الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حدث في قطار آخن -50-

علي دريوسي

2016 / 4 / 22
الادب والفن


- ما الذي تنوين فعله هناك؟ سألها أحمد.
- لقد حجزت لي ولك موعداً عند الكوافير، سنذهب بعد ذلك إلى السوبرماركت ألدي، هناك عرض على غلاية قهوة، أحتاج واحدة لمكتبي في آخن...
- لديّ الوقت، أرافقك بطيبة خاطر، شكراً أيضاً للموعد مع الكوافير، إنّه التخاطر، لقد أردت اليوم في كل الحالات البحث عن صالون حلاقة جديد في آخن...
- سرّني أن التخاطر بيننا قد عاد بعد انقطاع! ما الذي يجعلك تبحث عن صالون شعر جديد؟ سألت سابينه.
- علمتُ الأسبوع الماضي أنّ حلّاقة شعري، الكوافيرة بِيغيْ، تلك المرأة الخمسينية والقادمة من جبال الخام في ألمانيا الشرقية سابقاً، قد غادرت الصالون الذي تعمل به والمدينة أيضاً، إلى مدينة أخرى... أما الكوافيرات الأخريات في الصالون فهن صغيرات العمر والتجربة، أصابني الإحباط وتأنيب الضمير لإضاعة الوقت... شكرتهم وقررت البحث عن صالون جديد تعمل فيه اِمرأة ناضجة! أجاب أحمد.
- الكوافيرة التي تجيد مهنتها لا تقل أهمية عن أي كاتب أو رسّام أو بروفيسور... تستحق أنْ نصنع لها تمثالاً. قالت سابينه.
- لكنها في شرقنا مظلومة، لم يحترمها المجتمع بعد، الزبائن-الناس هم من أساؤوا لمهنتها، حتى القانون اِستَهتَرَ بمهنتها، بِصَاحِبَة المهنة، لم يحميها، ونحن الذكور في الشرق لم نتعلم الحب، اخترعنا للكوافيرة هناك أسماء عديدة، أبسطها: الفلتانة والبترونة وسيئة الخُلق! قال أحمد ثم أضاف:
- في قناعتي الشخصية يا سابينه الوطن يبنيه الجميع بدءاً من ماسح الأحذية، وأياً كان رأي الناس بالمهنة فمن يمارسها برضى وشغف هو من يغير نظرتهم إليها.
- الجزء الثاني من كلامك ينطبق فقط على الحياة في المجتمعات الراقية لا عليها في مجتمعاتكم الشرقية. قالت سابينه.

"حتى الأعمال اليدوية ثقيلة الطبع وغير الإبداعية، التي غالباً ما يرفض الإنسان القيام بها في المجتمعات الشرقة غير المتطورة لإسباب اِجتماعية ونفسية وأخلاقية، تتحول في المجتمعات الرأسمالية المتطورة إلى أعمال مقبولة، خفيفة الطبع وإبداعية، لأنّ القيام بها يَتطلّب تشغيل العقول، كنتيجة حتمية للتطور التقني الهائل وأتمتة البشاعة البصرية."

- ما الذي جعلك تتمسك بالكوافيرة بِيغيْ؟ هل كانت تلاطفك؟ سألت سابينه.

- لحظات غسيل ومداعبة شعر الرأس في صالونات قص الشعر التي تعمل فيها أمثال الفنّانة بِيغيْ هي من اللحظات السامية التي يعيشها الإنسان، إنّها أشبه بلحظات إطلالة الربيع الأبدي العابق برائحة الغزلان، إنّها شكل من أشكال التواصل الإنساني، خاصة عندما ترتاح الكوافيرة للزَبُون، أي كما يُقال: إذا ما انطبقت الكيمياء بينهما، حينئذٍ تحشرُ رأسه بين يمامتيها، ليغوص هو في عالمٍ يسوده الصمت، راجياً من الله أن تطول مدة مكوثه. تَفَلسَفَ أحمد.
- شدة الهيام والولع في الكبر، هي نتاج التراكمات والأحداث المعاشة في الطفولة يا أحمد، هل رأيت فلم حبيب الكوافيرة؟
- لا لم أشاهده بعد! أجاب أحمد.
- عليك أن تتعلم الكثير بعد! إنّه من أحلى الأفلام الفرنسية، فيه أحلى القبل والهمسات والإيحاءات الجنسية على أنغام شرقية، في وقت الظهيرة وخلال ممارسة المهنة. قالت سابينه ضاحكة.
- عمّ تدور القصة؟
- أنتونيو، الرجل العاشق في فلم حبيب الكوافيرة، رجل صقلته مراقباته في مرحلة الطفولة لإحداهن والتي عملت ككوافيرة في الحارة التي عاش فيها، عندما كَبُرَ، رافقته أحلام ومشاهدات الطفولة، بل وجَّهته... تعرّف إلى كوافيرة، أحبّها وأحبّته، ذات يوم انتحرت الكوافيرة من شدة العشق!
- دعينا نعيد تمثيل الفلم؟ هل ترغبين أن أكون أنتونيو الفرنسيّ أم أحمد الشرقيّ؟ سأل أحمد مناكفاً.
- أرغب أنْ تسرع بإتمام فطورك كي نذهب. انتهى وقت التسلية، علينا أن نعمل، وعندما نصل إلى لندن فلكل حادث حديث. قالت سابينه ونهضت إلى الحمّام.

- ولما العَجَلَة؟ ألا ترين أنّ تَصْفِيفة شَّعْرِي ما زالت جميلة؟ أم تعتقدين بأنّني أحمل على رأسي باروكة ماركسية؟ هل سأموت بعد عودتي من الرحلة إلى لندن؟ هل سيمتلئ رأسي الجميل بعد العودة باللندنيين والأجانب؟ هل سيتغير لون بَشَرتي؟ هل ستأخذين لي صورَةً بتَصْفِيفة شَّعْرِي الجديدة؟
- اِعتقني يا أحمد، سأذهب للحمّام، لا وقت لدينا، هل عادتْ موجة الكوكايين؟

"تَصْفِيفُ الشَّعْرِ واللِحْيَة الكَثَّة رمزان لا غنى عنهما للقوة الثورية في الزمن الماضي! كان كارل ماركس أَصْلَع الرأس، يرتدي باروكة! عندما عاد من رحلة نقاهته، رحلته الأخيرة (باريس-مرسيليا-الجزائر-مونتي كارلو-بحيرة جنيف-لندن) في الثاني من أيار من العام 1882، كان رأسه مليء بالعرب والأفارقة! وقد أصبحت بَشَرته بنية مُعتِمة بلون الكستناء.... ذهب إلى المُصوِّر، أَخَذَ لهُ صُورَةً بتَصْفِيفة شَّعْرِه المُستعار المعروفة ولِحْيَته النَبَويّة الكَثَّة، كما يصفها الألمان... قبل موته في عام 1883، بعد الصُورَة ذهب إلى الحَلاَّق، حلق لِحْيَته النَبَويّة، ثم خلع عنه الشَّعْر المستعار، كفعل رَمزيّ تَحريريّ ضد محاولة الناس لتحويل بورتريه/صورته إلى أَيْقُونَة والتَّبرُّك منها... كردة فعل ضد عبادة الفرد!... هذا بعض من مُقتَطَفات رسالة صهر كارل ماركس باول لافارجو التي كتبها لتصل فريدريش إنغلز من كتاب ماركس في مدينة الجزائر."

***** ***** *****
سارا في المدينة الصغيرة إلى أن وجدا صالوناً رخامياً أنيقاً من طابقين. دخلا من الباب الزجاجي العريض. همست سابينه: لهذا المحل سمعة جيدة بين الميسورين.
في الداخل فُوجئ أحمد برحابة المكان ونظافته، انتشرت حوالي خمسة عشر كرسياً للحلاقة في الطابق الأرضي مزودة بكل ما يلزم وجاهزة لاستقبال الزبائن، الكراسي خالية من العاملين والعاملات! كان الكوافير يجلس في كرسيه وفي يده كتاب، رجل أنيق يرتدي الأسود، رجل يقترب من نهاية العقد السادس…
نهض كلب أسود كبير، مشى باتجاه أحمد يشمه، تراجع أحمد للوراء وكأنّه يحتمي بظهر سابينه.
- لا تقلق منه يا سيدي، إنّه لا يؤذي. الكلب هو مفتاح الباب إلى المجتمع والعالم الخارجي، الكلب هو المفتاح إلى معالجة الأطفال المرضى والمعاقين. قال الكوافير وهو ما زال جالساً.
- للأسف الكلاب مظلومة في ثقافتنا، جعلوننا نخاف منها. قال أحمد.
نهض الرجل بشعر رأسه الطويل والخفيف، بيديه المرتجفتين اللتين لا تصلحا لكوافير، تأبَّط الذراعَ اليسرى لصديقته سابينه، وباليمنى صافح أحمد، عرفتهما سابينه على بعض، ثم ساعدها على الجلوس في كرسي الحلاقة، وجلس أحمد في أحد الكراسي القريبة من المدخل الزجاجي، بدأ الرجل عمله ببطء شديد، راح يتحدث إليهما...
- شعرك طويل وجميل يا سيد أحمد، هل تحترف الفن؟

داعب أحمد شعره الطويل وتذكَّر صديق طفولته الذي انتقل وأسرته إلى بلدٍ مجاورٍ طالما عانى من ويلات الحرب...
"وقف أمام المرآة، نظر إلى شعره الطويل وابتسم. منذ زمن لم يغسل شعره! قبل أن يذهب إلى الحلاق، توجّه إلى غرفة نومه. باسَ زوجته النائمة في خَدِّهَا... كتبَ في دفتر مذكراته اليومي مُتهكِّماً من الحياة في زمن الحرب البلهاء: (سقط صاروخ صباح اليوم أمام مدخل دكان الحلاق، هناك ضحية واحدة بشعرٍ طويل)... أغلق الباب خلفه بإحكام، حيّا جارته وكلبها ومضى دون رجعة..."

- كلا، أنا أعمل في الجامعة، في مجال التصميم الهندسي. أجاب أحمد مبتسماً.
- هذه أيضاً مهنة تشبه مهنة الفنّان. قال الكوافير ضاحكاً.
- هل حلاقة الشعر هي مهنتك الأساسية؟
- ....

تكلّمَ الكوافير كثيراً وجميلاً، تكلم بوعي أكاديمي كبير، بثقافة تختلف عن المألوف، تكلّمَ عن طرق التفكير المختلفة بين الشرقيّين والغربيّين، تكلّمَ عن الأطفال وعن أهمية اليونان كنقطة اصطياف، تكلّمَ عن الملكية وعن المعجزة الاقتصادية في ألمانيا، تكلّمَ عن فلاسفة نمساويّين، تكلّمَ قليلاً عن البيزنطيّين...
- هل أنت على علمٍ يا سيد أحمد بأصل تسمية البيزنطيّين؟
- لستُ أدري! أجاب أحمد.
تكلّمَ بشكلٍ مُقْتَضَب عن أصل التسمية وقصة نشوئها، كانت حكاية رقيقة.
بعد حوالي ساعة ونصف أنهى قص شعر سابينه، شكرته سابينه بامتنان.
- إنّها من أحلى القصات التي حصلت عليها في السنوات الأخيرة، لقد بدأت استرجع شعري. قالت سابينه ودموع فرح في عينيها.
- صبراً، سيصبح شعرك أحلى وأكثّف مما كان عليه. قال الكوافير ثم ضمّها برفق.


جاء دور أحمد، جلس على كرسي القص والاسترخاء، جلس وهو يفكر بدموع فرح سابينه التي استدمعته، جلس وشعور حب لها يعتمره، جلس دون أن يسمع حديث الكوافير لمعشوقته الدامعة سابينه، جلس دون أن يسمع موسيقى سوناتا ضوء القمر، للموسيقار بيتهوفن، التي تصدح في أرجاء الصالون شبه الفارغ، موسيقى مشحونة بالحزن والجمال والمشاعر النّبيلة.
- عذبة هي هذه المقطوعة الموسيقية. قال أحمد.
- هي كذلك، أسمع أثناء عملي غالباً بيتهوفن وباخ. قال الكوافير.
- وأنا أيضاً، أحب الموسيقى الكلاسيكية.

"لغناه الإبداعي ولقدراته اللانهائية على الخلق الموسيقيّ بما يختص بتآلفات البناء الهارموني وتوليفات/تركيبات النغمات الموسيقية... اِنبغى أن يكون اِسمه بَحْر، بدلاً من جَدْوَل! باخ تعني باللغة الألمانية جَدْوَل... مير تعني بالألمانية بَحْر... هذا ما قاله أعظَم عباقرة الموسيقى في كل العصور، الملحن وعازف البيانو الألماني لودفيغ فان بيتهوفن عن أحد أكبر عباقرة الموسيقى الكلاسيكية في التاريخ الغربي، المؤلف الألماني يوهان سباستيان باخ. هكذا تتكلم العباقرة في الغرب."

عمل الكوافير تسريحة شعر جميلة للأحمد، ثم ودّعهما عند الباب، ذكّره أحمد بأنّه لم يدفع إجرته بعد، ضحك وأعلن نسيانه للأمر، ثم طلب مبلغاً زهيداً، تفاجأ أحمد، قدّمَ له المبلغ.
- ما العمل الحقيقي الذي مارسته في الماضي أيها السيد! سأله أحمد مرة ثانية.
- في الحقيقة أعمل منذ شبابي كوافير، هذا المحل ملكي وكذا البناية المجاورة أيضاً، أمارس المهنة بولع، لكنني درست في الجامعة أيضاً الفلسفة والرياضيات. أجاب الكوافير مبتسماً.

تبادلا البطاقات والأسماء، ثم خرج أحمد من محل الكوافير مودِّعاً وهو يَتأبَّط الذراعَ اليسرى لحبيبته سابينه وكأنّه أراد تسجيل هدف في مرمى الكوافير، بعد أن تعلّم منه درساً في الإيتيكيت الاِجتماعي، خرج وقد عَلقتْ بذاكرته قصة الاسم الحقيقي للبيزنطيين، وطرق التفكير الكلّانية والاختزالية ودموع سابينه الغامضة.

***** ***** *****
- ما الأمر؟ ما الذي أبكاكِ؟ سأل أحمد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم الممر مميز ليه وعمل طفرة في صناعة السينما؟.. المؤرخ ال


.. بكاء الشاعر جمال بخيت وهو يروي حكاية ملهمة تجمع بين العسكرية




.. شوف الناقدة الفنية ماجدة موريس قالت إيه عن فيلم حكايات الغري


.. الشاعر محمد العسيري: -عدى النهار- كانت أكتر أغنية منتشرة بعد




.. تفاصيل هتعرفها لأول مرة عن أغنية -أنا على الربابة بغني- مع ا