الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا تنتج الكليات العلمية في عالمنا العربي الإرهابيين? مقاربة نفسية و معرفية

إقبال الغربي

2016 / 4 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


ينظر إلى العمليات الإرهابية غالبا على أنها من فعل المهمشين و المنحرفين و المنبوذين الذين فشلوا في الاندماج داخل الأطر و المعايير الاجتماعية السائدة ولم يتمكنوا من التماهي مع القوالب المهنية و المعرفية المألوفة .
فالفعل الإرهابي مرهوب وملعون و الفاعل يجسد الآخر المختلف بامتياز الذي لا يمكن أن يشاركنا ثقافتنا و معارفنا و هذه الثنائية المطمئنة بين النحن و الهم تثبت علامات الفصل و تقنن آليات الضبط فهي بالتالي تقصي كل التباس بيننا و بينهم بين العالم و الجاهل بين الشاذ و السوي و بين الصالح و المنحرف .
بيد أن العديد من الدراسات بينت أن غالبية الملتحقين بالحركات المتطرفة هم مواطنين عاديين و منهم طلبة ناجحين و العديد منهم متحصلين على شهائد عليا بل إن الكثيرون منهم خريجي كليات الطب و الهندسة و العلوم التقنية التي تعتبر شعب "نبيلة" و متميزة في عالمنا العربي .
فقد كشفت دراسة ميدانية أعدها ، ديغو غامبيتا، عالم الاجتماع بجامعة أوكسفورد، وستيفن هيرتوغ من جامعة دارهام، دققت في حالات 404 شبان تحولوا إلى التشدد والإرهاب، أن الإسلاميين الذين درسوا تخصصات مثل العلوم الدقيقة أو الهندسة أو الطب كانوا الأكثر تمثيلاً ضمن المتعلمين من أعضاء المجموعات الإسلامية الجهادية العنيفة. (1)
وتذكر الدراسة عدة شخصيات من قيادات العمل المسلح في المغرب العربي مثل حالة عبد الملك دروكدال، المكنى بـ«أبي مصعب عبد الودود» و الشخصية الأولى في الفرع المغاربي من تنظيم «القاعدة والذي كان متميزاً في العلوم التكنولوجية، وتحديداً في الإلكترونيك والكيمياء و كذلك حالة القائد الإرهابي في "الجماعة السلفية" نبيل صحراوي المدعو «مصطفى أبو إبراهيم»، الحاصل على شهادة مهندس في الهيدروميكانيك ..
كما يعد يحيى جوادي المكنى «يحيى أبو عمار» قائد كتائب التنظيم في الصحراء حالياً، من بين الحاصلين على شهادة جامعية، حيث درس العلوم الدقيقة و قد تم رصد العديد من القيادات الإرهابية الأخرى بداية من الطبيب أيمن الظواهري إلي المهندس أسامة بن لادن مرورا بمحمد عطا، الذي تخرج مهندساً معمارياً ثم نفذ هجمات سبتمبر و غيرهم كثيرون . (2)
و السؤال المطروح هو لماذا ينخرط المتعلمين و المتميزين في منطق العنف و إهدار الدم و قطع الرؤوس لكل من خالف أو اختلف .
لماذا لم تشكل درجة الذكاء و نمو القدرات العقلية حاجزا و مناعة ضد مشاريع الهمجية و الفوضى المعممة

كيف يمكن لكلياتنا و لأقطابنا العلمية أن تخرج الإرهابيين و تنتج الذباحين
ونحن لا ندعي القدرة على التناول الشامل لمختلف أبعاد هذه الظاهرة التي تبدو لنا عجيبة ،بيد انه في إطار محاولة فهم هذه المفارقة أي العلاقة بين التخصصات العلمية و التشدد و الإرهاب علينا أن نبحث عن العوامل الموضوعية و الدوافع الذاتية التي تؤهل التقنيين و المختصين في العلوم الدقيقة لتقبل الخطاب الديني العنيف التكفيري و اللاعقلاني.

يشير العالم جولدمان أن الذكاء المجرد أي ذكاء الفيزيقا و الرياضيات له علاقة محدودة بالتفوق و بالاندماج . فهذه النوعية من الذكاء تساهم في 20 % فقط من العوامل التي تحدد النجاح في الحياة،. كما لا حظ أن الغالبية العظمى من الحاصلين على مراكز القرار في المجتمع، لم يحدد عامل الذكاء تميزهم هذا، بل عوامل أخرى كثيرة. ومن العوامل المحددة في النجاح ملكة الذكاء الانفعالي أو العاطفي، أي قدرة الفرد على التحكم في انفعالاته و على مراقبتها و القدرة على تنظيم حالاته النفسية و منعها من شل و تعطيل قدرته على العمل و التفكير (3) .
كما تساعد مهارة الذكاء الانفعالي الفرد على العمل الجماعي و على الشعور بالمواجدة و التعاطف مع الآخر لفهمه و لتفهم وجهة نظره و على إدارة مجريات حياته بطريفة مرنة و ناجعة و فاعلة .
و يبدو أن نمو و تطور الذكاء ألاستنتاجي الافتراضي أي الذكاء المجرد يكون في بعض الأحيان على حساب تفتح الأنواع الأخرى للذكاء مثل الذكاء الجمالي و العاطفي و الاجتماعي الضرورية لنحت شخصية متماسكة و متوازنة .
ولعل هذا العامل المعرفي يفسر نسبيا انخراط بعض خريجي الكليات العلمية و التقنية في التنظيمات المتطرفة.

و في نفس الإطار تمثل بطالة حاملي الشهائد العليا عامل مهما في استشراء هذه الظاهرة .
إذ تعاني البرجوازية الصغيرة والمتعلمة من الأزمات الاقتصادية التي حولتها إلى ضحية آليات إخضاع المعرفة إلى منطق الربح و قوانين التجارة الحرة و متطلبات السوق.
فهذه الفئة المثقفة التي تعاني من انهيار منزلتها الاجتماعية ومن تدني رأسمالها الرمزي تعيش تناقضا بين صورتها المثالية عن ذاتها و بين واقعها المادي و إدراك الآخرين لها . فهي تتألم من عدم تطابق المواصفات العلمية والمهنية التي تحض بها مع وضعيتها الاجتماعية ومع الامتيازات الملازمة لها وأيضا من شيوع احتقار العلم و المعرفة مقابل الإعلاء من شأن المشهد و البزنس الوضيع .
وفي ظل الأزمات، وعندما تصبح توقعات الفرد المتعلقة بالدور الاجتماعي المتعارف عليه وبتصورات الآخرين إزاءه ملتبسة وغير واضحة، فهو يحيد عن القيم السائدة ويبحث عن ملاذ في الهوس الديني والصوفي. وهذا ما لاحظه ماكس فيبر عندما درس أتباع الجماعات الدينية المتكون من البرجوازية الصغيرة التي ألحقت بالبروليتاريا والتي سماها .prolateroïde ماكس فيبر
حيث ينقلب الجرح النرجسي أي الشعور العميق بالدونية و الهوان بحيلة لا شعورية معروفة إلى شعور بالتعالي والتعاظم الديني والأخلاقي . لهذه الجموع المنكوبة تقدم التنظيمات المتشددة أجوبة بسيطة و سهلة و تتلاعب بمخاوفها و بطموحاتها و توظف غضبها و احباطاتها .

تؤكد بعض الدراسات أن الإرهاب يمثل سوقا اقتصادية جديدة تخضع لمنطق العرض و الطلب و الربح والخسارة (4) .
و في هذا السياق تسعى التنظيمات الإرهابية إلى تجنيد ذوي المؤهلات العلمية من تقنيين و مهندسين و ذلك لضمان نجاعة عملياتها و الرفع من مردوديتها . فالمختصين من الشعب العلمية يتمتعون بكفاءات عالية و مهارات تؤهلهم للقيام بالمهام العسكرية من تخطيط و دعاية إعلامية ومعلوماتية و صنع الأسلحة و المتفجرات الخ......
و في المقابل ينخرط هؤلاء في المجموعات المتشددة للحصول على تحفيزات مادية و مزايا رمزية مغرية . فالانضمام للمنظمات المتشددة يسمح لهذه الكوادر بتبوء مناصب الصدارة و القيادة و الشهرة الذي لا يوفرها لهم تقسيم العمل ضمن المنظومة الاقتصادية التقليدية .

من جهة أخرى تتميز الدراسات العلمية في جامعاتنا بالوثوقية حيث يدفع الطلبة إلى النظر إلى الأشياء من منظارين لا ثالث لهما إما الصواب و إما الخطأ ،حيث يستحيل وجو د منطقة وسط . و هو ما يحد من قدرتهم على النقاش و الجدل و ما يخرب مهارات التفكير النقدي لديهم .
فالمعرفة العالمة أي المعرفة المنتجة من طرف المختصين مرت بمسارات تاريخية طويلة وملابسات تشابكت خلالها فترات نجاح ولحظات إخفاق ونكوص مختلفة قبل أن تتحول إلى معرفة خالصة .و هذه المعرفة هي مادة جدلية معقدة و متشعبة و منفتحة وهي اليوم قائمة على الاحتمالات و على اللايقين و على تقبل التناقضات . و لا يقارب الطالب هذه المعرفة المرنة و الدينامكية إلا في مرحلة الدراسات العليا . وفي إطار منظومتنا التعليمية التقليدية تعالج هذه المعرفة عن طريق "النقل الديداكتيكي " لكي تصبح "معرفة قابلة للتدريس " فتتحول إلى مجموعة معارف رسمية مغلقة و مبسطة تمرر إلى الطلبة في المؤسسات التعليمية عن طريق المسلمات و اليقينيات المطلقة . وتحدد هذه النوعية من التعليم البنية النفسية للأفراد فتنمي لديهم الفكر الوثوقي و المنغلق الرافض للنسبية و التعدد. و هذا ما يجعلهم ينجذبون إلى الأفكار الدغمائية التي لا تقبل الشك في اليقينيات ولا التشكيك في المسلمات ...

فمن الضروري اليوم اعادة التفكير في البرامج والمناهج العلمية في مؤسساتنا العلمية و التقنية و تطعيمها بالمواد الانسانية و الاجتماعية اللازمة .


المراجع

(1) انظر دراسة أخرى قام بها الناشط و عالم الاجتماع المصري سعد الدين ابراهيم. إذ حاور 34 عضواً في اثنتين من المجموعات المتشددة، ووجد أن 29 منهم كانوا إما طلاباً جامعيين أو خريجين جامعيين. ومن بين 25 من هؤلاء، لاحظ إبراهيم أن 9 كانوا مهندسين و6 كانوا أطباء و6 كانوا مهندسين زراعيين وصيدلانيين و2 كانا يدرسان علوماً عسكرية تقنية وواحداً فقط كان يدرس الأدب

(2)Diego Gambetta et Steffen Hertog, "Why are there so many Engineers among Islamic Radicals?", European Journal of Sociology, Vol. 50 (02), August 2009, 201-230.
(3) Goleman Daniel. (1997). L’Intelligence émotionnelle: Comment transformer ses émotions en intelligence. Paris: R. Laffont,
(4)Becker G. (1968), Crime and punishment : An economic approach, Journal of Political Economy, vol. 76, n° 2, mars-avril.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان: أين الضغط من أجل وقف الحرب ؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. مؤثرة موضة تعرض الجانب الغريب لأكبر حدث للأزياء في دبي




.. علي بن تميم يوضح لشبكتنا الدور الذي يمكن للذكاء الاصطناعي أن


.. بوتين يعزز أسطوله النووي.. أم الغواصات وطوربيد_القيامة في ال




.. حمّى الاحتجاجات الطلابية هل أنزلت أميركا عن عرش الحريات والد