الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العبوديّة والحركة الإلغائية

أحمد شوقي

2016 / 3 / 27
حقوق الانسان



شهدت العقود الثلاثة السابقة للحرب الأهلية الأمريكية ولادة ونموّ حركة اجتماعية جماهيرية لأجل إلغاء العبودية. أصبحت الحركة الإلغائية هذه قوةً معتبرة في المجال السياسيّ الأمريكي وضمّت عشرات الآلاف من الأعضاء الفعّالين، وأثّرت الحركة في أعدادٍ أكبر وحرّكتهم. إنّ الحركة الإلغائية هذه لا تزال تصنّف كأحد أهم الحركات الاجتماعية التي مرّت على هذه البلاد. وهذا المقال لا يسعى لإعطاء تاريخٍ شامل للحركة في الولايات المتحدة، وإنما هدفه هو تسليط الضوء على بعض الصفات الرئيسية لهذه الحركة: نموّها الشاسع من حركةٍ هامشية لحركةٍ تشمل عشرات الآلاف، وتنوّعها السياسي المتمثّل في السجالات والمناهج المتنافسة داخل الحركة، وتسليط الضوء أيضًا على نقاط التقاءها وابتعادها عن موجات الانفصالية والراديكالية السوداء قبل وبعد الحرب الأهلية.

في سنينها الأولى، هُمِّشت الحركة الإلغائية وأستهزئ بها وهوجِمت. فمثلما أشار مايكل غولدفيلد: «في البداية، امتعض الناس من الحركة الإلغائية في كل أرجاء البلاد، وبالخصوص في نيو إنجلاند. رُجِموا وفُضّت اجتماعاتهم واعتُقِلوا وهُدِّدوا بالقتل». افتقر الإلغائيون للشعبية في كلٍ من الشمال والجنوب كما ذكر غولدفيلد: «دعنا ننظر أولًا لأقوى خصومهم. ليونارد ريتشاردس درسَ العصابات المعادية للإلغائيين في سينسيناتي أوهايو وأوتيكا ونيو يورك، مستنتجًا أنّ جماهير هذه العصابات تكوّنوا من التجّار وملّاك الأراضي، وفي ذلك اختلاف حاد مع تركيبة الإلغائيين في كلتا المدينتين». يذكر هيربرت آبثكر أنّ «أكثر المعارضين تكالبًا على الحركة الإلغائية كانوا من الأغنياء – ملّاك العبيد وأتباعهم، والتجّار وخدمهم، والشخصيات المهيمنة على السياسة والصحافة والكنائس والمدارس». مرّر المجلس التشريعي لأوهايو قانونًا يتّهم الإلغائيين بكونهم «همجيين، مخادعين، ومتطرفين». ومع ذلك، بحلول 1848 قدّر أحد الإلغائيين وجود أكثر من 1400 جمعية مناهضة للعبودية، تحتوي 112،000 عضوًا على الأقل. وكرّس آلاف الناشطين من السود والبيض حياتهم لمحو العبودية.


كانت الحركة الإلغائية هذه التي بدأت بالتشكّل في ثلاثينات القرن التاسع عشر مختلفةً جدًا عن سابقاتها. كان الجيل السابق من الإلغائيين محافظًا ومرتبكًا سياسيًا. في 1827 كان هنالك أربعة وعشرون جمعيّةٍ إلغائيّ بعضوية تقارب الألف والخمس مئة في الولايات الحرّة، وفي ولايات الاستعباد كان هنالك 130 جمعية بأعضاءٍ عددهم 6625. أشار بنجامين كوارليس لكون «هؤلاء الإلغائيين السابقين ذو ميولٍ دينيّة ونبرةٍ معتدلة استرضائية…ونظرةٍ استعمارية. وفي فروع الجنوب الاستعباديّ، اعتمد هؤلاء الإصلاحيون في صفوفهم على حصر عضوية الجمعيات على الرجال ذوي نفوذ والمكانة عالية اجتماعيًا. ولم يُسمح للزنوج والنساء بالانضمام لجمعيّاتهم».

آمن الإلغائيون الأوائل أن العبودية ستختفي تدريجيًا من تلقاء نفسها، حيث كتب كوارليس بشأن ذلك: «مع وجود استثناءاتٍ نادرة…كان الإلغائيون الأوائل هؤلاء تدريجيّين، واثقين مما رأوه كعملية حتمية للمبادئ الدينية والمساواتيّة وشعروا أن العبودية لن تُلغى بين ليلةٍ وضحاها بل أنها ستختفي بالتأكيد مع الوقت». علاوة على ذلك، لم يكن الجيل السابق من الإلغائيين معاديًا بشكلٍ صريح لملّاك العبيد في الجنوب وكثيرًا ما صاغوا مطالبهم ووجهوها مستشهدين بمصالح ملّاك العبيد الخاصة ومستندين عليها كحجج.

يحدّد العديد من المؤرخين بداية الحركة الإلغائية الحديثة لنشر جريدة «لبيريتر» (المُحرِّر) لوليام لويد غاريسون عامَ 1831. وخلافًا للإلغائيين السابقين، دعى غاريسون للإلغاء المباشر للعبودية. أشارت الطبعة الأولى من جريدة غاريسون بوضوح نهجها في النضال ضد العبودية: «سأكون قاسيًا كالحقيقة، وغير مساومٍ كالعدالة. وفي هذا الشأن، لا أنوي أن أفكّر أو أتحدّث أو أكتب باعتدال…أنا، وبكل إخلاص، لن أراوغ ولن أعتذر ولن أتراجع إنشًا واحدًا. وسأُسمَع».

بالإضافة لجريدة «لبيريتر»، أنشأ غاريسون «جمعية نيو إنجلاند المناهضة للعبودية» في عام 1832. حضر اثنا عشر شخص كلّهم بيض للّقاء التأسيسي وأعلنوا أنّ هدف المنظمة هذه هو إلغاء العبودية وتحسين الأوضاء الاقتصادية لسود الشمال. في ديسمبر 1833، أنشأ غاريسون ومعه ستّون من الإلغائيين «الجمعية الأمريكية المناهضة للعبودية في فيلادلفيا».

نمى تأثير الحركة الإلغائية، ونمى معها عدد التفرعّات في وسط الحركة. منذ بدايتها تقريبًا، انشطرت الحركة الإلغائية لجناحٍ تدريجيّ وجناح نضاليّ. فرّق بين الإلغائيين قضيتان: الأولى هي مسألة السماح بعضوية السود في جمعيات الإلغاء والثانية هي المناداة بـ«المساواة الاجتماعية» مع السود (أي: مسألة ما إذا كان على الحركة أن تتجاوز مجرد الدعوة لإلغاء العبودية لاعتناق المساواة بين السود والبيض في كل مناحي الحياة). وانقسم الجناح الحركة الإلغائية النضاليّ في داخله على عدة مسائل، من ضمنها مسألة دور النساء في الحركة الإلغائية والعلاقة بين الإلغائيين ونقابات العمّال، ومسألة استخدام القوة أم «لإقناع الأخلاقي»، واقتراحات هجرة السود. من بين كل هذه المسائل، سنناقش آخر مسألتين بالتفصيل هنا.

وصل الجدل حول «الإقناع الأخلاقي» مقابل القوّة ذروته في هجوم جون براون سنة 1859 على مستودع الأسلحة الفدرالي في هرابرز فيري. من جهة كان في الحركة الإلغائية من أصرّوا على أنّ حملاتٍ التوعية ضرورية لإقناع السياسيين – وفي بعض الحالات، حتى ملّاك العبيد أنفسهم – بإلغاء العبودية. ومن جهةٍ أخرى في هذا الجدل كان هنالك أمثال براون الذين آمنوا أنّ النضال هو الطريق الوحيد لإسقاط العبودية.

دور الإلغائيين السود

مع أن إسهام غاريسون و«الجمعية الأمريكية المناهضة للعبودية» لـ«الجيل الثاني» من الإلغائيين كان جوهريًا، أظنّ بأنه من الأصحّ أن نعطي الدور المحوريّ لديفيد ووكر الذي نشر «المناشدة» عام 1829، وهي سلسلة مقالات مناهضة للعبودية. كان ووكر تاجر ملابس في بوستن ووكيلًا لـ«صحيفة الحرّية» وهي أول جريدة للسود في الولايات المتحدة. تضمنت كتاباته العديد من المواضيع التي تطورت لاحقًا عند المثقفين السود في القرن التاسع عشر. كتب ووكر: «نحن أشدّ الكائنات التي عاشت منذ بداية العالم مهانة، وأكثرهم بؤسًا وذلًّا». واستهدف ووكر البِيض من أمثال توماس جيفرسون الذين تحدّثوا ضد العبودية ولكن كانوا هم أنفسهم ملّاكًا للعبيد ومقرّين بأن السود أدنى من البِيض:


لا يجب أن ندع أحدًا منّا يفترض أن التفنيدات التي كتبها أصدقاؤنا البِيض كافية – فهم بيض ونحن سود. نحن – والعالم – نريد أن نرى ادّعاءات السيد جيفرسون وهي تُدحض من السود أنفسهم، ووِفقًا لإمكانياتهم، فنحن يجب أن نتذكر أنّ ما كتبه البِيض عن هذا الموضوع، هي كتابات رجالٍ آخرين، ولم تصدر عن السود أنفسهم.

شخّص ووكر أربعة عوامل تفسّر وضع السود في أمريكا: الاستعباد والجهل و«المبشّرون بالمسيح عيسى» وتأثير «الجمعية الأمريكية الاستعمارية» – وهي منظمة مكونه من البِيض سعت لإعادة السود لأفريقيا. جادل ووكر أنّ على السود أن يقاتلوا من أجل حقوقهم الاقتصادية والسياسية في الولايات المتحدة وبالتالي عليهم معارضة مخططات الهجرة، وقال بذلك الشأن:


لا تدعوا رجلًا منّا يتراجع خطوةً واحدة، وإن أتى ملّاك العبيد يضربوننا محاولين إخراجنا من بلادنا. أمريكا هي بلادنا أكثر مما هي بلاد البِيض…إن أعظم الثروات في أمريكا كلّها قد نشأت من دمنا ودموعنا – فهل سيأتون لإخراجنا من ممتلكاتنا ومنازلنا التي كسبناها بدمائنا؟.

مات ووكر في أغسطس 1830، بعد فترة قصيرة من إصداره العدد الثالث من «المناشدة». وُجِدت نُسخٌ من أطروحته في جورجيا وفيرجينيا ولويزيانا. مع أنّ حياته المهنية العامّة كانت قصيرة، كان تأثيره ضخمًا، فكان السود أكثر الداعمين استمرارًا للحركة الإلغائية، وكان للسود وزنٌ في كلّ المسائل الرئيسية المناقشة أعلاه. ولكنّهم جاؤوا أيضًا بنظرةٍ معيّنة حول مسألة العلاقة بين السود والبيض في الحركة وموقف الحركة تجاه الهجرة لأفريقيا.

كان هنري هايلاند غارنيت وهو إلغائيٌ أسود أيضًا متأثرًا بشكلٍ كبير بأفكار ووكر. فقد وُلدِ عبدًا في مريلاند سنة 1816 وهرب مع عائلته لمدينة نيو يورك. كان خطاب غارنيت لـ«مؤتمر الزنوج الوطني» القائم في بافلو، نيو يورك سنة 1843 صدىً لمواقف ووكر:


انهضوا إخوتي، انهضوا! أضرِبوا من أجل حياتكم وحريّاتكم. فقد أتى اليوم وحانت الساعة. دعوا كلّ عبدٍ في أرجاءِ هذه الأرض يُضرِب أيضًا، وبذا ستصبح أيام العبودية معدودة. فلا يمكن أن تُظلموا أكثر مما ظُلِمتم – ولا يمكن أن تعانوا من وحشيّةٍ أكبر مما عانيتم. فموتنا أحرارًا خير لنا من أن نعيش عبيدًا. تذكّروا أنكم أربعة ملايين!…دعوا شعاركم يكن المقاومة! المقاومة! المقاومة!

ومثل ووكر، أكّد غارنيت على مقاومة السود للعبودية. رسمت نظرته السياسية نسخةً مصغرة للأسئلة الرئيسية التي واجهتها الحركة، وساعد على طرح الجدل القائم بين الإلغائيين السود بالنسبة لمسألة الإقناع الأخلاقي والمقاومة المسلحة. اعترض غارنيت بدايةً – كبقية القوميين السود الذين أتوا من بعده – على خطط التفرقة كاقتراح الهجرة لأفريقيا. شرح غارنيت موفقه في 1848: «أمريكا هي وطني وبلادي وليس لديّ أيُ وطنٍ آخر». ولكنّ غارنيت غيّر موقفه تجاه الهجرة – كما فعل الكثيرون من الإلغائيين السود – بعد عام 1850.

يُعتبر نصّ مارتن آر ديلاني بعنوان «وضع وارتفاع وإعلاء ومصير الأناس الملونين في الولايات المتحدة» أول بيانٍ للقومية السوداء في الولايات المتحدة جاعلًا من ديلاني «الأب المؤسس للقومية السوداء». تضمّن نشاط ديلاني السياسي المبكر مهمته في 1846 كمحرّر لجريدة فريدريك دوغلاس الإلغائية «النجم الشمالي» وتضمّن نشاطُه معارضة حماسية للجمعية الأمريكية الاستعمارية. اشترت الجمعية الأمريكية الاستعمارية – بدعمٍ من الكونغرس بمقدار 100،000$ في 1819 – قطعة أرضٍ عرضها ثلاثة أميال وطولها 36 ميلًا على الشاطئ الغربي لأفريقيا. سُمِّيت هذه الأرض بـ«ليبيريا» – وسُمّيت عاصمتها بـ«مونروفيا»، على شرفِ الرئيس الأمريكي آنذاك جيمس مونرو. ولكن، مع الإقرار بـ«قانون هرب الرقيق» لسنة 1850، الذي أعطى ملّاك الرقيق الحق في استرداد عبيدهم الهاربين حتّى في الولايات والمناطق الحرّة، أصبح ديلاني متشائمًا جدًا بشأن إمكانية التعايش مع البيض أو حتى بإمكانية إلغاء العبودية نفسها. صنع القانون هذا قوةً من المُفوّضين الفيدراليين المخولين بمطاردة الرقيق الهاربين في أيّ ولاية وإعادتهم لملّاكهم، ولم يكن هنالك أيّة حدودٍ لذلك، فحتى العبيد الذين عاشوا أحرارًا لسنواتٍ عديدةً بالإمكان إرجاعهم، وقد حصل ذلك فعلًا.

«نحن نحبّ بلادنا،» كتب ديلاني في 1852، «نحبّها بشغف، ولكنّها لا تحبّنا – إنها تحتقرنا، وتتمنى رحيلنا، مُبعدةً إيّانا عن أحضانها». وبنفس النبرة كتب ديلاني لويليام لويد غاريسون: «أنا لست أؤيد تطييف أو تفرقة أخوية البشرية، وأنا مستعدٌ للعيش مع البيض كرجلٍ أسود، فقط إن كان لديّ امتلاكٌ واستمتاعٌ مساوٍ بالامتيازات؛ ولكنّي لن آلف العيش بينهم، خانعًا لإرادتهم القائمة على تكبدّنا لها، فذلك ما يفعله الملوّنون في هذه البلاد».

أصبح ديلاني أعلى الداعين للهجرة صوتًا ما بين الإلغائيين السود، واستمر في معارضة محاولة لجمعية الاستعمارية لاستعمار ليبيريا التي أشار إليها ديلاني كـ«مهزلةٍ سيئةٍ بائسة – أضحوكةٌ تُسمّى حكومة»، وجادل عِوضًا عن ذلك من أجل الاستيطان في مناطق في النصف الغربي للكرة الأرضية متضمنًا مناطقًا مثل كندا وجزر الهند الغربية وأمريكا الوسطى والجنوبية.

وتجاوز ديلاني غارنيت في تطوير منهجٍ قوميّ أسود وفي أهداف الحركة. وجادلَ في «مؤتمر الهجرة الوطني» سنة 1854 (وهو نتاج حركة المؤتمر الزنجي المؤيدة للهجرة، التي تمّ تأسيسها سنة 1817):


يجب أن نفهم أنه كمبدئٍ أساسيّ للاقتصاد السياسي من غير الممكن لأناسٍ أن يعيشوا أحرارًا ما داموا لا يشكّلون جزءًا أساسيًا من العناصر الحاكمة للبلد الذي يعيشون فيه…إن حريّة أيّ إنسانٍ غير مضمونة ما دام غير مسيطرٍ على مصيرهِ السياسيّ…إنّ على الناس إن أرادوا أن يعيشوا أحرارًا أن يكونوا حكّام أنفسهم: وذلك يعني أنه على كلّ فرد أن يجسّد، هو في نفسه، المكوّن الرئيسي – إن صحّ التعبير – للمبدأ الحاكم الذي يشكّل الأساس الحقيقي لحريّته.

جادل ديلاني أنّ الصراع لأجل حريّة السود لم يكن «مسألةً كونِ الأغنياء ضدّ الفقراء، أو العامّة ضدّ الطبقات العليا»، أي أنّه لم يكن صراعًا طبقيًا، «وإنما هو مسألة البيض ضدّ السود – فكلّ فردٍ أبيض يُعتبر عن طريق القانون بمكانةٍ أعلى من الفردِ الأسود أو الملوّن».

إن دعوة ديلاني لعتقِ السّود هدِفت لتكوين نخبةٍ سوداء تستبدل مجتمعًا يحكمه البيض، مبّشرًا بالمناشدات ذات الطابع الذي عُرِف بها بوكر تي واشنطن لاحقًا، حيث جادل ديلاني قائلًا: «دعوا شبابنا وشابّاتِنا يجهّزوا أنفسهم ليكونوا ذوي فائدة، وجهّزوهم للتجارة وأمورٍ أخرى ذات أهمية…علّموهم من أجل العمل في الدكّان والمنزل الريفي…ليقوموا بالنشاطات العمليّة اليومية». وبحلولِ 1860، أصبح هِتافُ ديلاني هو: «أفريقيا من أجل الأفارقة».

وكان ديلاني مدركًا أن أيّ استعمارٍ لأفريقيا سيتطلب مساعدة أو دعم أحد «القوى العظمى». طمح ديلاني للحصول على دعم بريطانيا وفرنسا لأجل مشروع الاستعمار. «سيعيّن المجلس الوطني مفوضًا خاصًا أو اثنين لإنجلترا وفرنسا لاستجداء…الدعم والتجهيزات اللازمة». فأفريقيا على كلّ حال – جادلَ ديلاني –جاهزةٌ للاستعمار: «الأرض أرضنا – فها هي هناك بموارد لا تنضب؛ دعونا نذهب هناك لنستحوذ عليها».

دوغلاس والإلغائية الراديكالية

لقد كان فريدريك دوغلاس الإلغائيَ الأسود الأبرز في هذه الفترة. ربط دوغلاس أكثر من أيّ إلغائيٍ آخر في تلك الفترة النضال المناهض للعبودية مع النضال العام ضدّ الاضطهاد بكلّ أشكاله؛ وخلافًا لدعاة الهجرة، رأى دوغلاس نضال السود كنضالٍ مغروس في الولايات المتحدة.

وُلِد دوغلاس عبدًا في عام 1817. وفي عامه السادس عشر، كما يذكر في سيرته الذاتية، قاوم جلَد مشرف المزرعة. «لقد أصبحت كائنًا مختلفًا بعد ذلك العراك»، كتب دوغلاس. «وصلتُ لمرحلةٍ لم أعد أخاف الموت فيها. جعلتني هذه الروح حرًا في الواقع، وإن كنت لا زلت عبدًا في الشكل. فإن كان العبد لا يمكن جلده، فقد اكتسب أكثر من نصف حريّته». هرب دوغلاس عام 1838 وسرعان ما أصبح نشطًا في مجموعة ويليام لويد غاريسون الإلغائية. وخلال العشر سنوات التي تلت أصبح دوغلاس أشهر إلغائيٍّ أسود في الولايات المتحدة. وخلال تلك الفترة، اصطفّ إلى جانب غاريسون تمامًا في أغلب المسائل. واعترض – مثلما اعترض غاريسون – بشدّة على دعوة هنري غارنيت للتمرّد عام 1843، محتجًا على كونها لن تنتهي إلّا بكارثة، واعترض أيضًا على كلّ خطط الهجرة. متّبعًا خطى غاريسون، جادل دوغلاس أنّه لكون الدستورِ الأمريكي وثيقةٌ مؤيدة للعبودية ذلك يعني أن أيّ شَغلٍ للمناصب العامة أو المشاركة في النشاطات الانتخابية أمرٌ غير أخلاقي ومكرِّس للعبودية ذاتها.

ومع ذلك فقد كانت نشأت خلافاتٌ بين غاريسون ودوغلاس. في عام 1847 بدأ دوغلاس نشر صحيفته الخاصة «نجم الشمال» رُغم اعتراضات غاريسون. جادل دوغلاس «أن الرجل الذي عانى من الجُرمِ هو الرجل الذي يجب أن يطالب بالإنصاف»، و«إن الرجل الذي تحمّل الآلام الوحشيّة للعبودية هو الرجال الذي يجب أن يطالب بالحريّة». ونشأت اختلافات أخرى ذاتُ أهميّة، فقد بدأ دوغلاس بإعادةِ تقييم عقيدةِ غاريسون الإلغائية. وبدأ بعد ذلك بقليل برفض إمكانيّة المقاومة اللاعُنفية على إنهاء العبودية. وخاطبَ جمهورًا في بوستن عام 1849 بأنه «سيرحّب بخبرِ الغد – إن أتى – عن كون العبيد قد انتفضوا في الجنوب، وأن الأيادي السوداء التي شاركت في تجميل وتزيين الجنوب، تشاركُ الآن في نشر الموت والخراب هناك». وقام دوغلاس أيضًا برفض بعض آراء غاريسون حول السياسة والنشاط السياسي. عوضًا عن الرفض التام للنشاط السياسي الذي دعى له غارسون، بدأ دوغلاس بالنظر للعمل السياسي كساحة للنشاط في الحراك الإلغائي، واصفًا هذه النشاط كـ«طريقٍ قويٍ وشرعيّ لإلغاء العبودية». واقعًا، بدأ دوغلاس بالإيمان بأن النشاط السياسي ضروري وأن الحكومة الفدرالية مسؤولة عن محو العبودية وبدأ بالجدال ضد شعارِ غاريسون القائل بأنه «لا اتّحاد مع [ولايات] ملّاك العبيد». حاجج دوغلاس أن دفعَ الإلغائيين تجاه الانفصال عن ولايات العبودية سيجرّد العبيد من حلفائهم وستستمرّ العبودية حتى وإن غسل الشمال يده منها. وحتى عام 1849، ادّعى دوغلاس أنه موالٍ لعقيدةِ غاريسون، ولكن بحلول ذلك الوقت أصبح من الواضح أنه بدأ بالتخلص من بعض قيود سياسات غاريسون. وفي 1851، صرّح علنًا خلال مؤتمر جمعية مناهضة العبودية السنويّ بانفصاله عن غاريسون في عدّة مسائل رئيسية.

وسّعَ دوغلاس تحليله حول استخدام العنصرية لتفرقة البيض عن السود في الجنوب الاستعبادي ليشمل الشمال أيضًا. كان غاريسون وأغلب أتباعه الرئيسيين من الطبقة المتوسطة العليا في الشمال وقد عكسوا نظرة طبقتهم، وآراؤهم النخبوية لم تترك مجالًا لنقدٍ أوسع للمجتمع الأمريكي، فكيف بالتعاطف مع العمّال ومنظمّاتهم. وعلى العكس منهم، أدرك دوغلاس الدينامية الطبقية للعنصرية في المجتمع الأمريكي، فقال: «كان الرجل الأبيض العامل الفقير عبدًا بمقدارٍ مقاربِ للعبد الأسود نفسه. ما أُخِذ من العبد الأبيض بشكلٍ غير مباشر أُخِذ من العبد الأسود بشكلٍ مباشرة وبدون رسميّات. لقد نُهِبا، والناهِبُ هو ذاته».

مع أن دوغلاس كان واهمًا بعض الشيء بشأن الجمهورياتية، فهو لم يشارك أيًّا من تبجيليّات غاريسون للمجتمع الشماليّ، ولم يكن متعاطفًا البتّه مثله مع فاحشي الثراء ورأى بوضوح أن الشمّال متواطئٌ في عبوديّة الجنوب. وقد بيّن القضيّة بحزمٍ شديد في خطابٍ له في عيد الاستقلال، الرابع من يوليو، ألقاه سنة 1852:


ما هو الرابع مِن يوليو بالنسبة للعبدِ الأمريكي؟ أنا أجيب قائلًا: هو يومٌ يكشِف له أكثر من أيّ يومٍ في السنة الظُلمَ والوحشيّة الفظيعين، حيث كان هو ضحيّتهما دائمًا. فبالنسبة له، احتفالكم هذا زائف: فحريتكم التي تتبجّحون بها ورخصتكم الشيطانيّة وعظمتكم الوطنيّة كلّها غطرسة متضخمة، وأصوات فرحِكم فارغة ومتحجّرة المشاعر، واستنكاركم للطُغاة وقاحةٌ مخزية، وصرخاتكم لأجل الحرية والمساواة مهزلةٌ جوفاء، وأدعيتكم وترنيماتكم ومواعظكم وأعياد شُكرِكم، مع مواكبكم وإجلالاتكم الدينية كلّها هي بالنسبة له مجرد كلامٍ منمّق واحتيالٍ وخداعٍ ومعصيةٍ ونفاق – غطاءٌ رفيع لإخفاء جرائمٍ ستخزي حتى أمّةً من الهمجيين. فليست هنالك أمّةٌ على وجه الأرض مذنبةٌ بأعمالٍ أكثر ترويعًا ودمويّة مما يقوم به شعب الولايات المتحدة في هذه الساعة ذاتها.

استنكار دوغلاس لنفاق «ديموقراطية» الولايات المتحدة لم تدفعه للتحالف مع القوى الداعمة للهجرة (الهجرويّين) كحلٍ لمشكلتيّ العبودية والعنصرية. اعترض دوغلاس على فكرة الهجرويّة واعترض أيضًا على تركيزِ غارنيت وديلاني على العِرق. قال دوغلاس يومًا أنه شكرَ الله على خلقِه إنسانًا، بينمًا شكر ديلاني الله على خلقِه إنسانًا أسود. اعتقد دوغلاس أن العبودية كانت انحرافًا عن التقاليد الثوريّة التي بُنيَت عليها الولايات المتحدة، وكانت لديه أوهامٌ حول ما بإمكانه تحقيقه في ظلّ الديموقراطية البرجوازية. عمِل في عددٍ من الناصب الحكومة بعد الحرب الأهلية حتى أثناء تراجع الحكومة الأمريكية عن منح السود مواطنةً كاملة. ولكن في السنين السابقة للحرب الأهلية، كانت سياسته متوافقة وواضحة بشكلٍ أكبر نوعًا ما من سياسات القوميين السود الأوائل.

هذا العرض القصير للجدل الذي دار في وسط الحركة الإلغائية، وبالتحديد بين الإلغائيين السود، يتيح لنا أن نقدّم العديد من الملاحظات عن طبيعة نضال السود والقومية السوداء. فهذه المواضيع ستتكرر خلال القرن الذي تلي في حركاتٍ متتالية لأجل حقوق السود المدنيّة. أولًا، أن الطرق السياسية التي اتخذها كلٌ من غارنيت وديلاني برهنا أن القومية السوداء لم تكن في المقام الأول انعكاسًا لطموحاتهم الرئيسية أو انعكاسًا لأي قاعدة ماديّة لأمّةٍ سوداء، وإنما تبّنيهم للانفصاليّة كان رد فعلٍ للعنصرية البيضاء. فحين بدت احتماليّة الوِحدة بين السود والبيض ممكنة لمحاربة العنصرية، كما كان الأمر عليه في عهدِ الحرب الأهلية، تركَ كلٌ منهما مواقِفه الهجرويّة. ومع هزيمة عصرِ إعادة الإعمار في عام 1877، عاد الاثنان لسياسات الانفصال. وعلى نحوٍ مماثل، الفترة الوحيدة التي تحبّب فيها فريدريك دوغلاس مع الهجرويّة كانت في أدنى نقطةٍ بعد هزيمة إعادةِ الإعمار، والتي رأى فيها أن احتمال نجاح أيّ نوعٍ آخر من النضال ضعيفٌ جدًا.

ثانيًا، يجب أن يُنظر للاندماج والانفصال كتعبيرٍ للموقف المتناقض الذي وجدت نخبةٌ سوداء صغيرة نفسها فيه في ظلّ النظام الاستعبادي. هذه الطبقة طمحت لأن تصبح تمامًا جزءًا من الرأسمالية الأمريكية، وبذلك دُفِعت للسعي وراء الاندماج، ولكن وجود العبودية والعنصرية وضعا حدودًا قاسية على هذه العملية مجبرةً هذه النخبة أن تتّجه تجاه موقفٍ انفصاليّ. أخيرًا، كما يشير ويلسون موزيس أنه في الفترة السابقة للحرب الأهلية لم يكن هنالك تمييزٌ واضح بين القومية السوداء والاندماجيّة، فالقوميون، من أمثالِ ديلاني، «كرّسوا أنفسهم لتنصير و”تحضير” (civilizing) القارّة الأفريقية وطلبوا فعليًا دعمَ البيض لتحقيقِ هذا الهدف. أمّا الاندماجيون المخلصون من أمثال دوغلاس فقد كانوا على استعدادٍ للمشاركة في مؤسساتٍ سوداء كليًا، ودافعوا عن حقّهم للقيام بذلك».

الإلغائية الثورية

على الرغم من انتقاداتها المحقّة للحركة الإلغائية بقيادتها ذات الأغلبية البيضاء، لم توفّر السياسات التي مثّلها غارنيت وديلاني استراتيجية نضاليّة لمواجهة الاستعباد والعنصرية. وفي هذا الشأن، كان دوغلاس – الاندماجي علنًا – في الطليعة. بانفصاله عن السياسات الغاريسونيّة المنادية بـ«الإقناع الأخلاقي»، استنتج دوغلاس أنّ القوة المسلحة ستكون ضرورية لتخليص البلد من العبودية. قبل كلّ شيء، لم تغب أهميّة النضال عن نظر دوغلاس خلال حياته السياسية كلّها. وكان الإخلاص للنضال هذا هو الذي قاد دوغلاس لأن يرى الحاجة لكلٍّ من النشاط الذاتي عند السود أنفسهم ومعها الوحدة مع البيض الذين سعوا لمحاربة العبودية. وبذلك انتقل من الدعوة للإقناع الأخلاقي إلى الدعوة للمقاومة المسلّحة. أعلن فريدريك دوغلاس في 1857: «تمّت محاكمة مالك الرقيق وأُصدِر الحكم. إنّه يدرّب جلّاديه».

كان جون براون أحد الإلغائيين الذين أثّروا على دوغلاس جاعلًا إياه يشكّك في فكرة اللا مقاومة، أو الإقناع الأخلاقي. فإيمان براون أنّ العبودية هي في واقعها حالة حرب ترك طابعًا لدى دوغلاس، حيث كتب عن جون براون: «مع أنه رجلٌ أبيض، فهو يبدوا في تعاطفه مع الرجل الأسود، وباهتمامه العميق بقضيتنا، كأنما أناسه هم من مُزِّقوا بحديد العبودية».

برزَ جون براون كإلغائيٍ أبيض لم يُوصم بالعنصرية يومًا. كتب كوارليز عنه: «علاقة براون مع الزنوج كانت قريبة ومستمرة وعلى أساسٍ نِدّي…لا نعرف عن أيّ زنجي عرف جون براون وقال شيئًا في انتقاد طباعِة أو تصرفاته تجاه الناس الملوّنين. شكّلت نظرة براون تجاه العبودية واستجابته الشرسة القاسية تجاهها عِدّةُ أشياء، ولم تكن علاقاته الشخصيّة مع الزنوج أقلّها شأنًا».

