الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العبودية في الولايات المتحدة الأمريكية

أحمد شوقي

2016 / 4 / 6
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة


«إن العبودية المباشرة – مثلها كمثل الآلات والديون…إلخ – هي المحور الذي يدور عليه التصنيع الحديث. فبدون العبودية لن يكون هنالك قطن، وبدون القطن لن تكون هنالك صناعة حديثة. فالعبودية هي ما أعطت المستعمرات قيمتها، والمستعمرات هي من صنع التجارة العالمية، والتجارة العالمية شرطٌ ضروريّ للصناعة الآلية. بناءً على ذلك، لم ترسل المستعمرات قبل تجارة العبيد إلّا بضاعة قليلة للعالم القديم، ولم تغيّر وجه العالم بشكلٍ ملحوظ. فالعبودية إذًا قطاعٌ اقتصاديّ ذو أهميّة بالغة، وبدون العبودية ستتحول أكثر الأمم تقدمًا – أمريكا الشمالية – لبلدٍ أبويّة. فإن محوت أمريكا الشمالية من على الخريطة فالحاصل هو فوضى واضمحلالٌ تام للتجارة والحضارة الحديثة. وأن تمحو العبوديّة يعني أن تمحو أمريكا من على الخريط. ولكون العبودية قِطاعٍا اقتصاديًا، فقد كانت موجودة في كلّ الأمم منذ بداية العالم. وكلّ ما حققته الأمم الحديثة هو أنّها قنّعت العبودية في أرضها وصدّرتها بشكلٍ صريح إلى العالم الجديد». – كارل ماركس

كان عمل السود المُجبرين على القدوم للعالم الجديد كعبيد ضروريًا للنمو الاقتصادي ليس فقط في المستعمرات الجديدة، سواءً أكانت في بحر الكاريبي أو أمريكا اللاتينية أو أمريكا الشمالية، بل كان ضروريًا أيضًا للقوى العظمى في «العالم القديم».

ولكن العبودية لم تأتِ خالية من الزخارف الأيديولوجية. فقد تطوّرت إيديولوجيا متميّزة تاريخيًا صُمِّمت لتبرير العبودية وقمع العبيد مع نمو تجارة العبيد عبر المحيط الأطلسي.

كانت العنصرية العرقية والقمع العرقي إحدى ملامح الحياة اليوميّة للسود في الولايات المتحدّة لأكثر من 350 سنة. ولكن استمرار العنصرية ليس حتميًا والعنصرية العرقية – خصوصًا في شكلها الحالي – لم تكن موجودةً دائمًا. فالعنصرية العرقية والقمع العرقي أبعد من أن يكونا النتيجة الحتميّة لتخالط شعوبٍ مختلفة، فهما انبثقا عن نقلة أوروبا من النظام الإقطاعيّ للنظام الرأسمالي. فالمجتمعات القديمة والمجتمعات الإقطاعية استطاعت العيش دون نوع الظلم هذا.

انبثقت العنصرية العرقية على وجه التحديد من أوروبا الغربية والعالم الجديد كأحد نواتج تجارة العبيد، وكانت هي كذلك التبرير الأيديولوجي للاستعباد. فالزينوفوبيا والتفرقة ما بين «البربري» و«المتحضر» وُجِدت سابقًا، لكنها لم تتخذ طابع العنصرية العرقية الجديدة. على سبيل المثال:


هنود أمريكا الشمالية الذين قابلهم المستوطنون الأوربيون بدايةً كان لديهم مفهوم «الغرباء»، أي غير المنتمين للمجموعة أو القبيلة أو الأمة. ولكنّ حقيقة عدم حملِ هذا المفهوم أيّ طابعًا عرقيًّا يمكن تبيانها ليس فقط في ممارسة تبنيّ القبائل الهنديّة أسرى الحروب مع القبائل الأخرى داخل قبيلتهم مكانَ أقربائهم المقتولين، وإنما يمكن رؤية ذلك في تبنيّ هذه القبائل للأسرى الأوروبيين البيض كأعضاءٍ متكاملين من القبيلة. احتجّ هيكتور دي كريفكور في «رسالات من مزارعٍ أمريكيّ» (1782) أن «آلاف الأوروبيين قد أصبحوا هنودًا»، ولكن «ليس لدينا مثالٌ واحدٌ فقط لتحوّل أحد هؤلاء السكان الأصلين عن قناعةٍ لأوروبيّ!».

وادعى المؤرخ فرانك سنودن أنّ:


التمييز على أساسِ اللون كانت قضيةً رئيسية في العالم الجديد…من الملاحظ إذًا حقيقةُ كون العالم العتيق لم يجعل من اللون مركزًا للمشاعر غير المنطقية أو أساسًا للأحكام غير المُمحّصة. قبِل القدماء بمؤسسة العبودية كواقعٍ حياتيّ، وأطلقوا أحكامًا ذات استعلاءٍ إثني على المجتمعات الأخرى، وكان لديهم مفاهيم نرجسية للجمال الجسدي، فالمصريون ميّزوا ما بين أنفسهم «الشعب» وما بين الآخرين، واليونانيّون أطلقوا على الثقافات الأخرى مسمّى البرابرة. ومع ذلك، فلم ينشأ أي شيءٍ يُقارَن بالإجحاف الخبيث على أساس اللون في العالم العتيق كما نشهد اليوم في عالمنا الحديث. وهذا هو الرأي الذي وصل له أغلب الباحثين الذين درسوا الأدلة: أنّ القدماء لم يقعوا في خطأ العنصرية البيولوجية، ولون الجلد الأسود لم يكن رمزًا للدونيّة، واليونانيون والرومان لم يجعلوا من اللون عائقًا للاندماج في المجتمع، والمجتمعات العتيقة «بكلّ أخطائها وإخفاقاتها لم تجعل من اللون أساسًا للحكم على الرجال».

إن نظام العبودية الذي نشأ في العالم الجديد كان مختلفًا في عدّة جوانب جوهرية. أهمّها هو أنّه كان مبنيًا على «العرق» – حيث كان الأفارقة هم العبيد – وذلك على الرغم من أنّ سبب استعباد السود اقتصاديًا لا عرقيًا، والمحاولات الأولى لتلبية الطلب الهائل – والمتزايد باستمرار – على اليد العاملة في العالم الجديد تضمن محاولات استعباد السكان الأصليين والبيض. وعندما فشلت تلك المحاولات أصبح الأفارقة المصدر الرئيسيّ لليد العاملة.

