الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يا قوم اتبعوا المرسلين

كاظم الفياض

2016 / 5 / 5
مواضيع وابحاث سياسية



هناك أفعال مجمع على إنكارها، كالقتل والسرقة. ويكمن الاختلاف بين التيارات الفكرية السائدة في جميع المجتمعات، إلى التوسعة في قائمة الأفعال الممنوعة، وفي نوع العقوبات الواجب إيقاعها بمرتكبيها. ويمكننا القول بأن تأريخ سريان هذه العقوبات هو أوضح مؤشرات الخلاف. فالعقوبات القديمة دينية صيغت وفق متطلبات بيئية خاصة بشعب ما. وتكون بدنية في أغلبها، جلد، قطع أطراف، قتل. وتنفذ لمكافحة أفعال عدوانية، وأخرى غير عدوانية، بل شخصية، مورست تلبية لاحتياجات نفسية أو جسمية كالزنا، بحجة المحافظة على الأخلاق العامة. ومع تطور النظام الإداري للمجتمعات، استبدل كثير من العقوبات البدنية بالسجن. وسمح بمزيد من الحريات الشخصية. وعلى هذا يمكننا أن نفرق بين التيارات الفكرية العالمية حسب نظامها القضائي: القديم ديني، والحديث مدني.
التيارات الدينية تنشط في المجتمعات الفقيرة، ويكون البطل فيها هو القائد الموجه وهو نفسه المستفيد ماليا، وكلها مجموعة في شخص الزعيم الديني، وليس لأتباعه شيئ من الدنيا فهي "جنة الكافر"(وفي حديث عليّ مَن أَحَبَّنا أَهلَ البيتِ فَلْيُعِدَّ للفَقْرِ جِلْباباً( لسان العرب مادة(جلب). ويعلمنا القرآن إنّ الشيطان يعد الناس الفقر (....وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)) البقرة/ ولا أعرف لماذا يصير أمر أتباعهم إلى فقر محتم إن كانوا على الهدى وبيننا قرآن مبين (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا(16)) الجن/ وكان "علي بن أبي طالب" وبنوه يحصلون على العطاء الأوفر، يسبغه عليهم خلفاء زمانهم، غير ما يقطعونهم من مقاطعات كبيرة وخصبة، ويمكن تلمس فاحش ثرائهم بما روي عنهم من حكايات مع متسولين، ومع عبيدهم ومع إمائهم، وعديد أولادهم منهنّ. ولا يغيب عن فطنة القارئ إنني أتحدث عن المجتمع الشيعي. وأحب أن أوضح أنه يمكننا أن نتخذه نموذجا لجميع المجتمعات، فما يخلو جميعها من مثلث، وإن اختلفت أطوال أضلاعه، مكون من رجل دين- مال- مجتمع. أما التيارات المدنية فتتكون مادتها الأساسية من المتعلمين، وتنشط في المدن، وجميعهم يظن في نفسه أنه بطل، وهدفهم فرض قوانين (الحيازة والتملك) والسلوك الشخصي الغربية على مواطنيهم، بما في ذلك الأحزاب الشيوعية، فقد سقطت النظرية الاشتراكية من أذهانهم، وإن ظلت حاضرة في كراريسهم الحزبية. والمستفيد من (نضالهم!!) أصحاب رؤوس المال الضخمة، وأنتن أولئك رجال دين. أريد أن أقول إن الخلاف بين التيارات الدينية والمدنية ينحصر في المدى الذي يجب أو لا يجب أن تبلغه أفعالنا كسلوك أخلاقي -اجتماعي. ولا خلاف عندهم، وفيهم الاشتراكيون، في شرعية القوانين المنبثقة من حق الإنسان (مجتمع كامل أو أفراد) في استملاك أصيل لما تبلغه قدرته المالية أو السياسية من أرض، ومنشآت، ومنتوج.
***
ربما كان باعث كتابة هذه الكلمات هو تنظيم الاحتجاجات ضد الحكومة بين التيارات المدنية التي يشكل عصبها الرئيس الحزب الشيوعي العراقي، مع منظمات مجتمع مدني، وناشطين مستقلين أغلبهم مثقف، كتاب وفنانون وأساتذة جامعات؛ وبين التيار الصدري، أكبر التيارات الدينية في العراق، وأكثرها أصالة وانتشارا بين جمهور الشيعة. بين حلم إقامة دولة على غرار النموذج الغربي المعاصر، وهو نموذج ذقنا فشله في صيغته الملكية الديمقراطية، وفي صيغته الجمهورية المستبدة، وها نحن نشهد فشله في صيغته الجمهورية الديمقراطية، وحلم آخر يريد إقامتها كما هي في زمن عليّ بن أبي طالب، الإمام المعصوم من الخطأ، المسدد من السماء (كما يرى بعين عقيدته) الذي كان حاكما على مساحة عظيمة من الأرض لا يشكل العراق إلّا جزءا صغيرا منها، ويتبعه أعظم جيش في عصره، وأحد أعظم الجيوش انتصارات في تاريخ العسكرية العالمية، الذي كان حاكما سنة 37هجرية، أي بدء بناء دولة المدينة المنورة، مدينة الرسول الكريم ص، ونحن الآن في سنة 1437هجرية ! والتي بإمكان أي مطلع، وبلا تردد، أنّ يعدّ إدارته للبلد أسوء الإدارات نتائج عبر تاريخ الممالك، فقد تملصت أكثر الولايات من يده، واستباح أعداؤه رعيته قتلا وتشريدا، وجاع شعبه جدا، وهو القائل: «هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الأطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ» ولا أعرف لم لا يطعم الناس وخراج بيت ماله يجبى من أخصب البلدان أرضا. وليلتفت أتباع التيار إلى حاضرنا، أليس حكامنا هم شيعة عليّ قولا وفعلا، أما جاع شعبهم ومازال العراق أغنى البلدان، او لم يلغ عدوهم في دماء رعيتهم قتلا وتشريدا، أم تراهم خالفوا إمامهم وحافظوا على أرض بلادهم من أن تسقط أجزاء كبيرة منها في يد أعدائهم؟
***
(وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)) يس
"أقصى المدينة" أبعد بيوتها عن مركزها، وهامش له. والمركز هو البؤرة المكانية لتجمع السلطات الثلاث: الإدارية، المالية، الدينية. فالمسافة المكانية بين أقصى بيوت المدينة ومركزها مسافة اجتماعية، أصلا. "رجل يسعى" بشر مفرد، مذكر، يمشي (على قدميه) مسرعا ليصل إلى مكان يريده. وهدفه حسب الآية الكريمة مركز المدينة حيث مجمع النخبة. مجيء الرجل مسرعا بدون وسيلة ركوب مع حاجته إليها، لبعد المسافة التي قطعها دليل فقره. ويدل أيضا على أن مجيئه كان من بيته، وأنه لم يكن مارا في أقصى المدينة حيث يقيم الفقراء. الدليل الثالث على فقر الرجل نجده في سبب حضه قومه الأول على اتباع المرسلين، الوارد في الآية التالية للاية موضوع البحث من نفس السورة:
(اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)) يس
فالأجر هو مبلغ معين يحصل عليه الأجير من شخص ما، استعمله لإنجاز فعل، بذل فيه جهدا عضليا، واستغرق منه وقتا لإتمامه، وهو أسلوب بكسب المال لا يتطابق مع الطريقة التي يجني بها الأثرياء من رجال دين وذوي أملاك أموالهم. بقي لنا أن نعرف كيف علم إنّهم "مهتدون"! وهذا رهن بالإطلاع على فحوى رسالة الله التي يحملون إلى البشرية جمعاء، وفي كل العصور وهي إن الأرض وما عليها ملك له سبحانه (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴿-;-٨-;-٣-;-﴾-;-) سورة يس وما له مالك لا يتصرف به من غير إذنه، ولما كنّا محجوبين عنه بستار الطمأنينة* أرسل رسله الأنبياء لإبلاغنا بأنه سبحانه لم يتخل عن ملكه وإن أباحها للقادرين على استعمارها، فمن لا يزرع لا يملك، ومن تكون أقصى همته زرع عشرة دوانم لا يحق له امتلاك أكثر، فالزرع لزارعه، وإن توقف عن فلحها خرجت من يده لمن يباشرها، ليس له بيعها ولا استئجارها. ومن يملك محلا للسكنى لا يحقّ له امتلاك آخر. فليس من مالك لدار غير ساكنيه. بقول فصيح: "لا استثمار للمال في شرع المرسلين" فغير الأرض التي لا ينبغي لفعل أن يتم بدونها هناك الملكية المشتركة للمال من قبل أفراد المجتمع كافة لنقرأ قوله تعالى (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّـهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا ﴿-;-٥-;-﴾-;- ) النساء.
