الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تعويذات الصحراء : التسامي الموسيقي الزنجي

محمد محسن عامر

2016 / 5 / 6
الادب والفن


فكرة العبور السماوي نحو العالم الأخروي مع فكرة الموت هما معطيان مؤسسان للقلق الإنساني تجاه الهزيمة الحتمية في مواجهة الفناء.فما تقاليد التحنيط المصري و النظام التضحوي في الديانات الإغريقية و أساطير باب القديمة إلاّ أحد تمظهرات هذا القلق. في ترحال الأفكار و الحكايات الأسطورية بين الشعوب و اصطباغها بعاداتها و لغتها ولدت فكرة الدين و تلونت الأساطير و أنتجت في تمازجها أشكالا جديدا من الوعي الديني التي من أبرز تجلياتها فكرة التصوف الزنجي.
في أقصى صحراء الجنوب التونسي أين يقيم السراب الحد الفاصل بين الواقع و الهذيان و بين صفار رمل الصحراء و بياض لمح شط الجريد , يقبع مزار أحد الزعماء الروحيين الكبار للزنوج هو "مرزوق العجمي" الذي تحوم حول ضريحه قداسة غامضة و تقال له كل عام طقوس الرقص المقدس في جو كرنفالي شيق في طبيعتها السحرية إعادة محاكاة لواقعة أسطورية و في عمقها الثقافي تتويج للتزاوج التاريخي الثقافي بين العناصر الثقافية الإفريقية و التراث الديني الإسلامي .
تقول الأسطورة: أن مرزوق العجمي كان عبدا لأبي علي السني أحد معلمي الصوفية الكبار في الجريد (و كلاهما شخصيتان تاريخيتان) , طلب منه معلمه و شيخه إعداد الطعام في يوم ماطر فلم يجد العبد حطبا فأوقد قدميه ووضع عليهما التنور.عندما اكتشف شيخ الطريقة هذه الكرامة أخذه من قميصه و رماه قائلا "شيخ ما يخدم شيخ" فوقع مرزوق العجمي على بعد كيلومترات في قلب الصحراء أين بنى زاويته و أحاط به المريدون من كل مكان إلى أن مات و أصبح ضريحه مزارا لكل الزنوج.
في الخميس الأول من كل فصل صيف عندما تعجز الأقدام على وطئ الأرض من الحرارة تعاد هذه الواقعة من جديد و تبعث شخصياتها و تحيى الحكاية من جديد. ينطلق عازفو الصطمبالي في مشية موسيقية تتبع نفس الطريق الذي أخبرتها بها المروية الأسطورية بطريقة تدفع الأحداث نحو الإنبعاث . من ضريح المعلم الأول أبا علي السني "الأبيض" في قلب الواحة حتى الوصول هرولة و عزفا إلى مقام الولي الزنجي في قلب الصحراء على ضفة شط الجريد. حتى الكرنفال الأخير الذي يتخلله الرقص و النواح و ذبح التيس و تلطيخ المريدين لأنفسهم بدمه وشربه .
موسيقى الصطمبالي الزنجية ذات الطابع الصوفي كان تاريخيا حالة توحد و تمازج ثقافي بين العادات و التقاليد الدينية الوثنية الإفريقية و التعاليم الإسلامية الصوفية . فمع أن العبيد اعتنقوا ديانة أسيادهم إلاّ أنهم حافظوا على هويتهم الثقافية و مخزونهم الروحي كاملا بل أنهم أسلموه أفرقوا إسلامهم و في كلتا الحالتين تم صب الهوية على المعتقد الجديد فخرج الرقص الإفريقي ذو المنشأ الوثني و المفردات الإفريقية في منطوق الأغاني جزأ من وصلة سحرية دينية مسلمة . إنه حقّا لتمازج شيق بين هويتين , بين تقاليد الرقص الديني و فكرة التسامي الصوفي الإسلامية .
موسيقى الصطمبالي على ما يبدو حافظت على ركائزها و الغاية منها مع انه غادرت منشأها في غياهب غابات إفريقيا و اسمها الديني الحقيقي . ففكرة التصوف تقوم على أن الحقيقة أكبر من الشريعة و الحق أكبر من أن يوصل له بالتعبد الطقوسي العادي , و الإيمان الظاهري لا يوصل للجوهر أبدا . بالتالي فالطريق إلى الحقيقة يحتاج الولوج إلى الجوهر , أي إلى الباطن بحثا عن الحلول . هكذا يكون الرقص الإفريقي بإيقاعاته و مفرداته و حكاياته التي يرويها وسيلة الوصول نحو "التخميرة" و التخميرة خروج عن الوعي إلى اللاوعي من المحسوس إلى التجلي الخالص في المطلق .
هذا النوع الموسيقي الذي كان من المفروض أن يكون محل جهد معرفي للباحثين حول تاريخ الشعوب و الكم الكبير من المعلومات التي قد تمنحها الدراسات التشريحية للمرويات الزنجية عن تاريخ ثقافة كاملة يطويها النسيان و الإهمال و تتراجع لتندثر و تندثر معها حكايات مشوقة عن تاريخ السود و ثقافتهم في تونس . إنها حقّا معضلة ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غير محظوظ لو شاهدت واحدا من هذه الأفلام #الصباح_مع_مها


.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف




.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس


.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في




.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب