الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معذرة فيروز؛ لكنني فرغت منكِ...

عبد الرحمن جاسم

2005 / 12 / 6
الادب والفن


نعم، لقد انتهيت منكِ فيروز، لا أريد أن أسمعكِ بعد الآن، لا أريد أن أسمع لصوتك الشجي، أو لكلمات الأخوين رحباني الحالمة، والأحزان المطرية المرتلة هناك؛ نعم أنا وبكل قواي العقلية أقول وأصر على الأمر.
لقد مضى الآن أكثر من سنتين، وأنا ألاحقكِ من مكانٍ إلى آخر، حتى صرتُ مدمناً لكِ، مدمناً لصوتكِ، وهذا شأن أغلبنا، وهو أمر لا ذنب لكِ فيه إلا أن صوتك أكثر من جميل، وأن آذاننا فيها شيء من شجنٍ وحنين. باختصار يا سيدتي العظيمة، لا أريد أن أسمعك بعد الآن، وقد تستغربين كلامي، إذا كان لا يريد أن يسمعني لِمَ لا يفعلها ويصمت، لِمَ يخبرني؟
سأخبركِ بالأمر سيدتي كما حصل معي، وأترك الحكم بين يديكِ.
بلغ عمري الآن سبع وعشرين عاماً، وأنا أستمع إليكِ كل يومٍ صباحاً، كل يومٍ أنتظر حبيباً لا يأتي، كل يوم أراقب ليالي الشمال الحزينة، أتبع طريق النحل، وأكتب أسماء أحبتي على الحور العتيق، وأرسم نجماتِ لكتبي، كل يومٍ منذ أكثر من عشرين عاماً.
كلما ذهبت في مكان، أخذتكِ معي، أخذت أشرطتك –قبل اختراع الأقراص المدمجة وانتشارها- وبعد تطور الأمر شيئاً، أخذت أحمل سماعات الأذنين (الوكمان) وأمشي وأنتِ تزينين طريقي، وترسمين بصوتك خطاي، وأنا مبتهج فرح. وإذا ما حصل أن زرت أحدهم، أو سهرت عند أيِّهم طلبت وبإلحاح أن تكوني ضيفة المكان، وللحقيقة أنتِ ضيف مبهج لجميع الناس، فالكل يحب أن تكوني عنده، وأن تزيني لياليه. ولم يقلقني الأمر لثانية آنذاك.
كلما كنت أجلس لأكتب شيئاً، كنتِ تضيئين المكان بأغانيكِ، أنا الذي لا يشرب الشاي، ولا يدخن، كنتِ أنتِ ادماني، وقبلتكِ، كنت أقرب إلي من كل من حولي، وما تضايقت، اعتقدت أن الأمر كان جزءاً من حبي لحلم.
وزاد الأمر، زاد من جراء كل ما حولي، صرت أهرب إليكِ، صرتُ أكره أسمع لصوتٍ غير صوتك، لكثرة الأصوات القبيحة حولي، ولكثرة المطربين-الشواذ الذين لا يعرف أحدٌ ماهيتهم، ذكوراً أم إناثاً. يا سيدتي، هربت إليكِ، إلى الكلام ذو المعنى، والموسيقى الرائعة؛ يا سيدتي وما عرفت أن ما أهرب إليه ذات يومٍ سيمسكني.
هربت وأنا أبحث عن مكانٍ يلتجأ إليه مثلي، من يريد مكاناً أفضل للحياة، مكاناً أفضل للحلم، أرضاً أقف عليها ولا أهرب. سماء لا يقتل تحتها الأخ أخاه، ولا يظلم الصديق صديقه، يا سيدتي، كنت أراكِ جزيرتي التي ألجأ إليها حباً وتكرماً.
هربت وأنا أبحث بين أنامل صوتك عن ليلٍ عادي، يلتقي فيه العشاق، عن نهارٍ يعمل فيه الفلاحون وشمسٍ تشرق كل يوم بحب ودعة؛ يا سيدتي كنت أريد وطني؛ أريد أن أراه ككل الأوطان، محباً عاشقا. يا سيدتي كنت هارباً وكنت خير المهرب.
وفجأة؛
نظرت حولي، نظرت حولي مرة أخرى، ولم أرَ شيئاً مما تتحدثين عنه! لم أر أي شيء مما قلتي لي مراراً أنه موجود؛ لا ضيعة جميلة، ولا عشاق أحباء، ولا حتى حزنٌ يحترم.
لا وطن يشبه وطن القصائد والأغاني، لا فتاة تنتظر، لا عاشق مغرم؛ لا أرض تسكن. يا سيدتي، حتى النحل استباحوا طريقه، وليس الشمال وحدها لياليه حزينة، فالجنوب كذلك؛ والطرقات أصبحت مزفتة، ولا يكتب فوقها شيء، وحتى القرى دخلتها الكهرباء، والناس نسوا كل شيء، وما عاد هناك ضوء كاز ولا براءة؛ البراءة صارت عملةً نادرة سيدتي، ماذا بقي لكِ ولي ولنا؟
ليس هناك يا فيروز أيٌ من هذه الأمور التي تتحدثين عنها.
اكتشفت للأسف أنك أذهب معكِ لطريق لا أريد أن أسلكها، ولأول مرة وجدت نفسي أبتعد عنك. أبتعد عنك، بعنف؛ أجل بعنف؛ كمن ينزع شرايينه بيديه، وصرت أقرب إلى يتيم من دونك، ولكن قبلت الأمر. أحسست أنك تخدرين احساسي بالواقع، ترسمين رسوماً لا أريد أن أراها. فهذا الخير الكثيف الذي يهطل في أغانيك لا وجود له واقعاً؛ وهذا العاشق الذي يظل منتظراً إلى الأبد، لا يسكن الواقع، ولو حتى في قصة. صار العشاق سيدتي عملةً نادرة. والحب تجارةٌ مربحة للكثيرين.
يا سيدتي، عرفت البارحة أنك قد بلغت السبعين من العمر، أحييكِ مبتعداً عنكِ، وأنا حزينٌ للغاية، ولكنني اكتفيت منكِ. فما بي يكفيني؛ ولا أريد أن أتخدر أكثر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-


.. فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية في الجزاي?ر




.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب