الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مأساة جسد رخيص

حميد التوزاني

2016 / 4 / 4
حقوق الانسان


الآلاف بمغرب الهامش مثلك يموتون بطيئا؛ إما علة بلا علاج، وإما حياة بلا أمل ... يواسون أنفسهم بالقدر أو الابتلاء، كأن الله حقا من قدر عليهم الفقر وابتلاهم بالمرض والتخلف، ينفون بثقة عمياء نظرية ماركس حول الصراع الطبقي، يطمحون للجنة أكثر من طموحهم للعيش الكريم، بإرادة راسخة يصادرون حقهم في طلب خيرات الوطن وفي الحقوق التي تتيحها المواطنة كممارسة. لذلك فهم راضون بل مؤمنون بفقرهم، ويرونه مجرد عذاب في الأرض لن يرافقهم بعد فرار الروح من جسد أعياه قدر الفقر وبؤس الابتلاء، بحثا عن الماوراء الأزلي ... لا يهمهم التغيير وما يرتبط به من قبيل؛ الحرية، الكرامة، الديمقراطية والمواطنة، بقدر ما تهمهم كسرة خبز لأطفالهم الجياع وكسوة تقي أجسداهم من البرد، يكافحون من أجل البقاء، لكن لا بقاء بمغرب الفقر.
هي حكاية مواطن قروي بجبال تازة رحل في صمت كما يرحل الكادحون، لم يمتلك من المواطنة إلا تلك الورقة الباهتة التي تشهد له بالانتماء، كنت شاهدا على مأساة جسده الهزيل بوطن الهامش، فتلك الورقة لم تكن كافية لتشخيص مرضه وعلاجه بالمستشفيات العمومية، لأن المال والمحسوبية فقط هما التأشيرة المزدوجة التي تمنحك العبور للعلاج، كلما تذكر ت حكايته مع الموت البطيء بمنفى الهامش، تأكدت أن المواطنة درجات رغم أن الانتماء واحد ...
مواطَنة الهامش
هناك؛ بين أحضان جبال تازة، حيث رأى النور ووارى الثرى، تعلم حب الله على يد فقيه الدوار كما تعلم حب الوطن على يد معلمه في السلك الابتدائي، كان راعيا للغنم كبقية أقرانه، تعلم التمرد على الطبيعة إذ كان يطوي مسالك الجبال الوعرة كما تطوى ورقة دفتر أو كما يبعثر نسيم الصباح أوراق زهر الربيع، لسوء حظه تمرده لم يستثني المدرسة التي كانت سجنا مقرفا بالنسبة إليه، لذلك كان دائم الهروب من أقسامها، هروب يلي هروب فانتهى به الأمر إلى تطليقها ثلاثا بلا رجعة في سنته الرابعة ابتدائي. ربما سلوكه كان مجرد تقليد لشباب الدوار الذي رأى فيهم قدوة تُتبع، تعزز نفوره من المدرسة تحت وقع حلمه البسيط الذي لا يتعدى ولوج صفوف الجيش، فهو ليس طفلا استثنائيا كي يواصل تعلمه، واقعه وطموحه كان ترجمة لانتمائه لقبيلة آيت وراين التي تعد بنكاً للتجنيد بالأطلس المتوسط، ولعل المثل الشعبي الذي يقول"نمشي للعسكر احسن لي ندير علاش نولي" توصيفا حقيقيا لمسار مرسوم سلفا لأبناء القبيلة الطيبة ...
لكن هذا الحلم انهار أمام مراهق متمرد يتوق للحرية والاكتشاف، لذلك لم يلتزم بالمثل الشعبي، ورغم نحافة جسده فضل العمل المأجور في هجرات موسمية لا تنتهي واحدة حتى تبدأ أخرى، ماذا يفعل في جبل بلا أرض يفلحها بلا كهرباء يستضيء بها بلا مقهى تنسيه قساوة العيش الهامشي بمنفى الوطن، كان دائما يقول لي بكلمات دارجة بسيطة؛ استغل فرصة الدراسة، فهي تضمن لك عيشا كريما وعقلا رزينا يحررك من الآخر، دعني أنا أموت بطيئا، مجرد مخلوق تائه بين أرجاء الفقر والجهل والمرض، دعني أنا الذي أنتمي لجغرافيا يلعنها التاريخ ويهمشها الحاضر أواجه مصيري المحتوم بين هذه الجبال التي تأبى الانحناء للإله لعله يرحمها، ويُعلن عفوه المبارك على سكانها وغاباتها ومسالكها، دعني وانطلق في البحث عن وطن أرحم من هذا الوطن ... كلماته رغم بساطتها كانت قوية ورائعة، تفضح واقع المواطنة المزيف بالمغرب الأقسى والمجتمع المنسي.
سفر الموت البطيء
مر فصل الصيف وكان باديا عليه الثعب، لدرجة لم يعد قادرا على مساعدة أخيه الأكبر في جني شجيرات التين والعنب، حتى السير أصبح شاقا إذ لا يقوى على مسير نصف ساعة كاملة وهو الذي كان يتنقل بخفة عجيبة بين شعاب وسفوح الجبال، يصعد المرتفعات ويعانق السحب بلا تعب باد عليه، انتبه أخوه له ونصحه باستفسار عشاب السوق الأسبوعي، فربما تكون علته بسيطة وتُشفى ببعض الأعشاب الطبية المألوف التداوي بها ... ساءت حالته أكثر وانضاف الدوار وألم الرأس إلى الثعب والإرهاق المزمن، وللأسف لم تفلح الأعشاب في التخفيف عنه.
بعد أيام قليلة أصبح طريح الفراش، تهافت عليه إخوته، وأخيرا قرروا نقله للمركب الاستشفائي الجامعي بفاس في اليوم الموالي، رغم حالته السيئة لم يعرض على الطبيب ذلك اليوم ، لا رجاء ولا بكاء ولا مواطنة ولا إله ينفع أمام أزمة الصحة بالمغرب، فضلا عن زبونية الخدمة بالمستشفيات العمومية، دون أن ننسى تغول بعض الممرضين وبعض الأطباء وحتى بعض الحراس بهذه المؤسسات، وطبعا لا نعمم، هناك استثناءات والاستثناء ليس قاعدة للقياس، لذلك فالواقع هو المحسوبية والزبونية والتغول مقابل حق إنساني أممي ووطني دستوري، كأنهم يقولون للمريض مُت أو انتظر ...
عادوا خائبين صاغرين، لا يملكون لأخيهم شيئا سوى الشفقة والبكاء لأجله، بماذا ينفع البكاء أمام مرض خبيث مجهول لا يُمهل ... مرت الأيام كأنها أعوام وحان الموعد المنتظر، عُرض على الطبيب وطلب منه القيام بفحوصات، ومرة ثانية عليه أن ينتظر ثلاثة أسابيع لبعض الفحوصات المكلفة، عادوا مثقلين بمأساتهم، لا حل سوى الانتظار ، وما أقسى الانتظار حين يصبح إيذانا بتعفن أجساد الفقراء ... زاد هُزاله واهتزت نفسيته، علة البدن واكتئاب النفس وانكسار الخاطر، وإحساس بالقهر يجتاح مخيلته، أصبح يطلب الموت رحمة له ورحمة لذويه.
مرت تلك الأسابيع الثلاث وقام بالفحوصات في موعدها وعُرض على الطبيب، الذي لم يعطه الكثير من الوقت، بلمحة بصر اطلع عليه وفحصه، وقدم له وصفة دواء وضرب له موعدا بعد شهر. التزم بتعليمات الطبيب وتناول أدويته، التي كان لها بعض الأثر في التخفيف عليه يوم أو يومين على الأكثر، لكن سرعان ما يعاوده الألم، بل تطور الأمر إلى اضطراب عقلي جعله يخرج هائما لا يعرف أين يذهب ... استمر على هذا النحو شهورا، إذ اكتفى الطبيب حينما رآه آخر مرة بتعزيز الوصفة السابقة بأدوية أخرى. غادرت أخواته المنزل الكبير، فطبعا لهن حياتهن ومشاغلهن، حتى أخوه كان منشغلا بحرث حيازتهم البورية الصغيرة المعلقة على سفح الجبل استعدادا للموسم الفلاحي، لا مفر من العمل، بلا عمل لا سبيل للخبز، وحينها سينضاف الجوع إلى المرض، لذلك كان أخوه حريصا على أشغاله الفلاحية البسيطة. هكذا ظل لوحده يواجه مصيره المحتوم، وحدته حتمت عليه طلب ابن أخيه الصغير الذي لا يتعدى أربع سنوات لعله يؤنسه في وحدته القاتلة، كان يلاعبه بحِلم ويُسر، ويعلمه ما بحوزته من حروف وكلمات على قلتها، رغم محنته المؤلمة كان يبستم مستسلما لعفوية وبراءة الطفولة.
