نفسه أعلى أذنه اليسرى لا تأتيه أية إشارة سمعية، هل حقق الله أمنية خائف، ليزيده رعبا، تساءل.
تتسلل إلى أنفه رائحة كريهة، لقد اشتمها سابقا، متى؟ لا يدري، إنها تعيده إلى سنوات بعيدة من حياته، رائحة بغيضة، تشده إلى مجاهل الماضي السحيق، يجهد ذاكرته متسلقا منحنيات حياته، يلازمه الفشل، تنتشر الرائحة البغيضة، تهجم على نفسه الوَحْشَةُ، يمتلأ الجو ببشاعة الرائحة، تزكم أنفه تماما، يشعر بالاختناق، لم يعد لديه قدرة على التنفس، آه من تلك الحاسة اللعينة، قالها وأمسك بأنفه حتى يحد من تلك الرائحة الكريهة، يستمر في كتم أنفاسه بالضغط على أنفه، كادت تغادر روحه الجسد، يقيم ما بين ما تبعثة الرائحة من عذاب وبين الموت خنقا، وتحت ضغط الحاجة للتنفس، يرفع يده عن أنفه، يأخذ شهيقا عميقا، ويطرد زفيرا، يسترد بهما حياته، يعاود الشهيق والزفير، وبعد هنيهة يتذكر الرائحة التي لا يجد لها أثرا في أنفه، فلقد غادرت المكان، يتشمم محركا أرنبة أنفه، لا ينجح في الوصول لأية رائحة، أين وكيف تلاشت؟ يعيد التشمم كرات ومرات، يظل الفشل هو النتيجة، يتذكر زجاجة عطر صغيرة في ملابسة، يخرجها من جيبه، يقربها إلى أنفه، لا يشم عطرها، يفتح قنينة العطر ويسكب في يديه ما بداخلها، ويدنيها لأنفه، يلصقها بها، لا أثر لكيمياء العطر يداعب حاسة استشعار الأنف. هل تلاشت عندي حاسة الشم؟ يتساءل.التجارب المتوالية المتسارعة تؤكد ذلك.

نهار دامس، لا يرى فيه شيء، لا فرصة لمعرفة ما يدور من حولى، فالسمع قد صم، والشم قد تلاشى، يشعر بوخز في جلد بطنه من الناحية اليسرى، يحكه بيده اليمنى، لا يلبي الحكة، يستعصي عليها، يتمرد فيزداد شدة، يصوب أظافره ليزيد حك بطنه التي يحرقها الوخز، الذي كلما ازداد ضاعف الحك،  محاولا حصر سريانه في كل بطنه، دون جدوى، يضاعف الحك كَمّاً وقوة ليزداد الوخز هياجا ويسري في كل بطنه وساقيه لأسفل وصدره وعنقه لأعلى، يشتعل ظهره من وخز إبر مددبة  حادة، هكذا شعر، يستشعر سائلا بين أظافره وجلد أصابعه، لا شك أنه دم يسيل من جلده الملهتب، الألم يلهب كل جلده اشتعالا، لا طاقة له بهذا الألم الرهيب، الذي كلما مر الوقت زاده اشتعالا، آه ما السبيل التي تنجيه من هذه الآلام، وتلك العذابات، لو أفقد حاسة اللمس، هكذا طرأت على ذهنه الفكرة التي يحاول إبعادها بكل ما يستطيع من قوة، لم يعد لديه من الحواس إلا تلك التي تصليه العذاب الآن، يأبى أن يصبح جمادا، يتحول إلى شيء، تطارده الفكرة، يطاردها، يستمر في حك كل جسده بقوة، يقاسي آلام الوخز، وآلام النفس، يخطر له أن يتناسى الألم، يحاول أن يشغل نفسه، يفتش في ذاكرته، يستدعي مخيلته، يحثها، يرجوها، يتوسل إليها، في ذلك الظلام الدامس، وذاك الألم الرهيب، يتذكر قُبْلَةً عميقة جمعته بمحبوبة، لا يذكر وقتها، ولا مكانها، فقط طعمها، وثمالتها التي ملأت نفسه، يذوب فيها مغمض العينين، كانت مرة حينما ارتدنا السحاب، وعانقنا القمر، وحملتنا الرياح، وطفنا الفضاء، نعم كانت القبلة هناك في السديم، سار قليلا مسرنما، ثم وقع على الأرض مغشيا عليه، ليفيق بعد سويعات، ليفتح عينه فإذا بالشمس تبعث أشعتها مخترقة غيمة خفيفة، لتنعكس على سفح الجبل الذي تكسوه خضرة فتزيدها ينوعا، وتُلَأْلِئ ورود مزهرة، باعثة أريجا ينعش النفس، فينهض ويسير عدة أمتار ليدخل بيته الصغير المشيد فوق أعلى نقطة في سفح الجبل.
 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم


.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في




.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء


.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق




.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش