الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فتنةُ طوزخورماتو.. لمحةٌ عن عراق ما بعد (داعش)

ليث العبدويس

2016 / 5 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


حين يُطالِعُ المُتأمل خارطة التوزيع الإداري لأقضية مُحافظة صلاح الدين، تلك المُحافظة التي تكاد تجتمع فيها أعقد التناقُضات العراقيّة، لا يسعه إلا الشعور بأنَّه أمام شكلٍ من الجُغرافيا القسريّة المُصطنعة، نوعٌ من التجميع الإجباري والاقتطاع المساحي يتموضع هُناك في تلك الرُقعة الممتدّة بين شمال بغداد وجنوب أربيل، وغرب ديالى وشرق الأنبار، ولئن كان تعدّد الجوار يُعدُّ بمثابة (إرهاق) استراتيجي في عالم العلاقات الدوليّة كنتاج حتمي لتبايُنات الوحدات السياسيّة المُتجاورة، فإنّه كذلك بالنسبة لصلاح الدين القابعة على شفير التوتّرات العراقيّة البينيّة المُتنوّعة، وهي توتُّراتُ كادتْ-في يومٍ ما- أن تُزيل المُحافظة عن وجه البسيطة يوم طرح الجميع-الكُرد والبيت الشيعي-فكرة (شطب) صلاح الدين كمحافظة عبر تحويل اقضيتها الكُبرى (سامراء، الطوز، بلد) إلى مُحافظات على أُسس قوميّة وطائفيّة، مُتذرّعين بأن المُحافظة نفسها كانت قد توسّعت خارج حُدودها القديمة في عهد الرئيس الأسبق (صدام حسين) لمجرّد كونه مُنحدراً منها.
من أحد هذه الأقضية المُلتبسة (طوزخورماتو) أطلّت الفتنة الأخيرة برأسها، صاخبةً، داميةً، حُبلى بالمُفاجئات والمواقف الصاعِقة، فـ(الطوز) -تلك المدينة المُقتطعة من كركوك المُقتطعة بدورها من (كُردستان) او هكذا يُروّج الكُرد الفيدراليّون ويرفُض العرب الاتحاديّون-تغلي اليوم على نار المواجهات المُسلّحة العنيفة بين فُرقاء اليوم/حُلفاء الأمس: الحشد الشعبي-بشقّيه الشيعيين المحلي/التُركماني والعربي/ الوافد- من جانب، والبشمركة الكُرديّة وأنصارهم من مُقاتلي الدفاع الذاتي من جانب آخر.
في الطوز تتصادم المشاريع المؤجّلة، مشاريع نفوذٍ ومجالات حيويّة تأخر (التمدّد) نحوها لأن ثمّة عدوٍ شرس كان يُهدّد الجميع بتمدّده السريع، وهو عدوٌّ يحظى بكُلِ صفات الكراهيّة والمَقت من جانب خُصوم اليوم (الشيعة/الكُرد)، لا لوحشيته المُفرطة او انفلاته الأعمى من أي قيد وخُلقٍ فحسب، بل لأنه قبل ذلك كُله يُمثّل (المنظومة القيميّة) النقيض للاثنين، فداعش ابتداءً هي الوجه المُسلّح للعرب السُنّة-شاءوا أم أبوا-، وهي بهذا التوصيف تُجسد العدوّ الأول للشيعة-من الجانب المذهبي- وللكُرد-من جهة القوميّة-، بتجاهل حقيقة النسب العالية من المُقاتلين الأجانب والوافدين في صفوف التنظيم، حيث لا يُمكن إنكار غلبة العنصر العربي على كوادرها القياديّة والمُقاتِلة، بل يُمكن القول أن الحساسيّة الكُرديّة تجاه داعش هي أشدّ وضوحاً بالنظر لطبيعة المشروع الديني الذي يُبشّر به التنظيم وتقاطُعه مع حُلُم الدولة الكُرديّة المدنيّة/الديمقراطيّة/العلمانيّة، وداعش ثانياً لم تدّخر وسعاً في سبيل إثبات وجهة النظر تلك، ثمّة خيوطٍ من الدماء الكثيفة المُتخثّرة تُعزّز-على نحو عميق-هكذا نظرةٍ عدوانيّة، من (سبايكر) حيث أُبيد المُتطوّعون الشيعة بالمئات وحتّى جبل (سنجار/شنكال) يوم شرَّد هؤلاء البرابرة شعب الأيزيديّين المعزول وفعلوا بهم الأفاعيل المُنكرة، فلا شكَّ أن خطاب داعش المُغالي في التشنّج والتعصُّب والكراهيّة قد وحّد يوماً جبهةً مُتناقِضة، احتفظت بشكل مُتأرجح بشيءٍ من التماسُك مُنذ أيام النضال ضد الدكتاتوريّة وحتّى وضِعتْ على محك الاختبار في (الطوز)، وإزاء هكذا مستوى عالٍ من التهديد الوجودي الحاسم، ركن الأطراف بإجماعٍ ومضض ملفاتهم السريّة وتصبّروا بالصمت والكتمان ريثما ينجلي غُبار المعركة الأشد، وما أن أخذ الضَعف يَدُبّ في الخصم العنيد حتّى طفتْ على السطح سريعاً مُتناقضاتٌ شتّى.
والطوز التي تبدو ككفٍ ناتئ مُفتعل بين ديالى وكركوك-تماماً كما تبدو (الشرقاط) كرأس في غير مكانه بين كركوك والموصل- ستكون-بلا شك-لمحةً عن عراق ما بعد داعش، عراق التحرير الذي بدأ بتحطيم هيبة المؤسسة العسكريّة الرسميّة (الجيش العراقي) ذات المرجعيّة السياقيّة والتقاليد الواضحة، لصالح تغوّل مؤسّسة بديلة-او هكذا أُريد لها أو أرادتْ أن تكون- بمرجعيّة دينيّة ذات بُعدٍ طائفي غائم وبسياقات استثنائيّة مهلهلة، ومن المؤسف القول أن عراق ما بعد داعش قد يكون أشد خطراً وأكثر ميلاً للتفكُّك والتبعثُر مما قبله، والشواهد على ذلك-قبل فتنة الطوز-كثيرة، فعشرات المُدن ومئات القُرى التي استُردّتْ من براثن (الذئب) -على حدّ وصف أوباما- لاتزال خاويةً على عُروشها بشكلٍ يُعزّز فرضيّة التغيير الديموغرافي، المؤسّسة البديلة جاءتْ لتبقى-هكذا يقول لسان الحال-والغريب أن ناحيةً صغيرةً تتبع إدارياً لقضاء الطوز هي إحدى تلك الانتكاسات الملغومة، (آمرلي)، هُناك لم تُحرّك القوّات الكُرديّة ساكِناً إزاء تعنُّت ميليشيات الحشد وإصرارها على محو الهويّة المُتنوّعة العريقة للناحية، وعلى وجه الخُصوص حزامها الريفي الذي جرتْ تسويته بالأرض عمليّاً، ومُنع سُكّانه من العودة حتى هذه اللحظة رُغم أنَّ (آمرلي) كانت من اوائل المناطق التي استُرجِعتْ من (داعش).
قوميّاً، لا زال التُركُمان وجلين من مشروع (تكريد) كركوك وأحزمتها السُكّانيّة، لكنّهم مُنقسمون بين أنصار المشروع القومي العابر للطائفيّة والمُتأثرين باللُغة الدينيّة الديماغوجيّة السائدة في العراق اليوم، أمّا الكُردُ فيرون في (الطوز) خطّاً مُتقدّماً للدفاع عن (كُردستان الكُبرى)، أمّا جغرافيّاً، فهناك خطر انفلات المعارك واتساعها صوب مناطق تُماثل (الطوز) في وضعها الحساس، وعلى وجه الخصوص بعض أقضية مُحافظة (ديالى) وتحديداً (السعديّة وخانقين وجلولاء) حيث يتشاطر الفرقاء انفسهم (الكُرد/الحشد) السيطرة على هذه المُدن المُختلطة قوميّاً ومذهبيّا، ولا شكّ أنَّ الاستقواء بالمُقاتلين الوافدين من خارج القضاء واردٌ طالما استمرّتْ المعارك وخِطابات الحسم الرنّانة.
لقد كشفتْ معارك (طوزخورماتو) أنْ شؤم المُعادلة العكسيّة يتحكّم فعلاً في العلاقة بين حُلفاء الجبهة المُضادة لتنظيم الدولة (داعش)، فالخلافات والمصالح المُتقاطعة والجفاء السري والتنازُع آخذة في التصاعُد كُلما نجح هؤلاء الحُلفاء في إلحاق المزيد من الهزائم بخصمهم الواضح، ليتحول الفعل العُنفي إلى خُصومٍ غير واضحين لكنهم قطعاً شُركاء في السياسة والسلاح، وهو ما ينبئ بالمزيد من الاحتراب والتصدُّع والأزمات في عراق ما بعد داعش.

ليث العبدويس [email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موريتانيا: -عرقلة- تزكيات عشرة مرشحين للرئاسيات؟ • فرانس 24


.. الجزائر: العثور على شخص محتجز لدى جاره بعد 26 سنة من اختفائه




.. تونس: أنصار الرئيس قيس سعيّد يقررون التظاهر الأحد رفضا للتدخ


.. تونس: القضاء يأمر بإيداع معلق سياسي ومقدم تلفزيوني السجن




.. تونس: انتقادات أمريكية لموجة التوقيفات الأخيرة