شركة المال بين أفراد المجتمع حقيقة لا يمكن دحضها حتى من قبل غير المتدينين، فالمنتوجات الهائلة التي ضاقت بها المخازن العملاقة، أو تحولت إلى أرصدة كبيرة في البنوك والتي عمل كثير من الناس لأجل إنتاجها ونقلها وخزنها وحفظها وتسويقها وحمايتها..إلخ إن كان من حقّ شخص واحد أن يتصرف بها كيف يشاء كما هي القوانين النافذة الآن وإلى ما قبل قارون فهي ليست ملكا له وحده واقعا. وما يعاني منه فقراء العالم من حرمان طال مقومات حياتهم الأساسية لا ينفع فاحشي الثراء بشيء طيلة حياتهم فهو يفوق احتياجاتهم كثيرا. وكذلك الأرض فإن لم تكن لله فما من شك بسابق وجودها على بني الإنسان، وفيها كل ما لا يمكن أن تقوم بدونه حياة. سورة يس المباركة برأيي المتواضع هي ردود محكمة على غير المتدينين من فاحشي الثراء وإن كان فيهم رجال دين (وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ﴿-;-٣-;-٣-;-﴾-;- وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ﴿-;-٣-;-٤-;-﴾-;- لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ﴿-;-٣-;-٥-;-﴾-;- ) يس/ نعلم إن الإنسان عاش على الأرض قبل أن يتعلم الزراعة وقتا أطول مما عاش بعدها، ولسنا متأكدين من سعادته مع افتقاره للرفاهية التي نحياها اليوم، لكننا واثقون من بؤسنا.ماذا قدمت الرفاهية لنا؟ أطعمة مخلوطة ببعض، ملابس فاخرة، قصور فخمة، ومركبات سريعة؟ هل تمتعت كل شعوب الأرض بها؟ وهل تمتع بها جميع مواطني الشعوب المتطورة، وهل خلت مجتمعاتهم من قارونيين لا يفتنون الناس بزينتهم؟ ولماذا الأسلحة الأشدّ فتكا تنتجها الحضارات الأكثر تطورا، والأرقى مدنية؟ ولماذا باقي الشعوب، السوداء منها خاصة، لا تجد ما تأكل، ولا تصنع الأسلحة؟

لقد كان مجيء الرجل في السورة المباركة من أقصى المدينة إلى مركزها نقلة اجتماعية لا مكانية. قال لهم، لنخبة المدينة، "منذ الآن، لست أجير أحدكم، وليس لكم أن تتخذوا أجراء أيضا" وصار غنيا مثلهم. وتوسع المركز حتى شمل أقاصي المدينة كلها.
والآن هل يمكننا أن نقول مثل هذا الكلام عن المعتصمين على أبواب المنطقة الخضراء، وقد قدموا من أقصى بغداد حيث الضواحي الفقيرة؟ الذين يريدون أنظمة لا تجعل حدّا لنموّ رأس المال فيكون فقرهم (هم) شرعيا، وعليهم أن يقبلوه؟ هو خروج أجراء بطلب من أحد متخذي الأجراء يهتفون بأعلى أصواتهم (نعال السيد يسوة الدولة وما بيها) أي تحت نعليك سيدنا نحن وعيالنا وأموالنا.. أجسامنا وأعراضنا وقوت أطفالنا. وهذه صرخات المرعوبين الذين يحاولون إخفاء جبنهم بهياج التأييد. ما كان للسادة أن يكونوا هم إن لم يكن العبيد عبيدا، وذلك لانشغالهم بما تقوم حياتهم به، وعادة ما يكون دون الكفاف ) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ ﴿-;-٨-;-﴾-;-) يس – عندما يكون الطعام أقل من حاجتنا له سيكون هو الحياة. سوف لا نرفع أبصارنا عنه. نتبع حركته. نكون حيث يكون، وهو بيد ثريّ يقودنا كما يقود أحدنا قطيع خراف بحزمة حشيش صغيرة. ولن نحاول أن ننتزع أكثر مما يعطوننا لأن أجراء مثلنا يحملون أسلحة مصوبة نحو ظهورنا، لكننا لا نرفع أبصارنا، نعرف فقط إن حياتنا بيد ثريّ، تحميه أسلحة مسددة إلى ظهورنا، يحملها أجراء مثلنا، هذا معنى الآية التالية لسابقتها: (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴿-;-٩-;-﴾-;-) يس - بين أيدينا سدّ حزمة الحشيش ومن ورائنا سدّ الرصاصة التي لن يتوانى عن إطلاقها صوب أحدنا أجير مثلنا.
***
لمّا كانت الأرض لله سبحانه، والمال للناس جميعهم، فإن ثمر جهد أيّ منا، ومهما بلغ من أصالة منتج عمله، لغيره حقّ فيه مشترك، فالأرض التي استأثر بها أباحها الله للناس كلهم، وهو منهم، لنعيد قراءة:- ( لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ﴿-;-٣-;-٥-;-﴾-;-) يس - وكذا الحال مع المال (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ((24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25( المعارج – وهو ردّ إلهي ثابت على القائلين (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّـهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّـهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿-;-٤-;-٧-;-﴾-;- )
***
في سورة يس المباركة تبيان لسلسلة أفعال يجب الإتيان بها لتغيير نظام اجتماعيّ مرفوض دينيا. ليس من مجتمع دون نظام، وما من نظام دون قوة تفرضه. ولا شكّ إن تشكل ونمو مجتمع لا يتم دون حصول توافقات مفيدة بين أسر قليلة قبل أن تصبح سلوكا ملزما لشعب يشغل مساحة من الأرض فيها العديد من القرى والمدن. عندما يكون حديث عن توافقات اجتماعية بين عوائل قليلة على مساحة واسعة من الأرض ستضم لاحقا شعبا مكونا من قبائل عديدة فذلك يدلّ على مكتسبات كثيرة متحققة مقابل أضرار قليلة أو معدومة لتكافؤ فرص العمل بين الجميع. كما إن إلزام أفراد شعب بانتهاج أساليب حياتية محددة يدل على تضرر جزء غير قليل من أبناء المجتمع، وغياب مبدأ تكافؤ الفرص، وشيوع الاستئثار بخيرات البلد لقلة من الأفراد غير العاملين وحرمان القطاع الأكثر منها. إن التوافقات التي قامت بغياب المنافسة لعدم تعارض المصالح كانت وليدة حياة بسيطة في حاجاتها، وفي افكارها أيضا، ونقيض ذلك الحياة في مجتمع المدينة. وخلال هذه الفترة الطويلة من حياة الشعوب بقيت فكرة العدالة مشدودة لتلك التوافقات، وعندما نتحدث عن العدل فإننا نشير إلى سلوك اجتماعي صيغ وفق نظام أخلاقي وضعته تلك التوافقات البعيدة، والتي لم يعد القبول بها دون قوة ملزمة دليلا على إنها لم تعد قائمة، تحولت إلى صور لا يمكن تشخيصها دون الرجوع إلى نسبة عدد السكان على مساحة الأرض المشغولة وقت العمل بالتوافق من غير شرط القوة. وهكذا نصل إلى أن جميع الدساتير التي وضعها الإنسان متوخيا فيها الوصول بالسلوك الاجتماعي ليتطابق والمثل العليا المترسخة في أذهان مواطنيه لم تكن صادرة عن فهم عميق للعدل، بل مجرد توافقات تمت بظروف بيئية اختلفت احوالها لاحقا. ولكن من يعي هذه المتغيرات؟ هل هو الرجل المستفيد منها؟ أم المتضرر ولا شك أنه رجل تعلقت همته بالبحث عمّا يسكن جوعه؟ أم رجل يعمل عند الرجل الأول لقاء مبلغ من المال أكبر مما يمكن أن يجنيه الرجل الثاني؟ وما يحدث لهم يعرّف بنظام لغويّ مجّد ما سبق من أحداث بناء على ما استحسنه العقل الديني للمجتمع. وأظن أنه بلحظ ما سبق يمكننا أن نتوصل إلى حقيقة مفادها إن هذا العقل (الديني) واحد في جميع المجتمعات. دين واحد تدين به البشرية اليوم وأمس فاليهودية هي النصرانية وهي الإسلامية وهي الصابئية وهي المجوسية وهي نفسها الهندوسية وهي البوذية وكل الديانات الأخرى، كلها قاطبة دين واحد. كل المؤمنين متشابهون في عبوديتهم. وكل معبوديهم كليو القدرة، وفيها كلها رجال وقفوا حياتهم لقيادة المؤمنين نحو المسالك التي فيها رضى الآلهة، ولهم، أعني لآلهتهم، شرك في مال المؤمنين، وهو مال كثير جعلهم يملكون مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، وأن يساهموا في كثير من منتوجات عصرهم الصناعية. وإن لم نعش نر إن هذه الملكية سلبت الخالق أرضه، وحالت دون انتفاع عباده العاملين فيها من جني ثمار ما استعمروه منها، لذلك كانوا هم الأرباب الحقيقين وليس معبوداتهم (اتَّخَذوا أَحبارَهُم وَرُهبانَهُم أَربابًا مِن دونِ اللَّـهِ وَالمَسيحَ ابنَ مَريَمَ وَما أُمِروا إِلّا لِيَعبُدوا إِلـهًا واحِدًا لا إِلـهَ إِلّا هُوَ سُبحانَهُ عَمّا يُشرِكونَ ﴿-;-٣-;-١-;-﴾-;-يُريدونَ أَن يُطفِئوا نورَ اللَّـهِ بِأَفواهِهِم وَيَأبَى اللَّـهُ إِلّا أَن يُتِمَّ نورَهُ وَلَو كَرِهَ الكافِرونَ ﴿-;-٣-;-٢-;-﴾-;- هُوَ الَّذي أَرسَلَ رَسولَهُ بِالهُدى وَدينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكونَ ﴿-;-٣-;-٣-;-﴾-;- يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِنَّ كَثيرًا مِنَ الأَحبارِ وَالرُّهبانِ لَيَأكُلونَ أَموالَ النّاسِ بِالباطِلِ وَيَصُدّونَ عَن سَبيلِ اللَّـهِ وَالَّذينَ يَكنِزونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنفِقونَها في سَبيلِ اللَّـهِ فَبَشِّرهُم بِعَذابٍ أَليمٍ ﴿-;-٣-;-٤-;-﴾-;-) التوبة/ تفيدنا الآية المباركة(33) إن دينين يسودان العالم، دين متوار، ليس له أتباع، وهو دين الحق. ودين ظاهر، يتبعه جميع المتدينين في العالم، وهو دين ضلالة، دون أن يعلموا إنهم يعبدون زعماءهم الدينين الذين أمروا أتباعهم فاستجابوا لهم مع ما في ذلك من ذل الفقر، بسلبهم أموالهم، وذل الطاعة بتسخيرهم لما فيه مصالحهم. وامتنعوا عن سماع حكم الله بتمكينهم من أرضه فلا يفتقرون، وأن لا يتبعوا أثر رجال ليسوا بأنبياء فيصدونهم عن سبيله.
المهمة الرئيسية التي حمل أعباءها النبيون هي إظهار الدين، لذلك كان إبراهيم أمة و"الأمة" مجموعة بشرية لها نظام فكري يميزها عن غيرها من المجموعات. وإبراهيم كان أمة وحده بإظهاره دين الحق ليدحض به دين الكفر الذي يتبعه جميع الناس – الأمة الأخرى – ويلزمه ذلك أن يكون حنيفا، أي غير تابع لرجل يدعي العلم في الدين، وتفسير ذلك فقهيا حسب المذهب الأصولي الإثني عشري إن إبراهيم عليه السلام لم يكن مقلدا لأيّ من مراجع التقليد التي تجمع فتاواهم على أن عمل المكلف من غير تقليد باطل(لمن يحب التوسع في البحث أنصح بالإطلاع على مقالي"حنيف مسلم") الأمر الذي قاده إلى عدم الإشراك بالله بعدم اتخاذه علماء دين زمانه آلهة من دون الله (إِنَّ إِبراهيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّـهِ حَنيفًا وَلَم يَكُ مِنَ المُشرِكينَ﴿-;-١-;-٢-;-٠-;-﴾-;-) النحل/ ولعل الآية الشريفة تدلنا على حقيقة تواري دين الله واختفائه لفترات زمنية قد تمتدّ لقرون طويلة من الزمن، وهي ذات الحقيقة التي أكدها المزمور53 {1 لامام المغنين على العود.قصيدة لداود قال الجاهل في قلبه ليس اله.فسدوا ورجسوا رجاسة.ليس من يعمل صلاحا. 2 الله من السماء اشرف على بني البشر لينظر هل من فاهم طالب الله. 3 كلهم قد ارتدوا معا فسدوا.ليس من يعمل صلاحا ليس ولا واحد 4 الم يعلم فاعلو الاثم الذين ياكلون شعبي كما ياكلون الخبز والله لم يدعوا. 5 هناك خافوا خوفا ولم يكن خوف لان الله قد بدد عظام محاصرك.اخزيتهم لان الله قد رفضهم. 6ليت من صهيون خلاص اسرائيل.عند رد الله سبي شعبه يهتف يعقوب ويفرح اسرائيل}
ربما يقودنا العدد 6 من هذا الإصحاح إلى مطلب آخر غير الذي أشرنا إليه، وإن كان مكملا له، فنبوءة داود ع باستحالة أن يأتي خلاص إسرائيل من صهيون حيث تقودنا قراءة جملة {ليت من صهيون خلاص إسرائيل} إلى قراءة متممة مفادها "ليس من صهيون مخلّص إسرائيل" ونعلم أنّ نبيّا لم يبعث على فترة من الرسل بعد داود غير خاتمهم محمد ص، ونعلم أيضا أنّ بني إسرائيل لم يؤمنوا به، ولم يرد الله سبيهم في حياته الشريفة، بل أنزل عليه قرآنا كريما يخبره بتولي أمته عن دينه في حياته، ويبشره باستبدالهم بقوم غيرهم يقيمون الدين على دعائمه الاقتصادية والاجتماعية الراسخة في أرض العدل الحقيقي والفريد فلم يدع إليه أحد غير الرسل الكرام (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ﴿-;-٣-;-٦-;-﴾-;- إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴿-;-٣-;-٧-;-﴾-;- هَا أَنتُمْ هَـؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّـهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ﴿-;-٣-;-٨-;-﴾-;-) محمد/ ومعنى كلمة "فَيُحْفِكُمْ" أي يأخذ من أموالكم ما زاد على كفافكم. وإن كان النبيون غير مخولين باجبار الناس على التعبد بشريعة الله (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴿-;-٢-;-١-;-٦-;-﴾-;-) وهو المعنى الذي ذهب إليه الرسل في قوله تعالى (قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ﴿-;-١-;-٦-;-﴾-;- وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿-;-١-;-٧-;-﴾-;-) يس/ فإن بقية الناس مخولين بإجبار بعضهم بعضا على اتباع الرسل، وهو المبدأ الذي مات