الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحيل ملكة العمارة بعد رحيل شيخ العمارة

علي عبد الرضا

2016 / 4 / 2
الادب والفن


رحيل ملكة العمارة بعد رحيل شيخ العمارة
الدكتور علي عبد الرضا طبله
رحيل الملكة بلا صخب ... كما كان رحيل شيخنا قبل أسابيع بلا صخب أيضا.
لا اجد حقا الكلمات أو التعابير لحتى اطرق موضوع زها ... لا أتمكن فانا لديّ مشاعر وصعب علي الحديث الأن. سأتناول ذلك لاحقا.
صادق العزاء والمواساة لعائلة واهل المرحومة وأقاربها وزملائها في العمل والكم الهائل من معارفها على كل امتداد كوكبنا الأزرق والذي سعت زها بحمية لا تصدق لتعطي كل مدينة شعارا وتعريفا جديدا لها.
صرت اعرف اني لن التقيك بحفل استقبال أخر في بغدادنا الحبيبة.
من ذكرياتي ...
في العام 1959 وفي شهر تشرين الثاني أقامت سفارة اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية حفل استقبال بمناسبة ثور أكتوبر 1917. تلك كانت المرة الأولى لي وليست الأخيرة بمرافقة والدي الشهيد الجليل المبجل لحضور حفل الاستقبال هذا. كنت في حينها في العاشرة من عمري. تبعت والدي وهو يطوف ويسلم على العشرات من الحضور وكنا قد سلمنا في بداية دخولنا إلى السفارة بأشخاص مهمين جدا في نظري حينذاك وجلب انتباهي الشخص اللابس للبدلة العسكرية الفخمة والمرصعة بكل أنواع الميداليات. من أين حصل عليها : الله هو العالم ! هكذا فسرت الأمر. لم الحظ وجود أطفال بعمري للعب معهم وان كان والدي قد حذرني جدا من اللعب ومشددا عليّ أن أكون دائما إلى جواره. مفهوم، هكذا هم الأباء !
وللحظة لمحت طفلة صغيرة جميلة تسير بجانب والدها والذي كان مشغولا جدا بتجاذب الاحاديث السياسية التي لم اكن افهم منها الكثير عدا إن الإنسان واجب عليه مساعدة المستضعفين : هذا كان احد دروس والدي لي ولإخوتي الستة الذين اعدمهم المجرم هدام بعد عشرين عاما من تاريخ حفلة الاستقبال الفخمة والعامرة طاولاتها بالحلويات وهذا اهتمامي الأول والأطعمة الفاخرة واللذيذة جدا.
رحت أراقب هذه الفتاة عسى أن احظى بمكالمتها فاحاديث الكبار كانت في واد وانا أريد الحديث عن واد أخر.
سنحت الفرصة لي وعيني تتراقص على صحون الحلويات صعودا وهبوطا ولوعة أن يأكلها كلها الآخرون من قبل أن احظى بحصة الأسد منها وكان هذا ما وطدت نفسي عليه. كانت تلك هي الفتاة الصغيرة تقترب من الحلويات وعيناها تدوران بشكل مضحك وهي تقلب أنظارها لتعرف من أين تأكل الكتف ! واذكر جيدا إنها كانت تسترق النظر إلى والدها لكأنها تخاف أن يضيع عنها. هذا مفهوم فكل الفتيات هن كذلك أي وجلات خائفات خجولات. كانت تلك هي فرصتي للحديث معها وأيضا فلا اخفي عليكم اني وجدت فيها منافسا خطيرا على أطباق الحلويات وكنت اقلب في راسي كل الأفكار لأجعلها تتحدث وانا اكل الحلويات ! فكرة جهنمية حقا !
