الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مؤتمر استنبول لمنع الحرب!

خالد عبدالله

2003 / 1 / 27
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


 

 
كاتب عربي مقيم في وارسو

اللغة الدبلوماسية في أفضل أحوالها تخفي الحقيقة، وفي أسوء استعمالاتها تنطق بنقيضها. وهي ظاهرة قديمة، لكن الأمريكان جعلوها فنا حينما ابتكرت الشركات الأمريكية الضخمة في الثلث الأول من القرن العشرين فن العلاقات العامة كي تحول إفقارها واستغلالها للناس تقدما ورفاها لهم. وقد أخذت الدول تسارع في محاكاة الولايات المتحدة في هذا الميدان كما تقلدها في كثير من الميادين. لكنها لم تصل بعد مستوى المهارة الأمريكية. ويبدو أن تركيا الحكومة تريد أن تمتطي ظهر التعاطف العربي والإسلامي معها الذي بدا واضحا بعد الإعلام الصاخب عن صفتها الإسلامية التي تنفيها، فقام رئيس حكومتها بجولة على إيران وبعض البلدان العربية. وكانت حملة علاقات عامة ناجحة لأن تركيا بدت كأنها تبحث عن سند من الأقطار المجاورة لمنع الحرب. ثم دعت لعقد قمة في استنبول لبحث موضوع الحرب. وكان لا بد لمن يعي العلاقة العضوية التركية الأمريكية، والبنية السياسية التركية أن يعمل الذهن تفكيرا في شعار منع الحرب. ولم يدم تعب الفكر طويلا، فقد تسربت خلال جولة المسؤول التركي معلومات تفيد أن تركيا ترى منع الحرب فعلا ولكن بعد تحقيق أهدافها.

ولم يوافق الاقتراح التركي المزاج العربي الرسمي، لأنه غير عملي، ولأن له مدلولات شيطانية. فالنظام الرسمي العربي يعرف أن صدام لن يقبله، وأن تبنيه إحراج له قبل رعاياه! ولكن الأخطر أن القبول بالمقترح قد يصبح مستقبلا كابوسا يقض مضجعه. فالرعايا ستستملحه، والأمريكان قد يذهبوا بشوط التغيير إلى آخر المدى. فكان القبول للذهاب إلى استنبول على مستوى الوزراء. وحينما أدركت تركيا أن مقترحها لن يقيض له النجاح احتالت عليه بالقبول ببعضه. فإذا بمقترحها الجديد يصبح تقريعا للعراق على ما مضى، ولوما له على ما يجري، وتحميلا له لمسؤولية ما سيحدث.

لقد كان من السذاجة ابتداء تصور التغيير الجذري في الموقف التركي، فهي تابعة لأمريكا تبعية هايتي، لكن حجم البلد ودوره الاستراتيجي في السياسة الأمريكية يجعل معاملتها أفضل كثيرا من معاملة هايتي. لكن حينما يحين الجد يسمح لها بالتمنع لكن لا يباح لها الرفض. ثم إن النظام في تركيا بمعظم أطيافه يعشق أوروبا ويريد الاقتران بها ودا أو خطفا، وهو يدرك أن الأول بعيد، وقرب الثاني في يد الأمريكان.
غير أن النظام التركي لديه مشكلة مع شعبه، فكل الناس ضد الحرب، والذهاب إليها قد يفقد حزب العدل مصداقيته، وقد يقود إلى القلاقل التي قد يقدم التعامل التركي النموذجي معها أعذارا لأوروبا لتأخير موعد الخطبة. فالنظام في تركيا، ومنه الحكومة الحالية، يريد مخرجا يرضي الأمريكان ولا يثير حنق الشارع التركي. وكم كان سيكون الحفل سعيدا لو دعي الأمريكان للنزول في حقول النفط العراقية سلما لا حربا. أما وأن الحدث السعيد بعيد الإمكان، فلا بد من تبرير الحرب في لباس منعها. وقد ظهر هذا من الإصرار التركي تدعمه معظم الدول العربية المشاركة على عدم توجيه الخطاب إلى أمريكا، بل قصره على العراق. فكأن التلويح اليومي بالحرب من عمل الجن الذي لا يرى، وكأن أمريكا ليس لها من الأمر شيئا. وهذه مناورة ساذجة ورديئة الصنع لتصوير تبرير الحرب منعا لها. فهو تقليد متهافت لمسعى الأمريكان في تصوير احتلال  العراق تنمية له وتحريرا لشعبه.

