الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيلم (ارتجال) لرائد أنضوني.. ميوزيكال دافق من فلسطين إلى فرنسا

بشار إبراهيم

2005 / 11 / 23
الادب والفن


هذه المرة، يوسع «رائد أنضوني» من دائرة الفرجار إلى أقصى مدياتها، كأنما هو لم يكتف أبداً بما يحقّقه للسينما الفلسطينية الجديدة، أو لعله ما عاد يرضى أن يبقى في دائرة «قيادة الظل»: منتجاً، ومصوراً، ومُعداً، وشريكاً في البحث والتحضير، ومشرفاً على التنفيذ والتحقيق.. فنراه ينتقل من «وراء المخرجين»، إلى «وراء الكاميرا»، ليقدم فيلماً جديداً بتوقيعه الخاص..
هذه المرة، يأتينا «رائد أنضوني» مخرجاً، من خلال فيلم بعنوان «ارتجال»، قام بتحقيقه خلال شهر آب/أغسطس من العام 2005، فجاء فيلماً تسجيلياً وثائقياً طويلاً (مدته 60 دقيقة) يتنقل في تصويره ما بين الناصرة، ورام الله، وصولاً إلى باريس.. (يُعرض لأول مرة، بحضور مخرجه، في ختام مهرجان بيروت الدولي للأفلام الوثائقية، مساء السبت 12/11/2005).
ربما، قبل الحديث عن الفيلم الذي قرر أن يخرجه رائد أنضوني، لا بد من الانتباه إلى أنه أصلاً أحد أهم العاملين في السينما الفلسطينية، خلال العقد المنصرم، فمنذ منتصف التسعينيات، على أقل تقدير، يمكن الحديث عن الحضور الهام والمميز الذي شكله رائد أنضوني، من خلال العديد من الأفلام التي ما كان الكثير منها ليتحقَّق على النحو المناسب لولا جهوده، ومساهماته، وإيمانه بأهمية السينما الفلسطينية، ودورها في رسم صورة الفلسطينية، في وجوده، وهويته، ونبل سعيه إلى كل ما يليق بإنسانية الإنسان.
لقد جلس رائد أنضوني منذ سنوات على كرسي المنتج، أو المنتج المنفِّذ، أو شريك الإنتاج، خاصة عبر «دار فيلم للانتاج» التي بات اسمها مقترناً به.. كما حمل الكاميرا، وانضم إلى ورش الاعداد، وجلس إلى طاولة المونتاج.. ويمكن أن نذكر من تلك الأفلام: «بعل والموت» لرانية أسطفان 1997، «جمال قصة شجاعة» لسائد أنضوني 2000، «موسم حب» لرشيد مشهراوي 2000، «بيان بصري» لنزار حسن 2001، «من فلسطين بث مباشر» لرشيد مشهراوي 2001، «اجتياح» لنزار حسن 2003.. فضلاً عن مشاركته الملفتة، والمثيرة، في إنتاج فيلم «رحلة حميمة» لرعنان ألكسندروفيتش 2001.
وفي هذه الأفلام كافة، يبدو الاهتمام الذي يوليه أنضوني، والدعم الذي يقدمه لتحقيق موضوعات تتعلق، بشكل متنوع، بصورة الفلسطيني التي يريد تظهيرها، بدءاً من أصالته التاريخية، وصولاً إلى وجوده الراهن، وأسئلة مستقبله، ودائماً محفوفاً بثنائية الموت والخصب، الإلغاء والحضور، القهر والعطاء، الحرب والسلام.. وأنضوني لا يريد لهذه الصورة أن تُقدَّم بطريقة نثرية، فجّة، بل في سياق شاعري، يتخلّى تماماً عن الشعارات الضاجّة، والمقولات الصاخبة.. إنه يميل إلى الرسم الهادئ، والدقيق، على طريقة المنمنمات، التي تمتلك قدرات تعبيرية أعمق من التكوينات الكبيرة، وأبقى، وأكثر نفاذاً إلى جوهر الأشياء.
ينشغل أنضوني بمعنى الوجود الفلسطيني، وحضوره، تماماً كما يشغل باله سيرورة الفلسطيني وصيرورته، وقدرته على الفعل في إطارهما. ومن هنا فإنه يتكئ على الراهن، لا للتغنّي به، بل للانطلاق منه إلى المستقبل. ويرصد الفجائع، لا ليتوارى خلفها، بل ليصعد فوقها، وينظر إلى أفق أوسع..
والآن يأتي بفيلمه هذا مُخرجاً، مصداقاً لكل ما سعى إليه أنضوني منتجاً، عبر مخرجين آخرين. إنه يقف هذه المرة موقف المخرج، مختاراً موضوعاً يمكن القول إنه استثناء على صعيد الموضوع، في تاريخ السينما الفلسطينية، حيث الموسيقى تنهمر طيلة الفيلم، وتكاد تكون لغة الفيلم، وتبلغ ذراها آن تتمازج مع الشعر، أو الغناء الشفيف.. موسيقى تتألق وهي تغتسل بالدموع، تحنو ولا تنكسر. تتبرج إذ تتداخل الألوان الزاهية، على منصة العزف، وتجيش بالفرح عندما يعلو التصفيق.
«ارتجال» يبدو فيلماً موسيقياً، منذ اللحظات الأولى، وحتى لقطة الختام. الأصابع وهي تغازل أوتار العود، العيون البارقة، الأكتاف الناهضة، والأجساد المنثنية، الاحتضانات الودودة، والتنافرات الغاضبة، التصالحات بالقبلات المتبادلة، والدموع المُقطَّرة كما الندى، ودرويش على منصة مسرح القصبة، الجمهور الفلسطيني، وحديقة معهد العالم العربي، تمتلئ بالجمهور الباريسي.. كل ذلك كان شريكاً فاعلاً في انهمار العزف الذي يبقى يرين في الأسماع، بعد انتهاء الساعة التي يستغرقها الفيلم.
إنه «ميوزيكال» دافق، يبدأ من رام الله، ولا ينتهي بحضور الألف مشاهد في يوم باريسي مشرق.. «ميوزيكال» ينثره ثلاثي هو خلاصة أحلام أب، وثلاثة أبناء، وأسرة كل ما فيها يشعّ موسيقى!.. ومع ذلك فهو في عمقه، أو القراءة الموازية له، فيلم نابض بالموضوع الفلسطيني في لحظات تاريخية فارقة..
في حكايته، يتناول الفيلم عائلة جبران، المعروفة في الناصرة، وعموم فلسطين، بصناعة آلة العود، وفن العزف عليه، منذ مطالع القرن العشرين. فيؤسس بداية للخلفية التاريخية لموضوعه، من حيث الإشارة إلى إنه هنا كانت فلسطين، وكانوا فلسطينيين، قبل أن تنهض على دمارهم «دولة إسرائيل»، وقبل أن تُحوّلهم إلى «أقلية عربية» بين يديها!.. وسيكون كل ما في الفيلم، بعد هذه المقدمة، ناضحاً بصورة الفلسطينيين الباقية، والمستمرة، والمتجددة، ليس فقط اتكاء على ما سيقوله الشاعر محمود درويش: «كانت تسمى فلسطين.. صارت تسمى فلسطين»، بل إيضاً في كل لفتة، أو نبرة، أو نقرة عود، ينزفها الأخوة جبران..
إنه بورتريه لعائلة موسيقية، تصنع آلة العود، وتتقن فن العزف عليها. عائلة تعيش هذه المهنة أكثر مما تعتاش منها، الأمر الذي جعل من الموسيقى هويتها، وأداتها، وسبيلها في الحياة، ووسيلتها في الوجود. تتكثَّف أحلامها حتى تكاد تصير تأليف ولو جملة موسيقية جديدة واحدة، وتتسع حتى تصبح بحجم وطن، تصوغه الموسيقى، وتحمله إلى أنحاء الدنيا.. كما إنه حكاية هذه العائلة في حلمها الذي لا تقف في وجهه «الدولة»، بحدودها، وحواجزها..
من الناصرة إلى رام الله، ينتقل الأخ الأكبر «سمير»، يتزوج فتاة من الضفة الغربية، ويستقر فيها، ويحاول أن يكون من مواطنيها.. يذكر أن والدته كانت تقول له إنه كان دائماً يحلم أن يعيش في دولة عربية.. وهو الآن لا يتوانى عن الاعتراف إن من الضروري للمرء الشعور بالانتماء إلى نشيد وطني، وإلى علم، بل إلى جيش يحس أن أفراده هم جنوده.. ففي «إسرائيل» لا يشعر الفلسطيني بأي انتماء إلى نشيد أو علم أو جيش!.. ألم يقم كل ذلك على دمار كيانه السياسي، وهويته الوطنية؟!..
سمير، حتى في نبراته الساخرة من هزالة الكيان الفلسطيني الوليد (السلطة الفلسطينية)، ومن بؤس الجنود الفلسطينيين (الشرطة الفلسطينية)، يبدو مثقفاً واعياً للشرط السياسي، محباً، ومنتمياً، ومتمنياً للكثير.. كأنما هو يمثل الراهن، بتنازع الإرادات فيه، ما بين نرجسية الفنان الناجح، وانغماسه في فنه حتى الثمالة، من جهة، والانتساب إلى شعب وقضية، بكل تشابكاتها وتعقيداتها، من جهة أخرى..
لاتنفصل الموسيقى عن الحياة الواقعية، لدى سمير، والانغماس في العزف على آلة العود، عنده، لا يمنع رؤية حال الموت والدمار، بل هو يدرك أن جزءاً من التصفيق الذي يلاقيه هو من أجل فلسطين!.. ويعلن أن جوهر ما يريد قوله «إن الفلسطينيين ليسوا إرهابيين.. هاهم يعزفون الموسيقى، فأحبوا موسيقاهم»..
إنه يلعب دور العمود الفقري في العائلة والفيلم، معاً.. له التنظير في السياسة والاقتصاد والفن، وهو باعتباره الأخ الأكبر في عائلة جبران، الأكثر خبرة وتجربة ومعرفة، سيكون القائد الفني للثلاثي الموسيقي، الذي سوف يمضي طيلة الفيلم في محاولات تحقيقه، عبر جولات التدريب المتواصل، في رام الله، أو في الناصرة.. بل إنه سيبدع، مع شقيقيه، المختلف والجديد من جلسات التدريب، التي تعتمد أولاً وأخيراً على الارتجال.. فلن نرى أياً من العازفين يمسك نوتة موسيقية، أو يكتب علامة موسيقية.. في الحقيقة هم يكتبون موسيقاهم بالتفاعل الروحي فيما بينهم، وعلى أوتار العود مباشرة..