كانت في التاسعة من عمرها، وكانت خجولة جدا ووجلة وفيها الكثير من التردد. لم تكن تحب الحديث كثيرا. هكذا هن الفتيات ومن لا يعرفهم ؟
إن ما زاد من روعي وقلقي إن عيون هذه الفتاة الصغيرة ذات العينين السوداوين شبه الجاحظتين والباعثة على الضحك وان كان بتكتم شديد جدا. انتم لا تعرفون إن بعض الفتيات الصغيرات يمكنهن توجيه لكمة موجعة، نعم فاحذروهن ! هذا درس مفيد لكم ! كانت عيناها لا تغادر صحون الحلويات وانا أثرثر لتشتيت نظرها وأبعاده عن الحلويات اللذيذة جدا. لم تنطلي خطتي على هذه الفتاة الصغيرة الجميلة ذات العينين السوداوين الكبيرتين شبه الجاحظتين وانفها المعقوف قليلا، لا وبل قد وجدت فيها صرامة وحزم كبيرين على أن تنال ما تريديه من الحلويات وهذا ما ادخل الرعب إلى قلبي ! راحت عليّ حصتي ّ
ولم تمض دقيقتين أو ثلاث إلا وفقدت منافستي الخطيرة على الحلويات شهيتها على ما يبدو فإنها وبخطوات قصيرة لا يسمع لها أي صوت، هذه خاصية خاصة توجد فقط عند الفتيات فمرات تسمع خطواتهن كأنها صرخات عالية حادة تهز المكان والشارع ومرات أخر بلا صوت : كيف يعملونها، لا ادري ؟ لقد توجهت لمنافسة العديدين على صحون الأطعمة المختلفة الفاخرة. أما أنا فحمدت ربي لتركها الحلويات وأيضا حسرتي البالغة لأننا لم نتعرف على بعضنا بشكل جيد. واذا بشعور غريب جدا وغير مفهوم أحسست في داخلي إن شخصا ما هناك وعلى الأرجح خلفي يراقبني مثل هذه المشاعر حدثت معي مرات عديدة. ألا تشعرون انتم بها أيضا، وحتى انتم الذين تسخفون مثل هذه الروايات ؟ استدرت بحدة لأعرف من هذا ... انه والدي ونظرته المعبرة : لا تأكل الكثير من الحلوى واشرب بعض العصير المنعش وخذ قليلا من الطعام. طريقة والدي لتوجيهي كانت سهلة جدا وفي أحيان كثيرة تدخل البهجة إلى قلبي، انه يقوم أولا بتثبيت نظره عليّ ثم تدور عيناه باتجاه صحون الطعام ومن بعد ذلك يوجهها مرة أخرى علي ليديرها باتجاه مكان توزيع المشروبات المخصصة الأطفال.
أخر ما رأيت منها هو خروجها برفقة والدها وكانت ترتسم على وجهها الجميل ابتسامة خفيفة تكاد لا ترى جميلة لا يحسن القيام بها إلا الفتيات الصغيرات. يا لهنّ من شقيات !
في الواحد والثلاثين من آذار وصلني الخبر الصاعقة بلا طلب ادن ومن دون أن يأبه بالأبواب. جمدت في مكاني زمنا زاد عن الساعة والنصف وأفكاري وذكرياتي في فوضى معذبة قاسية أحاول أن التقط منها ما يدلني على سبب وفاتها المفاجئ. أنا ما زلت اعتقد وأؤكد على منحى جديد لها بدأ بالتبلور في العمارة وانها كانت ستفاجئ العالم كله بذلك. وانا على تمام اليقين من أن زها كانت ستقدم صفعة قاسية بوجوه كل أولئك الذين كنوا العداوة لها وعمقوا في داخلها الشعور القاسي الجارح بالغبن الذي كان باعتقادها قد مورس ضدها وبتصميم وإرادة مسبقة. لم تكن زها إنسانا لا يعير أراء الأخرين أية أهمية. زها كانت إنسانا رهيفا حساسا وتتألم بشدة مفرطة من احاديث الآخرين عنها وحتى محاربتها وعدم فسح المجال أمامها لقد وصل بها الأمر وأثناء تقديمها لخطاب الشكر على منحها احدى الجوائز الأولى، وإذ هبت رياح نشطة جعلت الكثير من ملبسها يتطاير وليس ينفصل عنها وهنا حدث أن شجيرة صغيرة موضوعة للديكور أن دفعتها الرياح لتقلبها على زها. فقالت قولتها المشهورة : حتى المزروعات لا يحبوني ! هذا لعمري اعتراف صغير عن حجم الآلام والمعاناة والوحدة التي كانت زها تعاني منها وهي لم تخفي ابدا هذه المشاعر.
