الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مهاجر إلي فناء

طارق الخولي

2016 / 5 / 5
الادب والفن


تعانقا..
ذات صباح، إرتدي رداء الضباب.. بعدما إنقشع الليل، وأبحرت جفونهم في الكري في طمأنينة ورسوخ.. لم يلفحهم وهج الفراق بعد، ولم يتجرعوا كؤوس البعاد، وطول المسافات، وغربة الوطن..
لم تصيح الديكة في تلك الليلة.. قتلوا الديكة وذبحوا الطيور.. دقات الساعات باتت صرخات تشق البيوت البالية المهدمة..
والطفل المتواري بين ذراعي أبيه، بعدما غفا بين ثلاث جدران.. وحطام، وسقف مائل إقترب من الارض صنع منحدراً.. ها هي حطام المرآة هناك، وبلورها المتبعثر كبعثرة فؤادهم.. وأكثر.. وأكثر..

لا يعلم جيداً، كم مرة نظر في تلك المرآة، وحدق في وجهه جيداً.. منذ أول رصاصة أم أول قنبلة الان فقط تذكر.. قبل أن يقطفوا ثمرة فؤاده بقليل. لم يعلم سلامة طويته إلا ذلك الحين.. هتف في داخله هاتف ينادي فيدق ضلوعه ويطحنه طحناً.. سوف يقتل إبنك الان. لم يصدق، لم يتخيل أن طفله سيذهب ولم يعد إلا مخضباً في دمائه.. تلك المرآة..آه آه..كم إحتوت وجه حبيبتي، تلك المرآة هي مهبط الذكريات.. ومخزن الماضي..
كم شهدت علي أعذب الكلمات.. والقبلات.. والهمسات.. لم تتمرد ذات يوم، ولا بعد اليوم.. فقد أمست حطام..ولكن، ليس كبقايا حطامهم.. فحطامهم من طراز آخر..
إنقشع الظلام، وإنقشع معه دوي الرصاص. وسكون ثقيل كأن المكان خلا إلا منهم، لملموا أشياؤهم الضئيلة.. ولفوا تلك الملاءة البيضاء، والوسادة كانت صخرة من حطام جدار.. والجدار كان صاحب المرآة.. وبعض اللباس الناجي معهم.. وطفلهم.
دارت عيناهما في أرجاء المنزل البارك علي الارض بروك الجمل.. وبعض الحوائط لا زالت سليمة. وماذا يجدي وماذا ينفع؟
والصغير القابض علي كف أمه، لم يفهم بعد.. ينظر في إرتياب.. داخله مضبب كضباب صباحهم هذا.

إختلط الضباب برائحة البارود ومخلفات القذائف المحترقة، فخلفت تلك الرائحة العطنة. وهناك.. إختلط الدخان المتصاعد من بقايا مساكن كانت بالامس رياض، سامقة تقف في ثبوت وكبرياء. باتت براكين.. وخراب. هو يعلم تلك الشوارع التي تربي وترعرع فيها، كم صاحبته كثيراً، بمنازلها، وقهواتها وحتي ترابها وحصاها. لطالما كانت تلك البيوت السامقة حديثه كل آنٍ مع روحه وفؤاده، شهدت عليه مذ أول شهقة لقلبه حينما نطق بإسم حبيبته. كانت نافذتها هي المرفأ، وخروجها منها هي العودة من الموت. لطالما ظل يحدق بعينان ملأتهما اللهفة والحنين. هكذا عشق النوافذ، وتقاسيم الشوارع، ومضايق الحواري المترامية في شبابها الضائع المنطوي علي نفسه.
غدت الشوارع سدود وإنخلعت البيوت من مكانها وهوت . كل شئ بات من بقايا ذكري كانت بالامس القريب كيان قائم قوام الجبل . قوام وردة تطلق عبقاً. أين الجبل وأين العبق؟
رحلوا..
رحلوا في هدوء..
بغير دموع..
فالالم فيهم أكبر من الدموع..
وعندما يتعاظم الالم تكف العين عن الدموع..
هو الان يشعر بشئ اعظم وأكبر من الالم نفسه..
أكبر من الكلام.. أكبر من الصياح والعويل.. هو الآن، كشجرة شعواء..
اضمحل الضباب في ضروع. ومشوا ثلاثتهم قاصدين المدينة. فوق مدق بملابس تخبر عن فقر مدقع، وأحذية لا تشبه الواحدة منهم ثانيتها. ُحُتّم الامر علي رغم منهم. لا سيارات، لا وسائل نقل، غير وسيلة القدم. حينها تذكر المثل العربي القديم، الذي سمعه أول مرة من صديقه المنمق، ثم ضحك الي أن استلقي علي ظهره من القهقهة . لم ينفعك أحد غير بن بقرتك. الآن لم تنفعك إلا رجلك.
سلكوا طريقاً مختصراً يخترق الصحراء . تحسباً للقاء ناهبوا الوطن من أصحابه، فكل شئ بلي وصار الحطام رداؤه. لا أوراق، ولا بيانات، ولا مستند يثبت الهوية. وأي هوية هي التي يثبتها ورق، ويعبث بها توقيع. نحن العرب نمشي دائماً بالورق، نعيش بالورق، ونموت بالورق، وما الحياة في بلاد النعاج إلا ورق في ورق علي ورق. ألا لعنكم الجبار..
ساروا في ترقب إمتزج بخوف، ليس خوفاً علي أنفسهم، إنما خوف علي طفلهم الذي أبقاه الله لهم. ساروا يتلفتوا هنا وهناك. من خلفهم وعن شمائلهم وبأيمانهم. ساروا بأرجل موخوذة من آثار الاحذية القديمة الغير ملائمة لقياس أرجلهم.. والرجل بدأ يعرج عرجة خفيفة. والطفل بدا السأم والضيق علي قسمات وجهه. تلك البراءة لم تتعلم بعد كيف تنافق.. لم تتعلم بعد صيغة المكايدة وحب الذات. لا ريب إنه في بلاد العرب سيعلم ويتعلم..
سيعلم أن دمه أرخص من رصاصة..
سيعلم أن حياته ادني من ذبابة..
سيعلم كيف يكون اسيراً في دياره..
ذليلاً علي ترابه..
سيعلموه في مدارسهم كيف يكره الوطن.. وكلمة وطن.. وحب الوطن.. فليحيا الوطن..
نموت نموت ويحيا الوطن..بل نموت نحن وتحيوا انتم..
وبكم..
سيحيا الوطن روثاً..
سيغدوا بكم جيفة تعبث الديدان فيها..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل