الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حدث في قطار آخن -46-

علي دريوسي

2016 / 4 / 5
الادب والفن


وصل إلى محطة القطار، الحركة قليلة في هذا الوقت فالساعة قد شارفت على العاشرة، و من ذهب إلى عمله فقد ذهب أبكر من هذا الوقت بكثير، لم يتبق هنا إلا العاطلين بإرادتهم عن العمل ومن هم في عمر التقاعد. بحث بعينيه المتعبتين عن دورات المياه، أفرغ أمعاءه، غسل يديه ووجهه، أخرج من حقيبته غياراته الداخلية، منشفة، معجون أسنان وفرشاة، نظّف أسنانه، بدّل ملابسه الداخلية، وضع قليلاً من الجيل على شعره، مسح نظارته وخرج يبحث عن كافيتريا المحطة، طلب فنجان قهوة كبير وقطعتي كراوسون، من كرسيه اِستطاع أن يتابع مواعيد رحلات القطارات، شَرِقَ بالقهوة وفتات الكراوسون حين عَلِمَ بأنّه سينتظر في المحطة قرابة الساعتين بسبب أعطال طارئة في سكة الحديد، قبل أن يحين موعد رحلة قطاره المسافر إلى آخن... تأفَّف ونهض من جلسته، حمل حقيبته وكوب قهوته وخرج إلى الشمس، شعر بآلام خفيفة في ظهره، باِنتباج خصيتيه، بجاهزيتهما للحُبّ...

"... عندما دعته ابنة الجيران الثلاثينية فاطمة لمرافقتها في مشوار المساء، على الطريق الأسفلتي الضيق المؤدي إلى القرية المجاورة كان لا يزال تلميذاً في الثانوية العامة، مشتْ ومشى بجوارها، تكلمتْ كثيراً وأصغى إليها، كتفها لامس ذراعه، تعمّدتْ أنْ يلامس جسدها جسده مراراً، أتعبته الاحتكاكات، شعر بآلام في ظهره، شعر بألم بين فخذيه، عندما افترقا وعاد لمنزله، أرخى جسده على السرير وبكى... سأله أخوه الذي يكبره سناً عن الأمر، أجابه والدمعات لا تفارق عيونه الصغيرة: كنت مع اِبنة الجيران وظهري يؤلمني... ضحك الأخ وقال: كنت معها أيضاً ذات يوم وآلمني ظهري، اذهب إلى الحمام..."

مدّ أصابعه إلى علبة البولمول، العلبة فارغة، رماها في سلة المهملات، تَذكَّر أنّ سابينه قد حشرت في جيوبه أكثر من علبتين، وجد علبة ثانية، فتحها بتلذذ، وضع سيجارة بين شفتيه، جاءه همسها من خلفه، دو أرشلوخ، سحبت السيجارة من شفتيه، رمتها، قالت له: أكرهك، شدته من قميصه، رضعت شفتيه، براحة يدها اليسرى حضنتْ خصيتيه بشبقٍ وأجابته: أكرهكَ، جَنْنَّتَني... اِستَنشَقَ الهواء الخارج من أنفها، تَشَمَّم رائحتها، اِستيقظَ، قال لها: تأخرتِ، اشتقتكِ!

وضعتْ رأسه بين كفيها، نظرتْ إلى عينيه وقالت: حبيبي، ما تزال تحت تأثير كوكاكيين الأمس، لا تقلق، كل شيء سيعود إلى طبيعته، ثق بي!
أجابها كالمسرنم إلى حتفه: أثقُ بك!
قالت: الكوكايين يجعلك حراً! وأردفت: لقد حصلت على ما تستحق!

***** ***** *****

"العمل يجعلك حراً" أو "لكل شخص ما يستحقه" هي عبارات وشعارات ألمانية، تَصَدّرتْ بوابات معسكرات الإعتقال النازي... لا يُجيز القانون اليوم استخدام هذه الكلمات عن سابق قصد... أو الاِلتفاف على هذه العبارات بشبيهاتها، كأن تقول مثلاً: "اجتماعي هو ما ينجزه العمل" أو
"التحليق يجعلك حراً"... هذه العبارات تشبه إلى حدٍ كبير عبارات شرقية على نمط "وأنْ ليسَ للإِنسانِ إلَّا ما سَعَى" أو "ولكمْ في الْقِصَاصِ حياةٌ يا أُولِي الألْبَابِ"... لا أحد يعرف ماذا كُتب على بوابات السجون في الشرق، المُعتَقل يدخل إما معصوب العينين أو فاقد الوعي، أما عند إطلاق سراحه فلن يلتفت إلى الوراء قطعاً.

- تعال معي حبيبي، هنيلوري تنتظرنا في السيارة، لا نرغب أنْ نضيّعكَ!

ما إنْ وصلا إلى السيارة البيضاء، حتى فُتِح الباب ونزلت منها هنيلوري، اِبتسمت بعصبية وقالت نصف ممازحة: رجلٌ شايصي، لقد أتعبتنا في عيد ميلادي، اِصعد إلى السيارة ولا تعمل شايصي بعد اليوم!
الرجل الذي يجلس خلف المقود بكرشه الكبير ونظارته السوداء، بذقنه الخرنوبية وشعر رأسه الحليق، بالأقراط المتدلية من أذنيه، ظلّ صامتاً كرجل لا يسمع، لا يتكلم ولا يرى...

كل جملة والثانية يستخدم الألماني غير المهذب جداً كلمة بيولوجية هي شايصي، ومعناها: بِراز أو غَائِط. لدرجة تظن بها وكأنّ الثقافة الألمانية متمركزة في المؤخرة! وشايصي هي الكلمة الأولى التي يتعلمها الغريب الذي يدخل هذا البلد بل يتفنن بترديدها. أما الكلمة الثانية الي يتعلمها فهي شفاين وتعني خنزير، لتحل كلمة أرشلوخ في المرتبة الثالثة والتي تعني ثقب المؤخرة. حتى أنّ السياسي الألماني يوشكا فيشر، وزير خارجية ألمانيا وزعيم حزب الخضر، قال ذات يوم في إحدى نقاشاته: سيدي الرئيس، مع كل الاحترام الواجب، أنت أرشلوخ!

"كانوا مجموعة من الطلاب الشَرْقِييّن يتناولون طعام الغداء في أحد المقاصف الجامعية، اِنضمتْ إليهم بفعل الصدفة واِزدِحام المكان طالبة ألمانية برفقة صديقها، عَطَسَتْ الطالبة بحذرٍ، سارعَ أحد أفراد المجموعة للتباهي أمامها خاصةً بأنه يجيد اللغة الألمانية مثلها، قال لها بصوتٍ غِنائيّ رَنَّان وبابتسامة واثقة من نصرٍ أكيدٍ: شايصي (خراء)!"
كان المسكين قد نَسيَ حتماً كلمة غيزوندهايت (صحة) والمُعتاد قولها في مثل هذه الحالة... لعلّ كلمة شايصي هي الكلمة الوحيدة التي أتقنها!
يقول المثل الألماني: ليس كل نوع من البراز قادر على الِارْتِقَاء إلى مرتبة سماد!

جميل أن يكون للشَرْقِيّ موضوعاً/هدفاً في الغربة، يعمل عليه حتى يأتي موعد عودته، موعد موته... غَالباً ما تكون بِدايات بعض الشَرْقِييّن في مشروعٍ ما مُوفَّقة، لكنهم سُرعانَ ما يقومُون بالقَفْز بالعَصا إلى مَواضيع أخرى والبِدَاية من جَديد... إحدى نقاط الضُعْف الطَّبيعيّة عندَ الإنسَان الشَرْقِيّ عُموماً، هي أنّه لم يتعلَّم أنْ يؤمِن بالدَّأب والمُوَاظَبَة والتركّيز حتَّى إنجاز الهدَف... بُلوغ الهدَف يَعني المدُاَوَمَة على فعلِ الشَّيْء... هو سِرُّ النَّجاح وإدرَاك الغَايةِ.

وصلوا إلى بيت سابينه، نزلوا من السيارة البيضاء، لم يتحرك الرجل السائق من مقعده، فتح نافذة مقعده وقال بألمانية ركيكة شبه ساخرة: "غلوك آوف"... وأردف بلغة شرقية حاول جهده لتكون غير مُتقنة: غلوك آوف... هبيبي... سلام عليكم!
رددتُ التحية بمثلها "غلوك آوف".

***** ***** *****

دُعيتُ لإلقاء محاضرة في مؤتمر التصميم الهندسي في مدينة كلاوستال الجبلية، مدينة المناجم والطلاب، كانت المحاضرة تحت عنوان "مراقبة وتحليل السلوك البصري خلال قراءة الرسوم الهندسية"، ألقيتُها وسمعت ما ألقاه الآخرين. لم يكن في المؤتمر أكثر من ثلاثة وجوه ملونة ووجهي أحدها. حينئذ سألت نفسي: ما الأمر؟ أين هم الأجانب في هذا البلد؟
يحدث أن تمشي أحياناً في شارع ألماني يخلو من رائحة الغريب، أو يخلو من رائحة الألماني، وهذا ما ينطبق على المؤتمرات العلمية أحياناً. لا تسألوا عن مدى صحة كلامي، لأنكم ستضيعون وقتكم ووقتي.
في المساء، وبعد انتهاء أعمال اليوم الأول، ذهبنا جميعاً، جميع المدعوين إلى المؤتمر، لزيارة متحف منجم التعدين والأحجار الكريمة الشهير في جبال هارز في سكسونيا السفلى، أحد أهم المتاحف التقنية وأقدمها.
هناك، تم استقبالنا من الموظفين بكلمة "غلوك آوف"، وهي تحية عمال المناجم لبعضهم البعض، كلمة جميلة تجسد الأمل والحلم، كلمة تعني "أتمنى لك حظاً وافراً"، أي في الحصول على بعض الفضة بغية اللقمة، كما تعني أيضاً "أتمنى لك خروجاً سالماً من المنجم، بعد انتهاء الوردية".
رددنا جميعاً التحية بمثلها "غلوك آوف"، بدأت الزيارة والحكايات عن الماضي بآلامه ومتاعبه وأفراحه كلها، دخلنا إلى المنجم، ودخلت معهم في المنجم من بوابة المتحف الوحيدة، شاهراً غربتي، ففرّ حاجز درويش الرملي، وانقشعت تضاريس الوطن!
بعد زيارة المنجم/المتحف توجهنا إلى مطعم جميل في مركز المدينة، اسمه "غلوك آوف"، لم يشغلني معنى الاسم، كما جرت العادة، فقد بدأت أشعر بمعناه، والشكر يعود لموظفي المتحف، كان الطعام لذيذاً والنبيذ وفيراً، ومع مرور الوقت أصبحت الأحاديث أكثر حميمية...
في منتصف الليل أُطفئت الأنوار وأضيئت قناديل المناجم القديمة، فجأة ارتفع صوت أحدهم عالياً، وقف بين المدعوين بلباس أسود وبيده قِنديل، سمعت أنه أحد الطلاب الذين تخرجوا حديثاً من كلية التعدين والجيولوجيا، ألقى قصيدة معروفة بنبرة احتفالية، عنوانها "صرخة منتصف الليل الكلاوستالية"... أصدقاء الوقت المتأخر، اسمعوا صرختي المدوية المحذِرة.... الخ.
للألمان طقوس لا يعرفها الأجنبي، ولن يتعرف إلا على اليسير منها، حتى لو عاش هناك خمسين سنة! وأنا الغريب بينهم، رغم سنواتي غير القليلة، لم أفهم أكثر من 35 بالمئة مما يقول الشاب الخطيب، سألت عقلي: إذا كان الحال هكذا معي فكيف مع الآخرين!؟
انتهت أعمال المؤتمر ظهر اليوم الثاني، في طريق العودة إلى البيت مكثتُ لبعض الوقت في مدينة غوسلار، المدينة المحمية بقسمها القديم بصفتها موقع تراث عالمي، المدينة التي كانت في العصور الوسطى، مقراً لإثنى عشر قيصر من القياصرة الألمان، جلستُ في مقهى اسمه ساحة المدينة، مقهى جميل وكبير ومريح، تشعر فيه وكأنك في غرفة جلوس في بيتك، أخذت مكاناً لي قرب النافذة المطلة على ساحة المدينة، وعلى بعد طاولتين مني جلست مؤخرة يركع لها سيادة الرئيس، جاءت النادلة الرشيقة مثل نحلة، جاءت بابتسامتها الراضية، طلبتُ غورك (ماء ساخن مع روم) وطلبتُ فنجان قهوة، ثم غرقتُ مع أفكاري حول ما عشته في المنجم، في المطعم، في المؤتمر وحول ما يعيشه الناس في كل مكان... استرجعني صوت النادلة من شرودي، تفضل أيها الشاب، هذا ما طلبته. اكتشفتُ متأخراً بعض الشيء، أن سيدتين طاعنتين في العمر تجلسان خلفي، الأولى تجاوزت بقليل السابعة والثمانين من العمر، والأخرى تجاوزت حتماً الخامسة والسبعين من العمر، السيدة الأعمر هي عمة السيدة الأخرى، هكذا وصلني، كانت العمة حزينة، جهاز الراديو في مطبخها لم يعد قابلاً للإصلاح، بل لم يعد هناك مكانٌ يهتم بإصلاح الأجهزة المعطلة في هذا البلد، كانت العمة قلقة على مستقبل البلد أيضاً، وحزينة لأن أحد شوارع القرية قد خلا من سكانه، كانت العمة كئيبة لأن بضعة محلات في ساحة المدينة قد أُغلقت إذ لم تصمد أمام التنافس مع الأسواق الكبيرة، مع رأس المال..."

***** ***** *****








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم الممر مميز ليه وعمل طفرة في صناعة السينما؟.. المؤرخ ال


.. بكاء الشاعر جمال بخيت وهو يروي حكاية ملهمة تجمع بين العسكرية




.. شوف الناقدة الفنية ماجدة موريس قالت إيه عن فيلم حكايات الغري


.. الشاعر محمد العسيري: -عدى النهار- كانت أكتر أغنية منتشرة بعد




.. تفاصيل هتعرفها لأول مرة عن أغنية -أنا على الربابة بغني- مع ا