الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدستور، الحريات وعودة المثقف

كامل شياع

2005 / 12 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


هذا المقال جزء من سلسلة دراسات وافكار من شاركوا معهدنا معهد الدراسات الاستراتيجية في الندوات والنقاشات حول مسودة الدستورقبل الاستفتاء و بعد اقرار الدستور من اجل استكماله بتشريعات ولوائح اخرى .ومما يسرنا ان مبادرتنا هذه تتكاتف مع مبادرات رديفة مثل نداء "عهد العراق" يناقش مقال الكاتب كامل شياع مشكلات الحرية و الاخلاق من منظور فكري و اجتماعي.

الدستور، الحريات وعودة المثقف
خلاف الاستبداد تولد الحرية عموماً في مناخ عاصف، وتنمو
بصعوبة وسط نزاعات أهلية،
ولا يمكن للمرء أن يرى النعم
التي جلبتها الا حين تكون قد بلغت سن النضج
آليكس توكفيل " الديمقراطية في أمريكا"

إطلاق الحكم في بعض نصوص الدستور أو تقييده بالنسبة لبعضها الآخر أمر وارد ومعمول به في مختلف دساتير العالم. فالقول مثلاً أن " لكل فرد حرية الفكر والضمير والعقيدة " يقر حكماً شاملاً وقاطعاً، وكذلك الأمر بالنسبة للقول " القضاء مستقل ولا سلطان عليه لغير القانون" أو " يحظر إنشاء محاكم خاصة أو إستثنائية". أما القول بأن " لكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية، بما لا يتنافى مع حقوق الآخرين، والآداب العامة " فينطوي على تقييد لممارسة الفرد خصوصيته. والأمر ذاته ينطبق على المادة 36 من الدستور العراقي الدائم التي هي موضوع مقالنا هذا. تنص المادة على:
تكفل الدولة، بما لايخل بالنظام العام والآداب:
أولا: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل.
ثانياً: حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر.
ثالثاً: حرية الإجتماع والتظاهر السلمي، وتنظم بقانون.

