الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الديمقراطية التوافقية و محنة العراق

أحمد إبريهي علي

2016 / 4 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


عُرِفت الديمقراطية التوافقية والتي تسمى بالأنكليزية كونسوشِيَشناليزم في بعض دول اوربا، بصيغ متفاوتة، ومنها بلجيكا، وسويسرا ، وجربت خارج اوربا، في لبنان مثلا بصفة دائمة وفي دول أخرى، وتعتمد احيانا لفترة إنتقالية. لكن النموذج السويسري هو الأكثر فرادة في إختلاف بنيته التنظيمية عن الديمقراطية الأنجلو أمريكية بشكليها النيابي والرئاسي . وتقترن التجربة السويسرية الطويلة بما يسمى القاعدة السحرية لتوزيع مقاعد المجلس الأتحادي السبعة بين اربعة احزاب رئيسية، والمجلس الأتحادي هو السلطة التنفيذية العليا، وتعطى رئاسة الأتحاد دوريا لأحد اعضائه. و قد تكون التوافقية مع درجات مختلفة من اللامركزية، الأدراية والمناطقية، وبمضامين سياسية تعتمدعلى طبيعة الأسباب التي قادت إلى التوافقية إلى جانب الحجم السكاني للبلد ومساحته الجغرافية وتاريخ تكوين الدولة.
وقد إبتكرت التوافقية للحفاظ على الوحدة في ظل التعددية الأثنية، العرقية واللغوية والدينية، بما في ذلك الأثنيات الفرعية للمجموعة اللغوية او الدينية الواحدة. وعادة ما تكون الديمقراطية التوافقية مع الحكم النيابي باشكاله المختلفة، اي ان السلطة التنفيذية يفرزها المجلس المنتخب. وتقوم على التحالف الكبير الذي تشترك فيه جميع الأحزاب الرئيسية واكثر اعضاء البرلمان أو جميعهم إلا القليل منهم. وذلك على عكس الديمقراطية النيابية، بالنموذج البريطاني التي تقوم على مبدأ الأغلبيية، وحيث تتألف الحكومة من اصغر تحالف كافي، اي اقل عدد من الأحزاب في المجلس المنتخب يضمن النصف إضافة إلى مقعد واحد. ويُشكّل التحالف الأصغر الكافي بما يساعد رئيس الوزراء على الألتزام بمنهج حزبه، وتنفيذ برنامجه بأقل ما يمكن من التنازلات، ولتستقر سياسات الدولة الخارجية والأقتصادية والأمنية خلال الدورة الأنتخابية. بينما يتركز الهدف من تشكيل التحالف الكبير، او حكم الجميع، في ظل التوافقية إلى تمثيل كافة المجموعات الأثنية، رئيسية وفرعية، في مجلس الوزراء والأدارة العليا للدولة. ويتلخص هدف التمثيل الواسع في الحفاظ على الوحدة، أو لتجميع زخم سياسي يساند الدولة في مواجهة النزاعات الأثنية المسلحة أوالأرهاب. ولهذا يمكن للديموقراطية التوافقية تسهيل مواصلة اجهزة الدولة لعملها، اما بناء دولة قوية للتنمية والرفاه في العالم النامي، او حتى إلأصلاح وتحسين الأداء فمن المتوقع ان يواجه الكثير من العقبات.
والنظام السياسي في العراق لم يعرّف في الدستور بأنه توافقي بل ديمقراطي نيابي اي على غرار النموذج البريطاني او الهندي. أما الأشارة إلى المكونات فهذه لا تعني الديمقراطية التوافقية المتعارف عليها، بل ان تعبّر الحكومة والأدارة العليا في تشكيلهما عن كل العراق. اما التوافقية التي اظهرتها التجربة العراقية، لحد الآن، والتي افصحت عنها المحاصصة الحسابية المنظّمة فهذه من إفرازات التنازع الفئوي والتي إلتقت مع اطماع الأحزاب وذوي النفوذ.
ولقد تركز نقد التجربة العراقية بعد عام 2003 على المحاصصة في توزيع مواقع المسؤولية التنفيذية على الأحزاب المشاركة في الحكومة. اما القول بانها محاصصة طائفية /اثنية، فهذه نتيجة الأنقسام الطائفي/ الأثني للفضاء العام، واصبح ذلك الأنقسام يرسم حدود انتشار الأحزاب. وذلك لأن الأمة العراقية التي قوامها المواطنة، والأنتماء لوطن واحد، لم تصل من قوة الحضور في عقول وضمائر الناس إلى حد تجاوز الطائفية في تكوين الأحزاب وسلوك الناخبين. كما ان الأسراف في قتل المدنيين على الهوية هو قتل الأنتماء للعراق ايضا، وبنفس الشراسة، ما أعاق تشكل تقافة سياسية عامة ومجتمع سياسي عراقي واحد، وزَرَع اليأس في نفوس الناس من وحدة المصير. وليس من الصعب الأدراك بأن استمرار الأضطراب الأمني، والتنافس الحزبي والشخصي بدوافع انانية لا تكترث بالمصلحة العامة، وضغوط اقليمية ودولية اسهمت كلها في تأجيل توافق العراقيين على ترتيبات نهائية للنظام السياسي وشكل الدولة. وعطلت عملية إعادة بناء أجهزة الأمن وإدارة الأقتصاد والخدمات لصالح استمرار الترتيبات التوافقية الهشة والتي لا تنسجم، في صيغتها الحالية على الأقل ،مع مقتضيات التنمية المستدامة والأستقرار الأمني والمجتمعي.
ومع ما تقدم، تفترض الديمقراطية التوافقية الأستعداد للتعاون بين الأحزاب لتشكيل حكومة ممثلة للمجموعات الأثنية وفي نفس الوقت محايدة عن الأنقسام المجتمعي، لتقود البلاد نحو نبذ العنف واستتباب السلم الأهلي .ولذا يشارإلى أهمية إلتزام الفريق الحكومي في ظل الديمقراطية التوافقية بعدم إظهار الخلافات والحفاظ على سرية المداولات الممهدة لأتخاذ القرارات وذلك لتعزيز سياسة الأندماج والأستقرار المجتمعي. و ليس الغرض من التوافقية، مبدئيا، تمثيل النزاع بل تمثيل مصالح المجموعات في العدالة والسلام والرفاه والأخلاص في السعي نحو الوحدة. وهذا لم يحصل في العراق، مع الأسف، فتحولت الديمقراطية التوافقية إلى نظام لأدامة النزاع وتأجيجه.
ويُفترض ايضا ان التوافقية تُرسي منهجا عمليا يساعد على تسوية منصفة لأختلاف المصالح والتطلعات الفئوية والمناطقية، مع الوعي العميق بمتطلبات إزدهار الكل العراقي والحرص على الأسهام بهذا الأزدهار لأنه المعين الذي يغترف منه الجميع ، بينما كانت الممارسة الفعلية بعيدة عن هذه الضوابط المعيارية. وكانت تجربة الحكم في العراق وكأنها توافق على التعطيل بأهمال واضح لمتطلبات تقوية أجهزة الدولة وتكاملها الوظيفي فتدنت الكفاءة وانتشرت وقائع خيانة الواجب والفساد. ولا يخفى ان التوسع في اللامركزية الأدارية كان من اسباب الترهل وتقوية الروح الأقطاعية ، وقد تجلى هذا المنحى الضار في الأكثار من الهيئات المستقلة والتي لاسلطة لمجلس الوزراء عليها. وفي نفس الوقت أُشيعت ثقافة عمل وضغوط من كل مكان لأستقلال الوزارات عن رئيس الوزراء بدعوى انه " رئيس مجلس الوزراء وليس رئيسا للوزراء". فخسر العراق وظيفة هذا الموقع وتحميل شاغله المسؤولية، وايضا لم يَفهم الوزراء بأن من صلب واجباتهم إعادة بناء دوائر وزاراتهم أوتجديد حيويتها. وقد باركت الأحزاب السياسية الأسراف في اللامركزية الأدارية، وتضخيم اجهزة الدولة مع اللامركزية للحصول على مواقع أكثر، من جهة، ولأضعاف رئيس الوزراء او نظام الحكم من جهة اخرى.
وفي اللامركزية المناطقية اصبحت للمحافظات مجالس منتخبة وهي تُعيّن المحافظ ولا تتدخل الحكومة المركزية في عملها، ولا يستطيع مجلس الوزراء إعفاء المحافظ من منصبه. وقد وسّع القانون صلاحيات المحافظات واستقلالها عن المركز حتى اصبحت، فعليا، فدراليات إدارية شبه سياسية. وقد وصل الأمر، احيانا، ان المحافظ يدخل في نزاع طويل ومرير مع الحكومة العراقية وتقف الأحزاب السياسية على الحياد. ولا تتردد المحافظة ، وبمباركة احزاب وشخصيات سياسية، ان تطلب موافقتها قبل تحريك قوات عسكرية ضمن حدودها الأدارية.
وفي خضم تلك الفوضى، اللاّخلاّقة، كانت تنفق الأموال بلا إنجاز لتصبح اساءة التصرف بالموارد مادة تتناقلها التقارير الدولية ثم يعاد بثها في وسائل الأعلام المحلية لتدمير الثقة بالدولة والنظام السياسي.
ما تقدم كان للعراق خارج كردستان التي حافظت على استقلالها ، بالأمر الواقع ، الذي كانت عليه قبل عام 2003 ، ولا دور لمركز الدولة هناك، مع مشاركة كردستان في الحكومة العراقية . وقد عجزت الترتيبات التوافقية ايضا عن تناول المسائل المعلقة ومنها حدود الأقليم ومستقبل علاقته بالعراق.
ان حاجة العراقيين إلى الدولة التنموية والتي تحمي في نفس الوقت حقهم في الأمن والعدالة والرفاه قد اهملت، والأحساس العميق بهذه الحاجة هو ما ينبغي ان ينظّم حراكهم الثقافي والسياسي. والمطلوب المباشرة لبناء هذه الدولة وليس توظيف فشلها لتغذية المزيد من النزاع وسفك الدماء وضياع الفرص لخدمة مصالح ضيقة وتطلعات انانية. ومن الضروري لنجاح الحراك المتجه نحو البناء الأهتمام بالمعرفة العملياتية في إدارة الأمن ، والأقتصاد وقطاع المال والمالية العامة، ومشاريع وبرامج الأستثمار الحكومي، ومفاصل التبادل والتعاقد بين الدولة وقطاع الأعمال الخاص، الوطني والأجنبي ، ودراية تفصيلية بأداء قطاعي التعليم والصحة. وزيادة الأهتمام عموما بأجهزة الدولة ذاتها وتوسيع قدراتها والتحسين المستدام في كفاءتها، وموازنة العناية بين المستوى المركزي والمحلي، وذلك كله لأجل بناء دولة العراق المنشودة وليس من يستوزر وعقيدته وعشيرته. د. أحمد إبريهي علي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في الذكرى الثانية لرحيلها.. شيرين أبو عاقة تترك إرثا ما يزال


.. بحضور رئيس البلاد.. الآلاف يهتفون لفلسطين على مسرح جامعة أيس




.. سفن قوات خفر السواحل الصينية تبحر بالقرب من جزيرة تايوانية


.. الشفق القطبي ينير سماء سويسرا بألوان زاهية




.. مصر تلوّح بإلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل إن استمرت في عملية