كتب إيريك ويليامز، أحد رواد مؤرّخي نظام العبودية في العالم الجديد في كتاب «من كولومبوس إلى كاسترو: تاريخ بحر الكاريبي»: «لقد قيل عن الغزاة الإسبانيين أنهم وقعوا أولًا على ركبهم، ومن ثمّ وقعوا على السكان الأصليين. فعندما أعلنوا عن مستعمراتهم لله وللملك، عزِم الإسبانيون على إخضاع السكان الأصليين للعمل على ضخّ ثروات المستعمرات خدمةً للتاج الإسباني»، وأضاف:


تمّ تخصيص الهنود بحصصٍ من خمسين شخصٍ، أو مئةِ شخصٍ أو أكثر – عن طريق العقود المكتوبة أو بالنيّة – للعمل في حقول ومزارع المواشي للعمل لدى إسبانيين إما في مزارعهم أو في المناجم الغرينية لاستخراج غبار الذهب، ومُنِحوا أحيانًا لمسؤولي الدولة أو لكهنة الأسقفية كبدلٍ لجزءٍ من راتبهم السنوي. كان تأثيرُ ذلك ببساطة هو تقسيم السكان الأصليين ما بين المستوطنين ليفعلوا بهم ما يشاؤون.

وكانت النتائج كارثيّة:


يجب رؤية النتائج في أفضل التقديرات التي أُعِدّت عن تغيّر التعداد السكاني في جزيرة هيسبانيولا. نرى أنّها تضع التعداد السكاني في 1429 ما بين مئتي ألف وثلاث مئة ألف نسمة. وبحلول 1508، انخفض هذا العدد حتى وصل إلى ستّين ألف نسمة، وفي 1510 وصل إلى ستة وأربعين ألفًا، وفي 1512 انخفض إلى عشرين ألفًا ومن ثم انخفض أكثر حتى وصل إلى أربعة عشر ألفًا في عام 1514. وفي 1548، شكّك المؤرخ الإسباني أوفيدو عمّا إذا ظلّ في هيسبانيولا خمس مئة هنديّ نقيّ العرق. وبحلول عام 1970، ظلّت قريتان فقط من قرى السكان الأصليين تلك التي طمأن كولومبوس أسياده حولها قبل أقل من ثمانين سنة من ذلك الوقت بأنّه «ليس هنالك أناسٌ أفضل أو ألطف منهم في العالم».

بعد أن ثبت أن اليد العاملة الأفريقية المستعبدة أوفر عددًا وأرخص من كلا الأمريكيين الأصليين والعمال البيض السخرة[*] كان الحاصل النهائي أنّ الاستعباد اقتصر حصريًا على السود. واستنادًا لإيريك ويليامز،


هنا إذًا أساسُ استعبادِ الزنوج. السبب كان اقتصاديًا، ولم يكن عرقيًا. لم يكن للأمر علاقة بلون العامل، بل برخصِ العامل، بالمقارنة مع العامل الهنديّ والعامل الأبيض، استعباد الزنوج كان أجدى نفعًا…إن ملامح الرجل وشعره ولونه ومعجون أسنانه وطباعِه «غير البشرية» المزعومة كانت فقط مسوغات هدفها تبرير حقيقةٍ اقتصادية بسيطة: أنّ المستعمرات احتاجت لليد العاملة ولجأت لليد العاملة الزنجية لأنها كانت الأرخص والأفضل. وهذا لم يكن تنظيرًا، وإنما هو استنتاج عمليّ استُخلِص من التجربة الشخصية لأصحاب المزارع. وقد كان أصحاب المزارع سيذهبون للقمر إن تطلب الأمر لإيجاد اليد العاملة. ولكنّ أفريقيا كانت أقرب من القمر، وكانت أقرب أيضًا من الدول كثيفة السكان مثل الهند والصين. ولكنّ دورهما آتيًا.

العمالة غير الحرة في مستعمرات أمريكا الشمالية

بدأت مستعمرات أمريكا الشمالية غالبًا كمشاريعٍ تجارية خاصة في بداية القرن السابع عشر. وخلافًا للإسبانيين الذين عمِلت مستعمراتهم على تصدير المعادن للمركز الاستعماري، كان مستوطنو المستعمرات –التي أصبحت لاحقًا مريلاند ورود آيلاند وفرجينا – ملّاك مزارع. وكان هدف المستوطنين الرئيسي هو الحصول على قوّة عاملة بإمكانها إنتاج كميات كبيرة من النِيلة والتبغ والسكر والمحاصيل الأخرى التي تُباع لاحقًا في إنكلترا. ومنذ 1607 – حين أُسِّست مدينة جيمستاون في فيرجينيا – وحتى 1685، كان المصدر الرئيسي للعمالة الزراعية في مستعمرات أمريكا الشمالية الإنكليزية هم الخدم البيض السخرة، بعد أن فشل المستوطنون في بناء قوى عاملة مستديمة مكوّنة من الشعوب الأصلية.

وبعد أن انتهت عقود الخدم السخرة، سعى الكثير منهم للحصول على أراضٍ خاصه لهم. وكانت أعداد العبيد السّود العاملين في المزارع صغيرة طوال القرن السابع عشر. ولكن حتى نهاية القرن السابع عشر، كانت تكلفة شراء العبيد أكثر من تكلفة شراء الخدم البيض. وبعض السود الذين عاشوا في المستعمرات كانوا أحرارًا، وبعضهم كانوا عبيدًا، وآخرون كان خدم. وكان لدى السود الأحرار حقّ التصويت في مريلاند وماساتشوستس ونيو يورك وكارولاينا الشمالية وبنسلفانيا وفيرمونت. وفي القرن السابع عشر، كان لمجتمع تشيسابيك في شرقيّ فيرجينيا طابعٌ متعدّد الثقافات:


هنالك أدلّة مقنعة تعود لعشرينات القرن السابع عشر وحتى ثمانيناته تشير لوجود من هم مِن أصولٍ أوروبية في تشيسابيك ولديهم استعداد للاصطفاف مع ذوي الأصول الأفريقية والتعاون معهم. وهذه الألفة تكوّنت في سياق عمل المزارع. وفي الكثير من المزارع، عمِل الأوروبيون ومن الأفارقة الغربيين جنبًا إلى جنب في حقول التبغ، منفّذين المهامّ ذاتها في النوع والمقدار، وأكلوا مع بعضهم البعض وشاركوا المساكن، وكوّنوا صداقاتٍ وفي بعض الأحيان ناموا مع بعضهم البعض.

ولأغلب القرن السابع عشر، اعتمد المزارعون في الدرجة الأولى على قوّةٍ عاملِة بيضاء في الغالب من خدمٍ إنكليزيين وإسكوتلنديين وإيرلنديين. ولكن المزارعين وجودوا أنّ القوة العاملة البيضاء بدأت تزداد تمرّدًا وتزداد غلاءً أيضًا. باعتبار القرن السابع عشر فترة هيجانٍ ثوريّ في إنكلترا، بدأ العديد من الخدم بالمطالبة بحقوقهم. وأولئك الذين أنهوا عقودهم أصبحوا منافسين مباشرين لملّاك المزارع في هذا المجال. ومع تزايد سعر الخدم، طلب أصحاب المزارع من الإدارة الاستعمارية أن تبدأ تصدير العبيد الأفارقة على نطاقٍ واسع.

ومع نهاية القرن السابع عشر، أصبح بإمكان المزارع أن يشتري عبدًا أفريقيًا مدى الحياة بسعرٍ مساوٍ لسعر الخادم الأبيض ذو عقدٍ مدتّه عشر سنوات. وقرار التوجّه نحو يدٍ عاملة محدّدة عرقيًا كان له عواقب إنسانية شنيعة. ما بين 1640 و1800، نُقِل أكثر من أربعة ملايين شخصٍ من إفريقيا الغربية قسرًا إلى العالم الجديد. ومن المحتمل أن يكون عدد العبيد السود الذين وصلوا للأمريكيّتين ما بين عشرة لخمسة عشر مليونًا، وهو ما يقارب ثلثًا واحدًا من أولئك الذين أُسِروا في أفريقيا. وأوضاع الرحلة عبر الطريق الأوسط، وهي الرحلة التي تقوم بها سفن الرقيق من أفريقيا عبر الأطلسي، كانت مروّعة، حيث تم تقييد البشر وتكديسهم كالحطب، وقتل منهم المرض والاختناق مئات الآلاف.

يزعم كثيرٌ من المؤرخين – إن لم يكن أغلبهم – أنّ القوة المحرّكة للعبودية كانت العنصرية العرقية عوضًا عن طلب اليد العاملة. والنسخة الخام لهذه الدعاء تقول أنّ الاستعباد نمى بسبب العنصرية الأوروبية. والنسخة الأكثر تطوّرًا متطابقة تقريبًا مع النسخة الخام – فيما عدا أنها تقرّ بالحاجة للعمالة – حيث تستخلص أنّ الإقرار على الاستعباد كحلّ لنقص العمالة، وبالتحديد استعباد الأفارقة، كان بسبب عمق العنصرية العرقية.

ولكن هذه المزاعم تقلب منطق العمليّة رأسًا على عقب، فكما أشارت المؤرخة باربرا فيلد:


الأرجح أن أغلب المؤرخين الأمريكيين ينظرون للعبودية في الولايات المتحدة كنظام علاقاتٍ عرقية – وكأن وظيفة العبودية الرئيسية هي إنتاج التفوقية البيضاء بدل إنتاج القطن والسكر والأرز والتبغ. وصل أحد المؤرخّين لأن وصف العبودية كـ«أقصى فاصلٍ عنصري». ولا يتساءل لِم يبذل هؤلاء الأوروبيون الساعون لتحقيق الطريقة «القصوى» للفصل ما بينهم وبين الأفارقة قصارى جهدهم ومالهم في سبيل نقل الأفارقة عبر الأطلسي لتحقيق هذا الهدف، بينما كان بإمكانهم إبقاء الأفارقة في أفريقيا لتحقيقه. بإمكاننا أن نرى أنّه في تحليل صراع الإنكليز ضد الإيرلنديّين، لا أحد يجرؤ على النظر لها كمشكلة علاقاتٍ عرقيّة، مع أن التبريرات التي طورّها الإنكليز لقمع «الإيرلندي البربريّ» لاحقًا استُخدِمت بالحرف تقريبًا في لتبرير قمع الأفارقة والهنود الًاصليين الأمريكيين.

إن النظرة التاريخية الغالبة للعبودية تضع الأفكار – بالتحديد، الأفكار العرقية – كالمحرك الأساسي للتاريخ. وهذه النظرة للتاريخ تقزّم تمامًا الرابطة الماديّة بين الرأسمالية ونموّ العنصرية العرقية. فالعبودية الاستعمارية كانت ذات ارتباطٍ وثيق بنموّ الرأسمالية ولم تكن من بقايا نظامٍ قديمٍ للإنتاج. صاغ ذلك كارل ماركس بأن قال:


إن اكتشاف الفضة والذهب في أمريكا، واجتثاث واستعباد وقبر الشعوب الأصلية لتلك القارة في المناجم، وبداية غزو الهند ونهبها، وتحويل أفريقيا لمحميةٍ لصيد الجلود السوداء التجاريّ، كلّها أمورٌ تميّز بزوغ عصر الإنتاج الرأسمالي. هذه الإجراءات الخلّابة هي لحظاتٌ رئيسية للتكديس البدائي.

العبودية والثورة الأمريكية

انتشرت العبودية في الولايات المتحدة في المقام الأول في المستعمرات الجنوبية، وقد كانت موجودةً في الشمال أيضًا، مع أنها كانت هامشية في الاقتصاد الشماليّ. بحلول 1776، شكّل العبيد 40 بالمئة من تعداد سكان المستعمرات من مريلاند وجنوبًا حتى جورجيا، ولكنّهم شكلوا أقلّ من 10 بالمئة من سكان المستعمرات الشمالية. وقد شكّل السود خُمس إجماليّ السكان في وقت حرب الاستقلال الأمريكية في 1776.

والثورة الأمريكية لم تلغي العبودية على الرغم من نمو تيارٍ قويّ مؤيّد لإلغائها. فالمسودة الأصلية لإعلان الاستقلال التي صدرت في يونيو 1776 احتوت هجومًا على تجارة الرقيق واصفةً إياها كـ«حرب وحشيّة على الطبيعة البشرية بذاتها»، ولكنّ هذه الجملة أُسقِطت في النسخة النهائية. فالتجّار الشماليون أنفسهم كانوا ضالعين في تجارة الرقيق، وتوظيف العبودية أصبح منتشرًا، خصوصًا في الولايات الجنوبية.

