الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مواطن بأوراق ناقصة

يوسف أحمد إسماعيل

2016 / 4 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


في بداية التهجير ، كان الهمّ مقيماً في التفاصيل اليومية التي رفضت الخروج من جذورها، وبقيتْ في الذاكرة والدمِ تعشّش في المخيّلة ، وترسم شكل الوطن ! حيث يُعَرَّفُ ، للتوضيح ، بأنّه، هو بيتك وأهلك وجيرانك وسهراتك وصحبتك وضحكتك وغضبك وفرحك وحزنك ، مع كل من ساهم في عيشك بشكل إيجابي أو سلبي ... إنه كل ذلك ..؟!
مع هذه الحرارة في التفاصيل، يبقى الوطن شاهداً يومياً على عذاباتك ، ولذلك تلجأ إلى الإعلام لتسمع وترى أخباره الكبرى، اطمئناناً على تفاصيلك الصغيرة .. ولكن حين يطول تهجيرك ، وتتراكم الأحداث والأيام والتفاصيل الصغيرة، بغيابك وغيابهم، ما الذي يحدث بداخلك ؟! لعله ، من أول الانعكاسات السلبية أنك توقف الزمن عند لوعتك المنقضية، وتجمّده حيث غادرتَ تفاصيلَك ، وأوقفت تراكمها ، لتنشئ، رغماً عنك ، ذاكرة جديدة ... ذاكرة قد لا تعجبك ؟! وقد تؤلمك ، وتطحن عظامك ، وتحيلك أو تهيّئك للموت البطيء، ولكنها حالة ، في حدودها الدنيا ، هي شكل من تفاصيلك الجديدة .. قد لا تستند ، وهذا غالباً ، على تفاصيلك القديمة التي غادرتها أو غادرتك ، ولكن المطلوب منك أن تعيش فيها بلا روح أو طعم أو حرارة ، ولذلك قلنا : إنها قد تؤدي بك إلى الموت البطيء.. حينها يتصاعد حنينك إلى ذاكرتك المنقضية هناك، وتفاصيل عيشك الماضي ، ويصبح الوطن طيفاً، أو حلماً ، صُنع للإمعان في وجعك ..
حين يطول التهجير ، وتتراكم التفاصيل ، عندك وعندهم ، بعيداُ عن المشاركة المتبادلة ، يتحوّل التواصل إلى جزء من العالم الافتراضي الذي يحمل ألوان الأخبار في الإعلام ، مرة بحيادية، ومرة باستغراب، ومرة بحزن عابر ؛ ولكن كل ذلك الاهتمام لن يتجاوز الدقائق المعدودة ، أو التعليقات السريعة . وفي ذلك الوجع العميق والباهت في الوقت ذاته، تكون قد ضيّعت ، رغماً عنك ، ذاكرتك القديمة وحولتها إلى ألبوم صور ، دون قصد أو دون لوم ..وحينها تتحول إلى مَسخ ، يكابد من خلال قدرته على تعداد الأيام ، وهو ينظر في الفراغ؛ لأن الوطن أصبح بعيداً دون تفاصيل وجزئيات، تشارك في صناعتها، مع من كان يمثل الوطن لديك ..
قد نلجأ في اعتراضنا على ذلك إلى المقولات الكبرى ، مثل ، عليك أن تكون واقعياً، وتثبت ذاتك في هجرتك ؟! نعم عليك فعل ذلك من أجل أن تكون مبدعاً في قدرتك على التلاؤم والعيش ، ولكن يجب التنبيه، حينها، أننا نتحدث عن المهجَّر وليس المهاجر ، كما نتحدث عن الوطن الذي تشكّل من تفاصيل ذاكرتك، وليس الوطن الذي سيتشكّل من تفاصيل اندهاشك في الفرجة .. أو من تفاصيل وجعك في الغربة أو من تفاصيل التزامك بالقوانين التي تنظّم علاقتك مع الجيران والزملاء والعابرين بك .
في تحوّل الوطن عند المهجّر إلى فكرة معذّبة بعد أن كان عيشاً ومشاركة ، يمثّل جريمة تُرتكب بحق المواطن المهجّر أولا والمواطن المهجور ثانياً ؛ هذا على المستوى الفردي ، وبحق الوطن ككيان اجتماعي على المستوى العام ... فإلى أي المحاكم سيلجأ المهجّر من سورية ؟! وماذا سينفع الانتصار لحقه في محكمة ما ، بعد أن تحوّل الوطن لديه إلى فكرة ؟! وتحوّل هو في نظر الوطن إلى أثر من آثار الهزيمة والانكسار ، ويتحول خلالها إلى مواطن بأوراق ناقصة ، وغالباً ، وفي كل الدكتاتوريات العريقة ، مواطن بأهلية ناقصة ، ولذلك إذا لم يساندها ، حين تحتاجه ، تفتح أوراق تهجينه ، وتسحب منه أوراق انتمائه إلى الوطن ؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أنس الشايب يكشف عن أفضل صانع محتوى في الوطن العربي.. وهدية ب


.. أساتذة ينتظرون اعتقالهم.. الشرطة الأميركية تقتحم جامعة كاليف




.. سقوط 28 قتيلاً في قطاع غزة خلال 24 ساعة | #رادار


.. -لن أغير سياستي-.. بايدن يعلق على احتجاجات طلاب الجامعات | #




.. هل يمكن إبرام اتفاق أمني سعودي أميركي بعيدا عن مسار التطبيع