الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حدث في قطار آخن -45-

علي دريوسي

2016 / 4 / 2
الادب والفن


قالت الشرطيتان وكأنّ لهما رأس واحد: فكر ملّياً أيها الشرقيّ الكئيب بما يجعلك تُزهر في الحياة واِتبعه.

ما الذي يجعلني أُزْهر؟ سأل نفسه ومضى خارجاً من قسم الشرطة باتجاه الشارع إلى الهواء الدَوَاء المُنْعِش...

لأن الهواء الذي أتنفسه اليوم ليس هو الهواء الذي تنفسته البارحة، لذلك أَزْهَرَ اليوم في داخلي ورداً جديداً غير ورد الأمس... ربما العطالة والعادة فقط ما يمنعاني أن أكون على بينةٍ من الجديد في داخلي... ربما الكوكايين وحده ما يعيقني عن شعوري بالإزهار!

وقف عند إشارة مرور، الضوء أحمر، يحلو اِنتظار الضوء الأخضر في الشوارع المزدحمة، يحلو أكثر إذا وقفت اِمرأة حلوة في الطرف المقابل، إذا بادلتك النظرات، وضع يده اليسرى على وجهه، تَحَسَّسَ ذَقَنه الناتئ، تَذَكَّرَ كلمات كتبها قبل أن يغرق في نهر الكوكايين:

كلما غرِق في عمله حتَّى ذَقَنه، طالَ ذَقَنهُ.
حالما يحلقُ ذَقَنه التي أهملها، يعود إلى توازنه الداخلي من جديد، وهَكَذا دَوالَيْكَ...

خاطب نفسه: سأحلق ذَقَني حالما أصل غرفتي في آخن.

كلّم نفسه: كل ما أود أن أعبّر عنه هو جميل، نقي وصادق. أَزْهَرَ شيء في داخله، ضحكَ حباً إذ خطرت له أشياء أبيه، ضحكَ اِشتياقاً لروح أبيه، رأه واقفاً في غرفة نومه أمام مرآة بوفيه الفوراميكا، رأى كأس الشاي الأسود على سطح البوفيه، طاسة حلاقة ألومينيوم، ماكينة حلاقة نحاسية، فرشاة حلاقة متآكلة بقبضة من ألومينيوم، رأى خزانة الفوراميكا مبرقعة بالأبيض والبني، خزانة عالية بثلاث درف، تتدلى من أبوابها مفاتيح صفراء نحاسية، باب الدرفة الوسطى مفتوح، على الباب من الداخل مرآة، رأى في الرف العلوي من الدرفة صندوق موزاييك خشبي، كان يعرف محتواه، شاهد أباه الذي لا يجيد حتى قراءة أو كتابة اِسمه أكثر من مرة يفتحه ويعيد ترتيب الأشياء فيه، سند ملكية أسهم بلون أخضر، أوراق مطوية بعناية ومكتوبة بخط يد شيخ، خاتم ذهبي لزوجته التي رحلت قبله، صور شخصية بالأبيض والأسود، صورة أكبر من كل الصور يظهر فيها الأب بالقميص الداخلي الأبيض، يتصارع مع شخص يحمل بيده سكين، قرب البئر في البهو الخلفي من خمارة الشيخ رويش، كلهم قالوا بأنّه كان من الرجال الأشداء في كل شيء، في المصارعة، في الغناء وفي حب النساء، لمح خيزرانته، بارودته، طقم الجوخ البني المُعلّق بعناية، ورأى ألفية عرق مزخرفة مما تتخيلون!

نعم سأحلق اليوم ذَقَني وبجانبي كأس شاي أسود حالما أصل غرفتي في آخن، سأفعل كما كان يفعل أبي...

ضحكَ لذكرى أبيه حتى بانت أسنانه البيضاء، عليك أن تضحك بطيبة خاطر كي تبقى أسنانك بيضاء، كما يقول الروسي. الضحك ينظف الأسنان ويبقيها سليمة، كما يقول الإفريقي. الإفريقي لا يحتاج إلى طبيب أسنان لأنه دائم الضحك... جميلون هم أصحاب اللون الغامق، ماذا أقول عنهم، آه لو ترونهم كيف يلعبون مع بعضهم البعض في ملعب الجامعة أيام نهاية العطلة الإسبوعية، سترون في عيونهم حب، سترون أن أسنانهم بيضاء وأجسادهم قوية، إنهم يضحكون من القلب يا ناس، كم أود ذات يومٍ الكتابة عن ألعابهم الجماعية البسيطة، عن حالات فرحهم الصغيرة... إنهم يمارسون كرة القدم بشغاف القلب، يُجيدون إصابة العارضة حتى من الضربات الركنية ويجيدون تسجيل الأهداف... كانت إصابة العارضات في ملاعب الطفولة، في الشرق، في كثير من الأحيان أهم من إحراز الأهداف في مباريات كرة القدم... إنها دليل المهارة والإحتراف!

يقول الفرنسي: تأمين لقمة الحياة يتطلب أسنان حادة. في العالم الرأسمالي يستبدل الإنسان أسنانه بأسنان من حديد. صيانة ورعاية الأسنان والأضراس في العالم الرأسمالي هي من أكبر المشاكل التي تواجه الإنسان وخاصة الغريب، الذي يضطر غالباً بشكل مؤقت، إلى العوده إلى وطنه في العالم المسمّى ثالث، بغية المعالجة بأقل التكاليف، حتى دون تقديم كلمات المديح والشكر للأطباء ومساعديهم ثم العودة من جديد إلى الحضن الرأسمالي... كل غريب يحلم بتقسيم جسده، يريد وضع القدم اليمنى في الغرب واليسرى في الشرق، الغريب يطمع في كل شي! لا يُمانع حتى في إمكانية الحصول على بطاقة تتضمن مبلغاً من المال لزيارة بيوت البغاء في الغرب...

ضحكَ باسترخاءٍ كوكاييني، ضحكتْ اِمرأة شابة من الطرف المقابل من الشارع، اِمرأة على دراجة، اِنتصب جسدها صارخاً باتجاه الأمام، برزت مؤخرتها تستطلع آفاق العالم، كانت امرأة في وضعية بكاء، ود لو يستوقفها، يسألها: ما الذي يبكي امرأة شامخة على دراجة؟

"ثَمَّة حلوة، شامخة وأنيقة في يوم عطلة مشمس... شابة ترتدي تنورة جميلة وقصيرة، بلوزة، شالاً وحذاءً فرنسي الصنع. تدسُ بين تفاحتيها قطفة حبق. تقفزُ بمرحٍ غير شرقي إلى دراجتها الأنثوية-الهوائية، تتسوق بعض الخضار والفاكهة من سوق الفلاحين، تعود إلى سكنها الطلابي برشاقةِ رياضية، ها هي تقترب من موقف الدراجات، فرملة خفيفة وتعبق رائحة حبقها في الفضاء الطلابي...
يقترب طالبٌ منها، الحزين القادم من جبال الشرق... ينظر إليها بريبة، يحيّيها ويسألها دون حذر: لمنْ هذه الدراجة!؟ بلطفٍ واستغراب تجيبه: لي!
يُستَنفر الكائن الأحمق في داخله: ماذا تعنين، لكِ!؟ ألا تستحي!؟ بأي وجه ستقابلين الله العليّ؟ تضحك بخفة دمٍ: سأقابله هكذا، وأنا أركب الدراجة!"

الدراجة الهوائية، الفاراد أو البسكيلت، هي جزء من ثقافة، جزء من تراث، ركوبها، ركوب الدراجة فعل حضاري، ثقافي غربيّ المنبت والطابع، فرنسي-ألماني الاكتشاف، يعود إلى مئتي سنة إلى الوراء، لا علاقة مباشرة للدراجة بالناطقين بحرف الضاد، حتى ولو حاول البعض تسييس استخدامها وربطه برسائل السلام والمحبة والشباب والرياضة والمتعة والبيئة، ولم تشكل يوماً عنصراً من عناصر الرواية العربية أو القصة والقصيدة وإنْ كنت تجد لها بين الحين والآخر ملمحاً في الفلم السينمائي أو الأغنية المصورة أو الدراما التلفزيونية... لا يكفي أن تدعم الأنثى الشرقية فكرة الركوب، لا يكفي أن يشجِّعها مدير هندسة المرور، كي تصبح الحالة جزءاً من ثقافة الشرق، لأن طقوس الركوب وظروفه ومستلزماته الإنسانية والطبيعية والعمرانية والقانونية والمادية والمعنوية والتربوية والثقافية والسياسية والاجتماعية والدينية والتاريخية أكبر وأعقد بكثير مما يتخيله مدير مرور شرقيّ... لأنّ عملية الركوب حالة متكاملة، لأنّ ركوبها وسياقتها يختلفان عن ركوب وسياقة السيارة أو التراكتور، لأنّ البناء التشكيلي للجسد الشرقي الأنثوي والذكوري لا يتناسب مع ثقافة البسكليت...

فجأةً توقف السير، إشارة المرور صارت خضراء، إنّها تعبر الطريق، إني أعبر الشارع، إنّها لا ترى السيارات بل تتجاهلها، إني أرى السيارات ولا أتجاهلها، إنّها لا تراني بل تتجاهلني، إني أراها ولا أتجاهلها، إنها لا تعرفني، إني أعرفها، لقد رأيتها مرات كثيرة معي، طويلة، سمراء، فارعة، غزالة... اِمرأة تفوح منها رائحة الشدوقية، رائحة المغطوطة، اِمرأة برائحة البندورة، اِمرأة برائحة شوربة العدس، اِمرأة برائحة الدرّاق، غزالة برائحة العنب... الرحمة لأرواحِ الجدات سليلات الأكلات الشعبية الخيالية، الشدوقية والمغطوطة...

رأى لافتة زرقاء كُتب عليها بالأبيض بانهوف مويرس وسهماً يُشير إلى اِتجاه محطة قطار مدينة مويرس الصغيرة... توقف لبرهة، أشعل سيجارة بولمول، سحب دخانها بعمق وتابع سيره...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم الممر مميز ليه وعمل طفرة في صناعة السينما؟.. المؤرخ ال


.. بكاء الشاعر جمال بخيت وهو يروي حكاية ملهمة تجمع بين العسكرية




.. شوف الناقدة الفنية ماجدة موريس قالت إيه عن فيلم حكايات الغري


.. الشاعر محمد العسيري: -عدى النهار- كانت أكتر أغنية منتشرة بعد




.. تفاصيل هتعرفها لأول مرة عن أغنية -أنا على الربابة بغني- مع ا