ومما يزيد في عري المناورة أن موقفا واضحا آخر لمنع الحرب يصرخ به أصحابه في أوروبا. فالموقف الفرنسي الألماني ضد الحرب يخجل كل المواقف العربية والإسلامية، ويفضح زيفها ويكشف ضعفها. فقد صرح الزعيمان الفرنسي والألماني بأن بلديهما تعتبران أن مجلس الأمن هو الوحيد المخول بإصدار قرار الحرب، وأنهما يعتبران أن خيار الحرب تعبير عن الإخفاق ولذا سيبذلان الوسع لتجنبها. وأكد المستشار الألماني أن بلاده لن تصوت بنعم للحرب، بينما لمح وزير الخارجية الفرنسية إلى أن لدى بلاده الشجاعة لكي تستعمل الفيتو. وقد انتظر الأوروبيون طويلا موقفا عربيا وإسلاميا قويا ضد الحرب، لكن طال انتظارهم. فمثل ذلك الموقف الصريح كان سيمثل دعما أساسيا للموقف الأوروبي ضد الحرب، بل كان يمكن أن يكون له تأثير على الزخم الشعبي المتصاعد ضد الحرب على الساحة الأمريكية نفسها.

ولا يجوز الاحتجاج بأن بواعث الأوروبيين مصلحية، فهل مصلحة العرب والمسلمين مع الحرب ضد العراق؟ وإذا كان من اليقين أن الحرب ضد العراق إضعاف للقدرات العربية والإسلامية عموما، فإن الدلائل تقوى يوما بعد آخر على كونها ستؤثر على الحكومات نفسها. وقد تمني الحكومات نفسها بأوهام التجاوز الأمريكي عنها إن أحنت رأسها أكثر فأكثر للسياسات الأمريكية. فهذا وعد زائف ترجوه لنفسها. فأمريكا قد أخذت من هذه الحكومات التنازلات بحيث لم تبق لها شيئا تعطيه. ثم إن هذا قراءة حالمة للسياسة الأمريكية تغترف من ظروف الحرب الباردة التي ولت. فمعظم النخبة في أمريكا أصبحت على قناعة بضرورة التغيير لا في الأشخاص وإنما في النظم، فالمنطقة لا زالت مستعصية نوعا ما على الاختراق الاجتماعي والثقافي. فهم يرون في استمرار النظم الاجتماعية والثقافية السائدة تفريخ للعداء للمصالح الأمريكية. فالتغيير مطلوب على طريقة ما يجري في أمريكا اللاتينية، تبديل للأشخاص متواصل وثبات مستمر للمصالح.

وحينما تحتل أمريكا منابع النفط في العراق، وتأتي بكرازي العراق سيغريها ذلك باستنساخ آخرين للبلدان العربية الأخرى. لكن الخوف يشل القدرة على التفكير قبل الحركة، والتغرير يقايض خطرا داهما بخطر آجل. فمعظم النظام العربي قد اجتمعت به خصلتان، الطلاق مع جماهيره، والارتهان للولايات المتحدة. وفي مثل هذه الأوضاع يقود مقال من توماس فريدمان إلى سهر الليالي قلقا وخشية ثم بحثا وتنقيبا عن مخارج للإرضاء. وتكون هذه المخارج دوما تفريطا في الحقوق القومية والقطرية. فقد كاد يطير حق العودة إلى غير عودة في الوثائق الرسمية العربية حينما هرع البعض لاسترضاء الأمريكان، وقد يذهب العراق شذر مذر ثمنا مقدما لوعد آجل زائف.

وقد هرع الكثير إلى استنبول لتأكيد ما يجمعهم مع غرضها في عقد الاجتماع، تجميل الوجه الأمريكي بالصمت عن حربه، وتحميل العراق نتائجها بوضع المسؤولية في حضنه، ثم الإعلان للجماهير العربية أنهم يعملون المستحيل لمنع الحرب. لكنها علاقات عامة خائبة ومفضوحة، فتركيا التي تريد منع الحرب تعد مطاراتها لاستقبال الجنود الأمريكان الغازين، والبعض الآخر يقدم على حياء التسهيلات للأمريكان. ثم يريدوننا أن نصدق أنهم يجتمعون من أجل منع الحرب. ذلك هو الإفك العظيم.             

***************

كنعان








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلسطينيون يرحبون بخطة السداسية العربية لإقامة الدولة الفلسطي


.. الخارجية الأميركية: الرياض مستعدة للتطبيع إذا وافقت إسرائيل




.. بعد توقف قلبه.. فريق طبي ينقذ حياة مصاب في العراق


.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار




.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