ساءت حالته وقرر الذهاب لوحده للمستشفى تجنبا لإثقال ميزانية أخيه بمصاريف جديدة لا غاية تُرجى منها، إلا أنه ذهب في الوقت الخطأ ولم يلتزم بقانون الانتظار، لذلك لم يُعره أحد الاهتمام بعد أن سألوه عن موعده، خرج منكسرا واحتمى من أشعة الشمس تحت حائط المستشفى ، وتمدد على الأرض بعد أن أرهقه استجداء العلاج، ورأسه تتصبب عرقا من شدة الألم، وعيناه تدمعان تحصرا على حاله الميؤوس منها وعلى وحدته وغياب الأهل، رغم أنه يتحمل خطأ عدم إخبارهم بنيته زيارة الطبيب، فكر في الانتحار لعله يتخلص من جسده الرخيص، لكن تذكر حكم الإسلام الذي يحرم قتل النفس بغير حق، اكتفى برفع كفيه للسماء راجيا الله أن يرحمه بفصل روحه عن جسده المعتل، ثم فكر في أن يصرخ عاليا في وجه ظلامه ويمزق ورقة الهوية، لكن؛ سبقه نداء الجمعة، لعن الشيطان الذي سوغ له تلك الأفكار البلهاء الكافرة، نهض متثاقلا، هزم الألم وأسرع في خطاه، بحث عن أقرب مسجد، توضأ عن عجل وتسلل وسط الازدحام، جلس في الصفوف الأولى قبالة الخطيب، نسي المرض والقهر ومنفى الوطن، وأسهب فكره للخطيب لعله يفضي إليه بالخلاص.
لحظة الخلاص
التقطت أُذناه عبارة كأنها مخصصة له؛ حملك ثقيل وحظك قليل وهمومك تنوء بحملها الجبال ... أضاف الخطيب قائلا؛ يا عباد الله المؤمن مصاب فلم الاعتراض على قدر الله، أن يبتليك الله فقد أحبك، فصبرا جميلا ... ابتسم رغم ما به من ألم، وقرر أن يكون في مستوى الابتلاء وأن يرضى بالقدر خيره وشره، غادر المدينة متجها إلى بلدته، وجد إخوته قلقين عليه، إذ لم يعتادوا على غيابه منذ بداية مرضه، دخل متثاقلا بالكاد تقوى قدماه على حمل جسده العليل، ابتسم في وجوههم وأخبرهم أنه من الآن فصاعدا لن يزور أي طبيب، مرت ستة أسابيع، ساءت حالته الصحية كثيرا، وفي إحدى الليالي جن جنونه وزاد ألمه، كنت حاضرا حينها، كانت ليلة محزنة ومتعبة، إذ نقلناه على وجه السرعة بعد منتصف الليل إلى المركب الاستشفائي بفاس، انتظرنا نحو ساعة إلى أن جاء طبيب برفقته طبيبان متدربان، أشار لهما بالنظر في حالته، لازلت أتذكر، حين سألتهما عن مرضه، قالا أن حالته معقدة جدا ويصعب شرحها وأن ذلك شأن الطبيب، لم تكن المرة الأولى التي يُعرض على أطباء متدربين، غير قادرين حتى على تشخيص حالته وتسمية مرضه، بل ربما كانت الثالثة أو الرابعة كما أكد لي زوج أخته.
عدنا خائبين دون سبيل للعلاج، رمقته يتأملني بنظرة حزينة، كأنه يعتذر أو يريد قول شيء؛ نظرته ألهمت مخيلتي، فأنشدت في مناجاة وطني، قائلا في همس لا يبرح مسمعي:
رسمنا الوطن ... رفعنا العلم ... صدقنا النشيد
بعد سنين اكتشفنا أن ذلك كان لعبة وأننا عبيد
وأن رحلتنا كانت نزهة لمنفى يطلق عليه الوطن
مر على تلك الليلة المظلمة نحو أسبوع، اتضح أن القدر يقوده ببطء إلى القبر ، ذات صباح ربيعي سمع أهل الدوار نحيبا وصراخا، إنها لحظة الخلاص التي اجتهد في طلبها وانتظرها طويلا دون يأس، مات دون تشخيص لمرضه المجهول ... لم يجد مخرجا لمحنته سوى أن يحتكم إلى موعظة خطيب الجمعة حول القدر والابتلاء، مات بوطن يعالج فيه قدر المرض بالمساجد بدل أن يعالج بالمستشفيات، كحال أوطان يُقال أنها كافرة لكنها مؤمنة بالحرية والكرامة، شعارها الوحيد هو الإنسانية والمواطنة ...
الآلاف مثلك يا ابن الجبل يموتون يوميا بسبب حرمانهم من حقهم في العلاج أو بسبب الإهمال، لأنهم بكل بساطة فقراء وللأسف هذه الأرض لا تعترف بالفقراء شركاء بهذا الوطن، هم فقط بنك بشري جاهز للصرف وقت الحاجة ... أحييك وأقول لك بملء قلبي الرحمة على روحك الطيبة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مفوض الأونروا: إسرائيل رفضت دخولي لغزة للمرة الثانية خلال أس


.. أخبار الساعة | غضب واحتجاجات في تونس بسبب تدفق المهاجرين على




.. الوضع الا?نساني في رفح.. مخاوف متجددة ولا آمل في الحل


.. غزة.. ماذا بعد؟| القادة العسكريون يراكمون الضغوط على نتنياهو




.. احتجاجات متنافسة في الجامعات الأميركية..طلاب مؤيدون لفلسطين