من المفارقات الثورة الأمريكية أنها كسرت سلاسل الحكم الاستعماري، وكبّلت خُمس شعبِ الولايات المستقلة حديثًا بسلاسل العبودية. فالديموقراطية الأمريكية والعنصرية الأمريكية انبثقتا كـ«توأمٍ سياميّ»، كما وصفتهما باربرا فيلدز. ففي المجتمعات الإقطاعية، حيث هنالك ملوك ولوردات، وأتباعُ والأقنان، لم يكن هنالك حاجة لتبريرٍ مفصّل للعبودية فهي كانت تتناسب مع الطبيعة الهرمية غير المتساوية للأمور. ولكن في مجتمعٍ يدّعي أنّ «كل البشر خُلِقوا متساوين»، كانت هنالك حاجة لتطوير تفسيرٍ منهجيّ يبرر حرمان بعض الناس من حقوقٍ خوِّلت لغيرهم. استخلصت باربرا فيلدز أنّه «لهذا السبب كان المجتمع الاستعباديّ في الولايات المتحدة الوحيد في نصف الكرة الأرضية الغربيّ الذي طوّر عقيدةً ممنهجة تأييدًا للعبودية، ولا تجد هذا الأمر في أيّ مكانٍ آخر. فالاستعباد ليس بحاجةٍ للتبرير إن كان يبدوا متناسبًا مع التنظيم الطبيعي للأمور. ستحتاج توكيدًا متطرفًا للاستعباد فقط حيث يوجد توكيدٌ متطرف للحرية». وقدم فريدريك إنجلز وجهة النظر نفسها تقريبًا، حيث أشار لهذا التناقض الجوهري فكتب: «إنّه لأمرٌ بليغ أن الدستور الأمريكيّ، وهو أول وثيقة تقرّ بحقوق الإنسان، عزّز بنفس النفَس على استعباد الأعراق الملوّنة الموجودة في أمريكا: فالامتيازات الطبقية حُظِرت، والامتيازات العرقية كُرِّست».

وأوضح قادة الثورة الأمريكية أن إنهاء طغيان الملك البريطاني لا يعني إنهاء طغيان الحكم الطبقي، وليس ذلك أمرًا مستغربًا فهم كانوا الطبقة المسيطرة. ومثّل أليكسندر هاملتون أكثر الآراء أرستوقراطية من ضمن نظام الحكم الجديد:


إن كل المجتمعات تقسّم نفسها للقلة والكثرة. القلّة هم الأغنياء وذو الأصول العريقة، والآخرون هم جمع الناس. لقد قيل أن صوت الناس هو صوت الله؛ ولكن مهما اقتُبِست هذه المقولة وأومِن بها، فهي واقعًا ليست صحيحةً. فالناس مضطربون ومتغيّرون؛ ونادرًا ما يحكمون أو يقررون بحكمة. أعطِ، إذًا، الطبقة الأولى حصّةً متميزة ودائمة في المحكمة…فهل بإمكان تجمعٍ ديموقراطي، يدور سنويًا حول جمع الناس، أن يكون ثابتًا لتحقيق المصالح العامة؟ لا شيء سوى هيئةٍ دائمة يستطيع كبح طيشِ الديموقراطية.

أحد اقتراحات هاملتون في المؤتمر الدستوريّ لسنة 1787 هو اختيار رئيس ومجلس الشيوخ بفترةٍ غيرِ محدودة. والمؤتمر لم يعمل باقتراحه لخلق «هيئةٍ دائمة» لتحكم وتكبح «طيش الديموقراطية»، ولكنّها قيّدت بشدّة المشاركة الشعبية في الانتخابات. فأعضاء مجلس الشيوخ يتم اختيارهم عن طريق المجلس التشريعي لكلّ ولاية، والرئيس يتم انتخابه من قِبل ناخبين مختارين من المجالس التشريعية أيضًا، والمحكمة الدستورية يتم تعيينها من قِبل الرئيس. حصرت عشرة من الثلاثة عشر ولاية حقّ التصويت لمرشّحي مجلس النواب لملّاك الأرضي.

وهذه القيود على حقوق «الجماهير الشعبية» لم تكن مجرد تعبيرٍ للمعتقدات الأرستوقراطية للآباء المؤسسين، ولم تكن معنيّة في المقام الأول بالانتخابات بحدّ ذاتها؛ وإنما كانت تعبيرًا للصراع النامي بين من لديهم الغنى والسلطة وبين الغالبية العظمى ممن لا يملكون أيهما. وبحلول 1787، كانت النخبة تدرك تمامًا الحاجة لتأسيس حكومةٍ مركزيةٍ قوية لتحمي مصالحها – ولتقمع، نيابةً عنهم، التمرّدات الشعبية.

فالتهديد الآتي من الأسفل كان حقيقيًا، وفي صيف 1786 أكّد تمردٌ قام بِه مزارعون ساخطون في غرب ماساتشوستس– المعروف بـ«تمرّد شَيز» – بتأكيد هذه المخاوف. على حدّ تعبير أحد المزارعين:


لقد ظُلِمت وفُرِضَ عليّ أن أقوم بأكثر من دوري في الحرب؛ وأُثقِل علي بالضرائب الطبقيّة وضرائب القرية وضرائب المنطقة وضرائب القارّة وغيرها العديد من الضرائب…وسُحِبت وجُرِرت من قبل مدراء الشرطة والمجنّدين وجامعي الديون، وبيعت ماشيتي بسعرٍ أقلّ من قيمتها

سيحصل الرجال الأقوياء على كل ما نملك وأظن أنه قد حان الوقت لننهض ونضع حدًا لذلك، فقد اكتفينا من المحاكم وضقنا ذرعًا بنقباء الشرطة وجامعي الديون والمحامين.

قرّر الأغنياء ذوو السلطة الذين حكموا أمريكا أن يرصّوا الصفوف وأن يحلّوا النزاعات التي بينهم ليؤسسوا دولةً مركزيةً قوية. قام أحد مقاتلي جيش جورج واشنطن القدامى، الجنرال هنري نوكس، بتأسيس جيشٍ من الجنود السابقين حيث يكون على استعدادٍ لاستجابة لأيّ علامةٍ على وجود تمردٍ من الأسفل. كتب هنري نوكس لجورج واشنطن في 1786 حول تمرد شَيز قائلًا:


إن الناس المتمردّين لم يدفعوا أبدًا ضرائبهم، أو لم يدفعوا إلا قليلًا منها – ولكنّهم يرون ضعف الحكومة؛ ويحسّون بفقرهم مقارنةً بالأثرياء، ويحسون بقوّتهم، وقد حسموا أمرهم بشأن استخدام قوّتهم، ليعالجوا فقرهم. فعقيدتهم هي «أنّ ملكية الولايات المتّحدة حُميت من الاستحواذ البريطاني بجهدٍ مشترك من الجميع، ولذلك يجب أن تصبح الملكية شائعةً للجميع. وأيُّ شخصٍ يعارض هذا الإيمان هو عدوٌ للمساواة والعدالة، ويجب أن يمحى من على وجه الأرض».

وفي المؤتمر الدستوري لعام 1787، اجتمع الأغنياء وذوو السلطة وتناظروا وسوّوا اختلافاتهم. جلب المؤتمر خمسة وخمسين رجلًا، كثيرٌ منهم من ملّاك الرقيق وبعضهم اعتبروا أنفسهم مؤيدين لإلغاء العبودية (المعروفين بـ«الإلغائيين»)، ومسألة العبودية أخذت تلوح طليقة، وعلى حدّ تعبير جيمس ماديسون، في كثيرٍ من المناظرات «شكلّت مؤسسة العبودية وتبعاتها خطوط التمييز». الدستور كان وثيقة تنازل ما بين مصالح ملّاك الرقيق في الجنوب والمصالح الماليّة في الشمال.

كانت الطبقة الحاكمة الجنوبية مُدركة أن ثروتها وقوتّها نبعت على وجه الحصر تقريبًا من ملكيتهم للعبيد. فعبّر وفد كارولينا الجنوبية عن هذا الشعور بوضوحٍ مطلق وبدون أي تلميحٍ بالاستحياء، إذ صرّح الجنرال بينكني أنّه بدون العبيد «ستكون كارولينا الجنوبية صحراء نفايات». وقال رولين لونديز – أحد أعضاء وفد كارولينا الجنوبية – معارضًا الإقرار بالدستور أنّه «بدون الزنوج، ستنحطّ هذه الولاية لتصبح أخسّ ولاية في الاتحاد…الزنوج هم ثروتنا، هم الثروة الطبيعية الوحيدة التي نملك».

كتب مايكل غولدفيلد معلّقًا على ذلك:


مع أن المؤتمر القارّي رفض محاولة كارولينا الجنوبية وضع صفة أبيض في الدستور، فقد قبِلت أو تنازلت بشأن كلّ المطالب الأخرى تقريبًا. ومع ذلك، فالاستسلام التامّ هذا في قبول قانونية العبودية لم يقضي على هذه القضية الرئيسية. فالخلافات الإقطاعية عن كيفية التعامل مع عبودية الزنوج ظهرت مرّة أخرى في مسألة الضرائب (1783) ومسألة التمثيل (1787). وصل الآباء المؤسسون لتسوية أخيرًا في 12 يوليو لعام 1787، بتحديد تمثيلٍ مقداره ثلاثة أخماس لكلا الغرضين، الضرائب على الرقيق وتمثيلهم في الكونغرس. ولـ«مساومة الثلاثة أخماس» هذه عواقب جسيمة.

وعلى حدّ تعبير دونالد روبنسون، وفّرت مساومة الثلاثة أخماس «إقرارًا دستورية بحقيقةِ أنّ الولايات المتحدة مكونة من أناسٍ بعضهم “أحرار” والبعض الآخر ليسوا كذلك». وعلاوة على ذلك، يضيف دونالد روبنسون أنّ ذلك أسّس لفِكرة جديدة، وهي «نظرية جمهوريّة جديدة، أن الرجل الذي عاش وسط الرقيق لديه حصّة أكبر في انتخاب النوّاب من الرجل الذي لم يعش في وسطهم. بجرّةِ قلمٍ واحدة، وعلى الرغم من إنكار مؤيّديها، أقرّت هذه النظرية بالعبودية وكافأت ملّاك الرقيق. إن قبول الأمريكيين بهذه التسوية كأمرٍ طبيعيٍّ وعادِل يقيس مقدار تكيّفهم مع العبودية في القرن الثامن عشر».

بالإمكان اختصار البنود الرئيسية في الدستور بخصوصِ العبودية على النحو التالي: أولًا، مُنع الكونغرس من حظر استيراد الرقيق قبل عام 1808. ثانيًا، أُلزمت الولايات الحرّة دستوريًا على إرجاع كل الهاربين من العبوديّة لملّاكهم. ثالثًا، ولغرض التمثيل الانتخابي وفرض الضرائب، يتم عدّ ثلاثة أخماس السكّان الرقيق ومعهم الأحرار. لاحقًا في المؤتمر الدستوري، وافقت الوفود على طريقةٍ لانتخاب الرؤساء، رافضين الانتخابات المباشرة (لإيمانهم بأنّ الناخبين لا يمكن الوثوق بهم)، توافقت الوفود على إنشاء المجمّع الانتخابي لاختيار الرئيس. وتم التقرير لاحقًا أنّ كلّ ولاية سترشّح الرئيس عن طريق الإدلاء بعددٍ محدد من أصوات المجمّع الانتخابيّ، مساوٍ لمجموعِ ممثليها في الكونغرس، حيث يحصل الفائز على كلّ شيء. وهذا الانعطاف سيكون متناسبًا مع عدد سكان الولاية – حيث عُزِّزت في الجنوب بشكلِ مصطنع عن طريق بند الثلاثة أخماس. نتيجةً لذلك، أضاف السود المستعبدون المحرومون من حقّ التصويت قوّة سياسيّة لظلّامهم البيض الجنوبيين.

ولتهدئة بعض حساسيات المندوبين في المؤتمر، لم تُذكر كلمتا «عبد» و«عبودية» في الوثيقة النهائية. عوضًا عن ذلك، تشير الوثيقة للعبيد كـ«أشخاصٍ آخرين» أو أشخاصٍ «متعاقدين على الخدمة أو العمل». أشالا لوثر مارتن – كان محاميًا من مريلاند جادل بشدّة ضد الإقرار بالدستور –أن ّرفاقه المندوبين «حاولوا بقلق تجنب اعتماد عباراتٍ قد تبغضها أذن الشعب الأمريكي»، ولكنهم «استعدّوا للإقرار بتلك الأمور التي تمثلّها هذه العبارات».

جُعِلَ المؤتمر الدستور أكثر استساغةً حين قام المؤتمر الأول – استجابةً للضغوط والانتقادات – بتمرير مجموعةِ تعديلاتٍ معروفة بوثيقة الحقوق. وهذه التعديلات أعطت الحكومة الجديدة مظهر عدم تمثيل مصالح الأغنياء، وإنما بدت كمؤسسة تترفع عن المصالح الطبقية وتحمي حقّ الجميع للتعبير والنشر والتجمع والمحاكمة العادلة. هذا التغليف لهذه التعديلات صُمِّم لحشد تأييدٍ شعبيّ للحكومة. ولكن الاختلاف بين المظهر والواقع توضّح في وقتٍ قصير. إن التعديل الأول من وثيقة الحقوق أُقرّه الكونغرس سنة 1791، وينص على أنّ «الكونغرس لا يبرر أي قانون…يحدّ من حرية التعبير أو الصحافة». ولكن، بعد سبع سنين فقط من الإقرار بالتعديل الأول كجزءٍ من الدستور، مرّر الكونغرس قانونًا يخترقه تمامًا – وهو «قانون إثارة الفتن» لعام 1789، الذي أُقِرّ تحت إدارة جون آدمز. وحسب تعبيرِ أحد المؤرخين: «إن مخاوف رجالٍ كآدمز وهاملتون تفاقمت بسبب الاضطرابات الاجتماعية في ثمانينات القرن الثامن عشر، وبالخصوص تمرد شَيز في 1786. وهذا الحدث، مهما كان مروّعًا، تتضاءل أهميّته حين نقارنه مع الثورة الفرنسية». جرّمَ القانون هذا قول أو كتابة أي شيء «كاذب وافترائيّ وخبيث ضدّ الحكومة أو الكونغرس أو الولايات المتحدة أو أيٍّ من مجلسيّ كونغرس الولايات المتحدة أو رئيس الولايات المتحدة، بِنيةّ تشويه سمعة الحكومة المذكورة، أو كلا مجلسي الكونغرس المذكور، أو الرئيس المذكور، أو…ازدرائهم أو قذفهم أو تحريض ضدهم…بغرض تحريض شعب الولايات المتحدة الخيّر على كرههم».

في 1790، اشتكى جون آدمز بالفعل من أنّ «العديد من الفرنسيين، متّبعين نموذج العديد من الأمريكيين، يلهثون من أجل المساواة بين الناس والأملاك». وبعد عدّة سنوات، استذكر جون آدمز أن فكرة حكومةٍ ديموقراطية في فرنسا صدمته دائمًا كفكرة «غير طبيعية، وغير عقلانية، وغير عملية». وكما قال حينها، «لقد خشيت الثورة الفرنسية».

آمن بعض مؤيّدي إلغاء للعبودية أنّها ستموت موتًا بطيئًا بسبب حظر تجارة الرقيق عام 1808. ولكنّ النمو الضخم لطلب القطن – أغلبه بسبب نمو صناعة القماش في بريطانيا – كفَل حدوث العكس تمامًا. لم يبطئ منع الكونغرس استيراد العبيد بعد 1807 توسّع مزارع القطن في الولايات الخمسة عشر الجنوبية. أصبحت العبودية مستحكمة بشكلٍ متزايد. على أي حال، كان منع استيراد العبيد أمرًا مختلفًا تمامًا عن منع الاستعباد. حتى دعاة الحفاظ على العبودية دعموا إنهاء تجارة العبيد كإجراءٍ احتياطيّ للتخفيف من احتمال تمرّد العبيد. اعتمد نظام الاستعباد عوضًا عن ذلك على التكاثر والتجارة الداخلية للعبيد.

وضع أفراد الطبقة الحاكمة – الذين عبّروا سابقًا عن عِدائهم للعبودية – حدًّا لخلافاتهم برضاهم بالاختفاء البطيء للعبودية في الولايات الشمالية. في 1790، كان هنالك 689،000 مستعبدٍ في الولايات المتحدة، وبحلول نهاية القرن وصل عددهم 893،000 نسمة. وعاش ما يقدّر بـ35،900 عبدٍ في الولايات الشمالية: فقوانين الانعتاق حرّرت عادةً أبناء العبيد عِوضًا عن العبيد أنفسهم. ففي نيو يورك على سبيل المثال، لم يحرّر قانون الانعتاق لِعام 1799 أيّ عبدٍ حيّ؛ وإنما وفّر الحرية لأي طفلٍ وُلد من أمٍّ مستعبدة فحسب، وأعطيت العبودية للمولود فقط حين تخدم أو يخدم سيّد الأم حتى تصل أو يصل للبلوغ كتعويضٍ للسيد على خسارته المستقبليّة لحقّ الملكية.

يوضحّ كلٌ من توماس جيفرسون وجيمس ماديسون مأزق الجناح المعادي للعبودية وسط الحكّام الأمريكيين. في محادثاته الخاصة، استمرّ جيفرسون بالتعبير عن معارضته لاستعباد هذا العدد الهائل من العبيد. ولكنه سرعان ما يردف بأن تكلفة أي تغيير ستكون أكبر: «نحن قبضنا على أذني الذئب، فليس بإمكاننا أن نتحكم به، وليس بإمكاننا أن نتركه بأمان. فالعدالة على كفّة، والمحافظة على النفس في الكفّة الأخرى».

لم يدع جيمس ماديسون – الذي تبِع توماس جيفرسون كرئيس – تحفظّاته الشخصية على العبودية تشوش رؤيته للأهمية الاقتصادية لنظام الرقّ. رادًّا على ناقدٍ للعبودية، أعلن ماديسون موافقته التامّة لـ«الشرّ الأخلاقي والسياسيّ والاقتصادي» الذي تشكّله العبودية. ولكنّه لمّح لإمكانية «التحسين الكبير» في ثقافة العبودية «خصوصًا حين يكون العبيد مملوكين بأعدادٍ قليلة، من أسيادٍ ومدراءٍ جيدين»، وناشد منتقده بأن يراجع رأيه. جادل ماديسون أنه – في آخر المطاف – مخاطر تشغيل مزرعة أقل جدًا من المضاربة في الأسهم والسندات: «أنظر للحطام في كلٍّ مكان، فهو يحذّرنا بشأن الخطر». كيف بإمكان الولايات المتحدة أن تتسع زراعيًا؟ سأل ماديسون: إن لم يكن هنالك عبيد كان في الأراضي المملوكة الشاسعة، «هل ستحرثها بنفسك؟ إذًا، احذر من مصاعب توفير عمالةٍ مخلصة ومطيعة. فهل ستتخلص من عقودِها؟ اسأل شخصًا قام بهذه التجربة عن أي نوعٍ من المستأجرين ستلقى حين تكون ملكية الأرض سهلة المنال».