برز جون براون كمناضل مناهض للعبودية في خمسينات القرن التاسع عشر في كنساس، حيث احتدمت حربٌ أهلية بين القوى المناهضة للعبودية والقوى المؤيدة لها في العقد السابق لاندلاع حرب أهلية على مستوى الأمة. كانت محاولة براون ومعه ثمانية عشر مقاتل الاستيلاء على مستودع الأسلحة الفدرالي في هاربرز فيري، فرجينيا بهدف تسليح العبيد في الجنوب للقيام بتمرد أجرءَ ضربةٍ وُجِّهت للعبودية قبل الحرب الأهلية. مع أن فردريك دوغلاس اعترض على المشاركة في هجوم 1859 الذي فشل، فقد دافع عن جون براون حتى بعدما أُعدِم براون ورفاقه بتهمة الخيانة والتمرّد:


هل فشل جون براون؟ لقد فشل بالتأكيد في الخروج من هاربرز فيري قبل أن يغلبه جنود الولايات المتحدة، وقد فشل في النجاة بحياته، وفي قيادة جيش التحرير لجبال فرجينيا. ولكنّه لم يذهب لهاربرز فيري لكي ينجو بحياته.

السؤال الحقيقي هو، هل سلّ براون سيفه ضدّ العبودية وبذلك خسر حياته عبثًا؟ ولهذا السؤال أجيب عشرة آلاف مرّة، لا! لا يفشل رجل يهِب نفسه وكلّ ما لديه بشكلٍ بديع لقضيّةٍ حقّة، وحقًا، لا يمكنه الفشل. ليس هنالك رجل – حتى في أقصى ساعات الحاجة – متّجهٌ ليقابل موتًا مُذِلًّا، بإمكانه أن يغفل لدرجةٍ تجعله يقف ليقبّل طفلًا صغيرًا، طفلًا منتميًا للعرقِ المكروه الذي كان على وشك أن يموت لأجله. رجلٌ كذلك لا يفشل أبدًا.

هل فشل جون براون؟ أسأل جيمس إم ميسون، الذي كتب «قانون هرب الرقيق» اللا إنساني، فقد سُجِن في قلعة وارين كخائنٍ بعد أقلّ من سنتين من الوقت الذي وقف فيه على جسد جون براون المنهك.

هل فشل جون براون؟ اسأل ليمين سي فالاندينغهام، أحد من حوكِموا، فهو أيضًا غرق في الدوامة العظيمة التي صنعتها اليد القويّة للمهاجم الجريء. إن لم يكن جون براون قد أنهى الحرب التي أنهت العبودية، فهو على الأقل بدأ الحرب التي أنهتها. وإن نظرنا في التواريخ والأماكن والرجال الذين يستحقون هذا الشرف، فسنرى أنها لم تكن كارولينا، بل فرجينيا – ولم تكن قلعة سومتر، بل هاربرز فيري ومستودع الأسلحة – ولم يكن الكولونيل أندريسون، بل جون براون هو من بدأ الحرب التي أنهت العبودية الأمريكية جاعلةً من هذه البلاد جمهوريّة حرّة. فحتى وقت توجيه هذه الضربة، كان احتمال تحقيق الحرية ضئيلًا ومظلمًا وغير أكيد. وكان الصراع الذي لا يمكن كبته صراع كلماتٍ وتصويتٍ وتنازلات.

عندما مدّ جون براون ذراعه تبدّدت الغيوم، وانتهى زمن التنازلات ووقف مناصِرو الحريّة المسلحون وجهًا لوجه على هوّة الاتحاد المكسور وكان صراع السلاح في متناول اليد. راهن الجنوب بكلّ ما لديه ليسيطر على الحكومة الفدرالية، وحين فشل في ذلك، سلّ سيف التمرّد جاعلًا قضيّته، لا قضية براون، القضية الخاسرة لهذا القرن.

المصدر: كتاب «تحرر السود والاشتراكية»








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مفوض الأونروا: إسرائيل رفضت دخولي لغزة للمرة الثانية خلال أس


.. أخبار الساعة | غضب واحتجاجات في تونس بسبب تدفق المهاجرين على




.. الوضع الا?نساني في رفح.. مخاوف متجددة ولا آمل في الحل


.. غزة.. ماذا بعد؟| القادة العسكريون يراكمون الضغوط على نتنياهو




.. احتجاجات متنافسة في الجامعات الأميركية..طلاب مؤيدون لفلسطين