جاء تنفيذ مشروع محطة إطفاء الحرائق فيترا في العام 1993 Vitra Fire Station on the Vitra Campus, Weil am Rhein, the first-ever built architectural work by Zaha Hadid إن تنفيذ هذا المشروع كان إعلانا لانطلاقة زها في الأوساط المعمارية رغم تشكيك الكثيرين بأفكارها التصميمية حتى أن مهندس معماري يهودي إسرائيلي صهيوني قد كرس جل طاقاته لإثبات فرضيته التي تقول أن زها حديد كانت قد تسرق التصاميم المعمارية لمهندسين معماريين سبقوها، فتح لنا عالما ونمطا جديدا لا وبل عدة أنماط في العمارة العالمية . لقد بدا واضحا شيئا فشيئا، وليس للجميع حتما لا، إن زها تحول المعادلات الرياضية الصعبة والمعقدة إلى نوتات موسيقية مذهلة لتنتج رسوما غاية في الجمال، والذي لم يفهمه أكثرية المعماريين وما زالوا على ذلك، لأبنية تزاوجها مع الطبيعة ومع المحيط الصاخب بكل الأشكال والألوان. زها كانت تعطينا شعارا جديدا وعلما جديدا وتعريفا جديدا لتلك المدينة أو لذألك البلد. كم يؤلمني إن الكثيرين من المعماريين والفنانين وأخرين قد سخروا من تخطيطاتها الأولية ومن رسوماتها، والتي يجب عليّ أن أشير إنها كانت سابقة لزمانها وجعلت رؤوس واعين وأيدي واكف الغالبية المطلقة تدور بشكل اخرق غير موزون. كانت طريقة تعبيراتها في الرسوم التي كانت تقدمها لمشاريع المشاركة بالمسابقات المعمارية تثير الحيرة واصعب ما فيها انه كان علينا جميعا أن نقبل احد امرين : إما إن هذه الشابة قد فقدت عقلها ولا تحسن فن تقديم المشاريع أو إننا كنا على غباء وعدم فهم لخطوطها وهذا الأخير ما كنا نخشاه بشدة في دواخلنا.
إن من الإنصاف القول إن الأكثرية المطلقة من أعمال زها ما زالت غير مفهومة للغالبية العظمى من معماريي العالم رغم قيام العديد منهم بتقليد أنماطها وما احسنوا الصنعة فكانت رسوماتهم خرقاء بحق.
إن زها كانت للأسف الشديد غير مفهومة للكثيرين لأنها تعيش عالما غير عالمنا وأود الإشارة وعن قناعة تامة إن زها كان عودة لليوناردو دافنشي متقمصا جسد شابة اسمها زها. صدقوني سنكتشف اكثر واكثر ويوما بعد أخر الكثير من أسرار خطوطها وأنماطها ولا أقول أشكالها لأنه وبكل بساطة الشكل لم يكن غاية زها بل محتوى هذا الشكل والأشكال. لقد أبدعت أيما إبداع في موضوعة تعريف وظائف المباني العدية التي صممتها وهذا ما لا يحسنه الكم المطلق من معماريي العالم.
لقد أعطتنا زها وبكل سخاء وبكل تواضع شديد قاموسا شيه كامل من التعاريف المعمارية ولكنها اختطفت منا قبل أن تتم ذلك واني لعلى ثقة تامة إن جمع وتوضيب وأرشفة كل قصاصات الورق رسما عليها او كتابة التي تركتها من بعدها، اذا لم تحرق او ترمى في النفايات، ستظهر لنا عالما فريدا شبه إعجازي إن احسنا فك طلاسمه فإننا نكون قد تمكنا من تقديم خدمة عظمى للإنسانية ستدوم لأجيال وأجيال بعيدة واني لعلى قناعة تامة انه لو توفرت الإرادة المصحوبة بالوعي العالي لأهمية فهم أفكار زها، وجرى تنفيذ كل تصاميمها ولكم أن تقولوا يا من لم تفهموها : شخبطاتها لتفتح أمام ناظريكم عالم سحري جميل ومبهر اسمه عالمنا من بعد مئات السنين.
ارقدي بسلام زها.
سلاما زها ... الكل يهدوكِ السلام.
ولهذا الموضوع عودة.
... - المعمار البروفيسور الدكتور علي عبد الرضا طبله
الثاني من أبريل من العام 2016








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??