حتى بداية تسعينات القرن الثامن عشر، كانت زراعة القطن متركّزة غالبًا في المناطق الساحليّة. ولكنّ اختراع محلج القطن في 1793 جعل من الإنتاج والتجهيز في الأراضي الداخلية ممكنًا. وبحلول 1860، نمى تعداد العبيد في الولايات الجنوبية لقرابة أربعة مليون. نمت صادراتُ الولايات المتحدة من القطن الخام من خمس مئة ألف باوند في 1793 لثمانية عشر مليون باوند في 1800 ووصلت لثلاثة وثمانين مليون باوند بحلول 1815. فعلى حدّ تعبير ماركس في «رأس المال»:


في حين ابتدعت تجارة القطن استعباد الأطفال في إنكلترا، قامت في الولايات المتحدة بإعطاء دفعةٍ لتحويل النظام السابق من العبودية الأبوية إلى حدٍ ما لنظام استغلالٍ تجاريّ. إن الاستعباد المقنّع – واقعًا – للعمال المأجورين في أوروبا احتاج للعبودية المطلقة في العالم الجديد كقاعدةٍ له…يرشح رأس المال من الرأس حتى أخمص القدمين، ومن كلّ المسامات، دمًا ووحلًا.

مجتمع ما قبل الحرب الأهلية

كان نظام المزارع الذي نمى في الجنوب مختلفًا في عدّة نواحٍ عن العبودية في بحر الكاريبي وأمريكا اللاتينية. وهذه الفروقات قولَبَت نوع المقاومة التي نشأت لدى المستعبَدين، فخلافًا للبرازيل على سبيل المثال، حيث بإمكان العبيد الهاربين من مزارعهم أن يجدوا مناطق غير مأهولة ويشكلوا مجتمعاتٍ للعبيد الهاربين، كان حدوث هذه الأمور أقلّ احتمالًا في الولايات المتحدة. في الجنوب، كان العبيد أقليّةً في أغلب الولايات، وأغلبية العبيد عاشوا في مزارع لا يملّك مُلّاكها إلا عشرين عبدًا أو أقل من ذلك، على النقيض من المزارع الجماعية في الكاريبي.

كان المجتمع الجنوبي الذي أنتجه اقتصاد العبودية ير متكافئٍ للغاية ومتخلفًا ثقافيًا. إن ثروة الجنوب التي كانت بالفعل متركّزةً جدًا في طبقة أصحاب المزارع تزايدت في تمركزها في منتصف القرن السابق للحرب الأهلية. في 1800، امتلكت ثلث العوائل البيضاء عبيدًا في المنطقة، وفي 1860 تضاءلت النسبة لربع العوائل فقط. في 1860، امتلك نصف ملّاك الرقيق أقلّ من خمسة من السود، بينما امتلك 72 بالمئة منهم أقل من عشرة للفرد. وكان مجموع ما امتلكته هذه الفئتان ربع مجموع العبيد.

هيمنت أقليّة صغيرة فقط من العوائل البيض في محافظات إنتاج القطن الرئيسية على المحصول الأساسي: ساهمت أعلى عشرة بالمئة من المزارع في إنتاج أكثر من 68 بالمئة من إجماليّ إنتاج القطن. ومن المزارع في تلك المحافظات، لم تنتج 28 بالمئة منها أي قطنٍ أبدًا؛ ونصف هذه المزارع لم تمتلك عبيدًا. إن ثروة الولايات الجنوبية مجتمعةً كانت أعظم من ثروتيّ كلٍّ من فرنسا وألمانيا في 1860، ودخلُ أكثر طبقة المزارعين ثراءً – أي، من يملكون خمسين عبدًا أو أكثر – كان في ذلك الوقت أكثر بستين بالمئة من الناتج القومي للفرد.

ومع ذلك، لم تتكوّن هذه النخبة الزراعيّة إلا من أقل من ألف عائلة. في المقابل، أكثر من ثلثيّ سكّان الجنوب البيض لم يمتلكوا عبيدًا البتّة. وخلافًا لثورة العبيد الناجحة في سانتو دومينغو، حيث استغلّ توسان لوفرتير الانشقاقات في أوساط ملّاك العبيد بنجاح لمصلحته، كان كلٌ من شمال وجنوب الولايات المتحدة ملتزمان بالعبودية حتى منتصف ستينات القرن التاسع عشر.

من المهمّ أن نشير لكون أكثريّة سكّان الجنوب لم يكن لديها أيّ مصلحة مباشرة في العبودية ولم يملك ثلاثا البيض الجنوبيين أيّ عبدٍ البتة. ولم تملك إلا 1،733 عائلة بيضاء أكثر من 100 عبدٍ لكلّ عائلة قبل اندلاعِ الحرب الأهلية. ولكن بدل معارضة العبودية، قِبلت غالبية البيض بالأيديولوجية العنصرية لطبقة ملّاك المزارع، رابطين أنفسهم مع ملّاك الرقيق. شرح الإلغائيّ العظيم فريدريك دوغلاس – الذي كان هو ذاته عبدًا سابقًا – أسباب ذلك قائلًا: «بالإمكان توضيح العداوة بين البيض والسود في الجنوب ببساطة. إنّ جذورها وخلاصتها تكمن في علاقات العبودية، وحُرِّض عليها الطرفان باحتيال ملّاك الرقيق. وهؤلاء الملّاك أوثقوا هيمنتهم على البيض والسود الفقراء بنشر العداوة بينهم. قسّموهما ليقهروا كلًا منهما».

جادل دوغلاس أن العبودية لم تقهر العبيد السود فقط، وإنما ضمنت إخضاع البيض الفقراء أيضًا:


نجح ملّاك العبيد…بتشجيعهم لعداوة العمّال البيض الفقراء ضد السود في جعلِ الرجل الأبيض المذكور مستعبدًا بمستوىً مقارب للعبد الأسود نفسه…كلاهما منهوبان، واللّص هو ذاته. ينهَبُ السيدُ عبده مِن كلّ ما يَكسَبُه مما يزيد على حاجاته الجسدية؛ وينهب الرجلَ الأبيضَ من منتجات عمله عن طريق نظامِ العبودية أيضًا، لأنه دُفِع لمنافسةٍ مع طبقة عمّالٍ لا أجر لهم…والآن يحجب ملّاك العبيد بصر هؤلاء عن هذه المنافسة عن طريق إبقاء كُرههم للعبيد كبشرٍ – لا كرههم كعبيد مثلهم. فهم يناشدون كبرياءهم مستنكرين عتق العبيد كأمرٍ ينزّل من موضع العامِل الأبيض لمكانةٍ مساوية للزنجي، وبهذه الطرق ينجحون في إبعاد الواقع الحقيقي عن أذهان البيض الفقراء، والواقع هو أنّ مالك العبيد الغني، يعتبرهم فِعلًا بمكانةٍ ليست إلّا أبعد بخطوة من مكانة العبيد.

ما وصفه دوغلاس عن الجنوب ينعكس في الشمال أيضًا عن العمّال البيض. أثناء ازدهار العبودية في الجنوب، دخل الاقتصاد الشمالي مرحلة توسعٍ سريعة. فقد حجّمَ الحركة العمّالية الناشئة في ثلاثينات القرن التاسع عشر الأهلانيّةُ والعنصرية. تجاوبت كتلة العمّال المولودين محليًا بشكلٍ عنيف تجاه الهجرة الجماعية للعمال الإيرلنديين في أربعينات وخمسينات القرن التاسع عشر. يصف المؤرخ مايك ديفس ردّة فعل العمّال المولودين محليًا للهجرة الإيرلندية: «استُقبِل الإيرلنديون بعداوة شاملة من طبقة عاملة محليّة تظاهرت ضدّهم، وطردتهم من أماكِن العمل، ورفضت القبول بهم في النقابات الحرفية، وحاولت أن تمنع عنهم حق الانتخاب».

تنافس كلا العمّال المحليّون والمهاجرون على الوظائف، وقبلوا بحجج كون عتق العبيد «سيُغرق سوق العمل بأربعة ملايين من السود. أُقصيَ السود الأحرار في الشمال (وعددهم 250،000) من كلّ النقابات الحرفيّة المتواجدة. ومسألة العبودية تلك كانت مسألةً مصيريّة بالنسبة للطبقة العاملة في الشمال. وصفها ماركس ببلاغة: «في الولايات المتحدة الأمريكية، شُلّت كلّ حركة عمّالٍ مستقلة ما دامت العبودية تشوّه جزءً من الجمهورية. فالطبقة العاملة ذات الجلد الأبيض لن تحرر ذاتها ما دامت الطبقة العاملة ذات الجلد الأسود مُستعبدة».

كان وضع السود الأحرار في الشمال غالبًا مُحدّدًا بالأوضاع في الجنوب وبتهديد الاستعباد الذي لاح في الأفق خصوصًا بعد أن مرّر مجلس الشيوخ «قانون هرب الرقيق» سنة 1850. مع أنّ مكانة السود في الولايات المتحدة حدّتها العبودية، لا يعني ذلك أن كل السود تأثروا بها بشكلٍ متساوٍ، فحتى تحت نظام العبودية نشأت نُخبة صغيرة من السود ارتبطت مصالحها مع النظام الرأسمالي ونصبت نفسها معاديةً لجموع العبيد. واستنادًا للباحث وناشط الحقوق المدنية إيرل أوفاري، «حسب التقديرات، كان هنالك في عام 1830 ملّاكٍ عبيدٍ سود قدرهم 3،777 في الولايات المتحدة». مع أن العديد من ملّاك العبيد هؤلاء اشتروا العبيد ليعتقوهم، قام آخرون بتوظيفهم ليتربّحوا منهم. في لويزيانا، ظهرت طبقةٌ من السود ومختلطي الأعراق الأغنياء الذين وإن لم يكونوا بعدد أو بنفوذ المزارعين البيض، فقد امتلكوا عبيدًا مثلهم. يشرح المؤرخ مانينغ مارابل ذلك:


حتى قبل الحرب الأهلية كان هنالك عددٌ من السود الجنوبيين ممن لديهم نفوذٌ يسمح لهم بتملّك الأراضي وبعض الامتيازات الأخرى. امتلكت مجموعة من الأحرار السود تجاوز عددها الثمان مئة عقارٍ وأعمالٍ تجاريةٍ خاصة تبلغ قيمتها 2.5 مليون دولار في 1836، وامتلكوا ما مجموعه 620 عبدًا. بحلول 1860، امتلكت نخب الكريولية والسود الأحرار في نيو أورلينز أكثر من 9 مليون دولار. وامتلك السود الأحرار في نورث كارولينا ما ثمنه مليون دولار من الممتلكات الخاصة والعقارات في عام 1860، وفي فيرجينيا سيطر السود الأحرار على 60،000 فدان من الأراضي الزراعية.

كانت هذه النخبة ضئيلةً مقارنةً بالطبقة المُستعبِدة الحاكمة، ولكنّها أسست الفوارق الطبقية المبكّرة للسكان السود. علاوةً على ذلك، كما سيتضح في مقالاتٍ لاحقة، سيكوّن هذا الموضع المتزعزع نسبيًا للنخبة السود – واليد العاملة السوداء الماهرة عمومًا – القاعدة المادّية لاعتناق حلول «رأسماليّة السود» الانفصالية التي دعت في نفس الوقت للتكيف في وسط الرأسمالية الأمريكية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشاد: انتخابات رئاسية في البلاد بعد ثلاث سنوات من استيلاء ال


.. تسجيل صوتي مسرّب قد يورط ترامب في قضية -شراء الصمت- | #سوشال




.. غارة إسرائيلية على رفح جنوبي غزة


.. 4 شهداء بينهم طفلان في قصف إسرائيلي لمنز عائلة أبو لبدة في ح




.. عاجل| الجيش الإسرائيلي يدعو سكان رفح إلى الإخلاء الفوري إلى