في الحفلة الشهيرة التي شهدها مسرح القصبة، في رام الله، قبيل دماره، كان سمير هو الشريك على آلة العود، مع الشاعر محمود درويش.. هو الدور ذاته الذي قام به الموسيقي الكبير مارسيل خليفة، في بيروت، وفي باريس، من قبل، ومن بعد..
سيُنهك الشقيق الأوسط «وسام»، الذي يبدو صبوراً جداً، مختزناً الكثير من الأحلام، قليل الكلام.. «وسام»، في لحظة اعتراف، يقول: «لدي الكثير من الأحلام، ولكنني لا أقولها، كما يفعل سمير»!.. وسنعرف من أحلامه دراسة الموسيقى في الخارج، والعودة إلى «البلاد» لإقامة ورشة عمل، لصناعة وتعليم العزف على العود، وتحقيق حلم الأب في بناء ورشة خاصة لصناعة آلة الكمان..
في ثنايا «وسام»، يمتزج الصانع والعازف، والدارس والحالم، في الوقت نفسه، وهو يرفض أي افتراض لافتراق العازف عن الصانع، والتخلي عن الدراسة.. هكذا هو يمثل النزوع نحو المستقبل دون إفلات الراهن، أنه فعل التجاوز المشدود إلى ثقل الاشتراطات المادية، وأعبائها. من جهة نراه في لباس العمل في الورشة، يصنع آلة، أو يرمم أخرى، ومن جهة أخرى نراه مع سمير يشكلان ثنائياً موسيقياً، في مشاهد من حفلات قاما بأدائها معاً، من قبل.
أما الشقيق الأصغر «عدنان»، فهو صورة مختلفة تماماً، ومتمِّمة تماماً.. إنه الفتى الذي قاده إلى العزف على آلة العود، قصة حب.. هو يبدو على هيئة عازف صاعد ماهر، ممتلئ بالثقة، مبادراً فيما يراه، الأمر الذي يجعله يتلقى موجات الغضب العارم التي يصبها الأخ الأكبر سمير، بالصمت تارة، وبالدموع، والموسيقى تارة أخرى.. إنه السرّ المختبئ في القادم من الأيام، والامتحان الذي ينتظره الجميع، على قلق.. هو حلم الأيام الآتي، والفيلم سينتهي إذ ينجح، بالتعاون مع شقيقيه (سمير ووسام)، في تكوين الثلاثي الموسيقي، وبعد أن يؤدي دوره بنجاح، أول مرة على خشبة المسرح..
يختبئ المخرج رائد أنضوني وراء شخصيات فيلمه الثلاث، يتعامل معها بحب، وقد حملت كل شخصية منها، جزءاً من شخصيته هو، أفكاره، رؤاه، مشاعره، وربما قلقه.. لقد عرف كيف يختارها، أولاً، ومن ثم عرف كيف يصنع عنها فيلماً جميلاً، ثانياً، وأن يخلق منها عالماً فلسطينياً بشكل تعقيداته وتشابكاته، بل بكل نزوعه نحو الحياة التي يستحقها..
اختار المخرج أن يترك شخصياته في واقعها الموضوعي، دون أي تزييف، أو توليف.. وعرف كيف يراقبها، تارة، وكيف يتلصَّص عليها، تارة أخرى، ساعده في ذلك تعاون الشخصيات في مجال تجاهل الكاميرا الحاضرة في كل مكان، من البيت إلى السيارة، في الصالون وغرف النوم والمطبخ، أو على الطرق المنتهية إلى الحواجز، أو بين جند الاحتلال، عند المعابر.. في الكواليس، أو بين صفوف الجمهور الجالس للسماع، أو المُشارك بالغناء الهادئ الرهيف..
إنه يترك شخصياته تتفاعل، وتتحاور، وتتجادل، فيما بينها.. تتفق، أو تختلف.. يعصف بها الغضب، أو يعمُّها الرضى.. تضحك، أو تبكي.. لم ينسلّ بها خارج الواقع، وتفاصيله اليومية.. لم يسألها، ولم يقترح حلولاً لها.. بل تركها تنغمس في «ارتجالاتها» لتصل إلى مبتغاها.. فربما يكون «الارتجال» وسيلة صالحة لتحقيق ما يستعصي على التخطيط.. ويجعل العالم يحبُّ سماع موسيقى الفلسطينيين، لا رؤية دمارهم.. من يدري؟!..





















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا


.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب




.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز


.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم




.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في