من المؤكد أن موضوع الحريات مثير للجدل وشديد الحساسية لأنه يتعلق بما يمكن اعتباره نقطة سوداء في تاريخ الدولة العراقية الحديثة. فبين إطلاق الحريات في المجالات المشار إليها وبين اشتراط التزامها بـ " النظام العام والآداب" منطقة رمادية تبيح الريبة وتستوجب الحذر. وان اثارة هذه القضية على جدول النقاش سواء في مبادرة "عهد العاق" او معهد الدراسات له اسبابه الوجيهة.
و ان عبارة " النظام العام والآداب" أعلاه توحي للذهن الليبرالي مباشرة بأسوأ ما يمكن أن تضطلع به الدولة: التضييق على حريات الأفراد، وبالذات المفكرين والمبدعين منهم، تحت دعوى حماية الصالح العام. الدولة التي ترشح نفسها لتكون قيّمة على الأخلاق العامة، لا تنتج في الواقع إلا القهر والتعسف، هكذا يحاجج من له قناعة ليبرالية، أو من خبر الحياة تحت ظل نظام شمولي.
ليس مردّ الريبة ومرجع الحذر من العبارة الاعتراضية " بما لا يخل بالنظام العام والآداب" في التقييد ذاته، وإنما في ما يمكن أن تترتب عليه إجمالاً من تفسيرات ضيقة أو منظورات محافظة. وهذا الاحتمال أصبح قائماً بالفعل نتيجة التركيب الطائفي للدولة العراقية الحالية الذي يعكس حالة مجتمع ممزق مشحون بالصراعات، يفتقر إلى التقاليد الديمقراطية وتكاد تنحسر فيه روح التضامن والمواطنة. لذلك هناك خشية حقيقية من أن يؤدي تفسير هذه العبارة إلى تقييدات اعتباطية للحريات المنصوص عليها.
يضاف إلى ذلك أن الدولة العراقية عبر تاريخها لم تضع ضمن أولوياتها صيانة الحريات المنصوص عليها في الدساتير التي سنّتها، بل تقليصها أو التجاوز عليها بذرائع شتى فكرية وسياسية. لدينا على هذا الصعيد العديد من الأمثلة الصارخة، حسبنا أن نذكر منها دستور عام 1970 المؤقت والمعدّل الذي نص في مادته السادسة والعشرين على: " يكفل الدستور حرية الرأي والنشر والإجتماع والتظاهر وتأسيس الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات وفق أغراض الدستور وفي حدود القانون. وتعمل الدولة على توفير الأسباب اللازمة لممارسة هذه الحريات التي تنسجم مع خط الثورة القومي التقدمي".
أهمية هذا النص تنبع من كونه نصاً أيديولوجياً بامتياز، وضع موضع التطبيق والاختبار لمدة طويلة نسبياً تفوق الثلاثين سنة، وبرهن بالفعل على إن إرادة السلطة أقوى من أحكام القانون وأعلى من مصلحة المجتمع. فحريات مثل التعبير عن الرأي والنشر والإجتماع والتظاهر وتأسيس الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات صادرتها " أغراض الدستور" وأفرغها "خط الثورة القومي التقدمي" من مضامينها.
لذلك يجوز القول بإن تثبيت حريات من هذا النوع والزام الدولة بحمايتها لا يحسب إلا للدستور كنص، أي كصيغة شكلية أو إسمية أو معيارية لإقرار قضية ما عاد تجاهلها ممكناً. أما الإلتزام الفعلي بها فيتوقف على فلسفة الحكم أو أيديولوجيته، ونضج الحياة السياسية عموماً. لقد بقيت دولتنا العراقية عبر ثمانين عاماً من قيامها هشة وقابلة للإختراق إزاء التوظيفات أو " الغزوات" الأيديولوجية للسلطات الحاكمة التي تعاقبت عليها، وتعزز بضعف المكون الديمقراطي في الحركة السياسية لأسباب تاريخية معروفة.
ما نصت عليه المادة 36 من الدستور الدائم تدعونا للتفكير في جملة من القضايا. علينا أولاً حسم موضوع الاعتراف بمبدأ التقييد الذي يعزى إلى قواعد الأخلاق أو الأعراف كما في العبارة الشرطية " بما لا يتعارض مع ..... أو بما لا يخلّ بـ ....الخ " المذكورة في المادة موضوع الحديث، أو يترك أمره إلى المشرع كما في عبارة " ...... وينظم بقانون" الواردة في المادة 10 من دستور 1958 التي تنص على " حرية الإعتقاد والتعبير مضمونة وتنظم بقانون". ولكن سواء تضمن الدستور تقييداً لحريات التعبير والنشر والاجتماع أو لم يتضمن، هناك في جميع دول العالم قيود مفروضة عليها. في بريطانيا هناك قانون يمنع التجديف، وفي فرنسا يعاقب كل من يشكك بالنسخة الرسمية عن محرقة اليهود في معسكرات الاعتقال النازية، وهلم جرا. وهناك أيضاً رقابة، ليست سيئة بالضرورة، على بعض البرامج التلفزيونية التي تروج للعنف والكراهية والإباحية، وكذلك على المواقع الإلكترونية التي تروج لتجارة الجنس، وهناك رقابة، محدودة زمنياً، على تداول المعلومات أو على كتابة التاريخ وغير ذلك.
لا نقصد هنا طبعاً تبرير القيود المفروضة على الحريات، بل تأكيد شرعية المطالبة بها حين يلتف عليها نص الدستور أو تجهز عليها السلطة. لذلك فهي تحتاج إلى أساس أخلاقي (غالباً ما يكون ذا طبيعة خلافية ) كي لا تكون سائبة وعبثية، أو تسقط في نظرة نسبية مسطحة تلغي المقايسة بين حالاتها وتجلياتها.
علينا ثانياً تمحيص أسباب التقييد وغايته. فعلى المستوى الاكثر تجريداً يعبر تقييد الحريات في نص الدستور عن نزاع عميق حول مفاهيم الصالح العام، طبيعة المجتمع والتاريخ، ماهية الإنسان. على هذا المستوى يحيل فهم الحريات وتفسيرها على مجال الغايات البعيدة والمثل الكبيرة التي تتسع إزاءها شقة الخلاف بين الأيديولوجيات والقيم الحضارية. فالماركسية والليبرالية والقومية التي تعارض بعضها البعض في مسائل أساسية، تقف جميعها، بحكم مكونها الوضعي العلماني، على طرف نقيض مع الرؤية الدينية للعالم. وكذلك هو الحال مع قيم حضارات الشرق والغرب ( الغرب الحديث على وجه التحديد) التي تلتقي في مواضع وتفترق في أخرى لدرجة يتخيل البعض أن هناك شرخاً أسطورياً بينهما.
أما على المستوى الملموس فإن السؤال من يقيَد الحرية؟ ولماذا؟ هو سؤال عملي يرتبط بالصراع السياسي المحكوم بعاملي القوة والشرعية. والخشية على الحريات من نص الدستور ذاته تجد ما يسندها اليوم في ما هو قائم خارج النص حيث السياسية السائدة سياسة هوية طائفية وأثنية وولاءات تقليدية. من هذا المنظور، ليست الحريات وحدها في خطر. فمن الممكن أن يؤدي تلازم هذا النص الدستوري وتلك السياسة إلى فرض تفسيرات ضيقة وأحادية الجانب لعلاقة الدين بالدولة، مصادر التشريعات والقوانين، نظام التعليم والمناهج الدراسية، حقوق المرأة، المواطنة، صلاحية المواثيق الدولية حول حقوق الإنسان.
لكن ما دمنا في إطار السياسة فينبغي أن نضع في الحسبان أننا لسنا إزاء معركة أخيرة لو خسرناها لخسرنا كل شيء، ولو كسبناها لكسبنا العالم بأسره ! بل إزاء معركة طويلة الأمد على الحقيقة والعقل والعدالة الإجتماعية والحرية وكرامة الإنسان وفي هذا المجال يمكن لمنظمات المجتمع المدني أن تنشط لتشكيل صورة مغايرة للعراق الذي تسلطت عليه الديكتاتورية فأشاعت فيه صنوفاً لا تعد ولا تحصى من الخراب والتشويه والتخلف . لقد مرّ العراق بماض شنيع تسلطت فيه الديكتاتورية فأشاعت الخراب والتخلف. ومن المنحدر التاريخي الذي انتهينا إليه يبدأ صراع مفتوح على المستقبل الذي لا يستوي النظر إليه مع صناعته على الأرض.

أخيراً، أن قيمة الدستور بصيغته الحالية لا تكمن في كماله أو عدم كماله، بل في تهيئته لسياق سياسي وفكري مناسب للصراع على تفسيره والاجتهاد في تعديله وتطويره. التأسيس السليم يقتضي بداية صحيحة لكنه يقتضي بدرجة أكبر خوض صراعات حقيقية حوله. بدون ذلك تكون الفكرة في واد والواقع في واد آخر. وإذا ما تواصلت العملية السياسية، فستنتظر العراق معارك مكشوفة على الحريات وعلى سواها من القضايا الأشكالية. رغم التناقضات الظاهرة التي توحي أحياناً بنهايات قاتمة، لم تتوفر للمثقف العراقي شروط أفضل للظهور كقوة مدنية ذات مشروع تاريخي إنساني. وثمة فرصة فعلية في منطقة عدم التحديد، التي يسمّيها نص الدستور أو يقف دون تسميتها، أدركتها مجموعة غير قليلة من مثقفينا وجسدتها في مبادرات عديدة لتفعيل دور الفكر والثقافة في صناعة روح هذا الزمن. ورصيدهم في ذلك الحريات التي سنحت للمثقف في لحظة " الفوضى" بين سقوط النظام القديم وتبلور نظام جديد. إن عودة الوعي إلى المثقف الذي سلبته السلطة من حرياته، واستسلم لها حين لم تتيسر له منافذ أخرى، يعني خروجه من قوقعة الهموم الذاتية الرومانسية، ويعني أيضاً عودته إلى عالم الحياة.

-----------------------------------------------------------------------------------
عنوان موقع المعهد العراقي للدراسات الإستراتيجية:
http://www.iraqstudies.org/
البريد الإلكتروني:
[email protected]


معهد الدراسات الاستراتيجية
حملة تعديل الدستور








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من ساحة الحرب إلى حلبة السباقات..مواجهة روسية أوكرانية مرتقب


.. محمود ماهر يطالب جلال عمارة بالقيام بمقلب بوالدته ????




.. ملاحقات قضائية وضغوط وتهديدات.. هل الصحافيون أحرار في عملهم؟


.. الانتخابات الأوروبية: نقص المعلومات بشأنها يفاقم من قلة وعي




.. كيف ولدت المدرسة الإنطباعية وكيف غيرت مسار تاريخ الفن ؟ • فر