عليه الرجل الذي جاء من أقصى المدينة، وأدخل الجنة ثوابا على موقفه الكريم هذا، وربما دلت آية النور العظيمة، وما أعقبها من آيات كريمات على إن نور الله قد يشعّ كضوء من مصباح من رجال يجنون أرزاقهم من أشغال بسيطة، فهم ليسوا أنبياء، ولا فقهاء(اللَّـهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّـهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿-;-٣-;-٥-;-﴾-;- فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّـهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴿-;-٣-;-٦-;-﴾-;- رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴿-;-٣-;-٧-;-﴾-;- لِيَجْزِيَهُمُ اللَّـهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّـهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿-;-٣-;-٨-;-﴾-;- ) النور/ وقد يكون إكرام الله لهم بما جاءت به آية (38) في الحياة الآخرة، ولكنه واقع فعلا في الحياة الدنيا، بدلالة الإذن برفع بيوتهم لأنه لا يتم إلّا في حياتهم، فتعظيمها من قبل المؤمنين يعني طاعتهم لساكنيها، وهذه أمور لابد منها لتوحيد المؤمنين، وقيادتهم لمواجهة أتباع دين الضلالة والكفر، وهو أمر مماثل لما فعله بنو إسرائيل حين أمرهم الله سبحانه أن يتخذوا من بيوت موسى وهارون قبلة لهم (وَأَوحَينا إِلى موسى وَأَخيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَومِكُما بِمِصرَ بُيوتًا وَاجعَلوا بُيوتَكُم قِبلَةً وَأَقيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ المُؤمِنينَ﴿-;-٨-;-٧-;-﴾-;- )يونس/ هناك شبه في الظروف الاجتماعية اليوم مع ما أحاط بموسى ع عندما كان الإسرائيليون يرزحون تحت نظام محكم، لا يكفّ عن تعذيبهم، وهم كانوا مشتتين. بجعلهم بيوت موسى وهارون قبلة التزموا طاعتهما، وفي ذلك جمع لقواهم المشتتة، وصار نظام الدولة المهيمن عليه من الشعب القبطي يزاحم من نظام آخر لشعب آخر، له دين مختلف، ويؤمن بنظرية في العدل الاجتماعي لا تدعوا إلى المساواة بين الشعبين حسب، وإنما إلى منع الطبقة المترفة القبطية من أن تمتع بامتيازات لا يمتع بها كامل الشعب القبطي...
هل معنيّ أنا بآية النور؟ وهل بيتي من البيوت التي أذن الله أن ترفع؟ وأن تجعله جميع الأمم قبلة؟ أقول لمن يعي : قد خبرت دينك، وأخبرتك ما يريد ديني دين الحق، وبيننا قول من لدن حكيم خبير (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّـهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ﴿-;-١-;-٧-;-﴾-;- الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَـئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّـهُ وَأُولَـئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿-;-١-;-٨-;-﴾-;-) الزمر/
بغداد
3/5/2016








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشيف عمر.. طريقة أشهى ا?كلات يوم الجمعة من كبسة ومندي وبريا


.. المغرب.. تطبيق -المعقول- للزواج يثير جدلا واسعا




.. حزب الله ينفي تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي بالقضاء على نصف


.. بودكاست بداية الحكاية: قصة التوقيت الصيفي وحب الحشرات




.. وزارة الدفاع الأميركية تعلن بدء تشييد رصيف بحري قبالة قطاع غ