الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحداثة الزمانية ، المبرد وابن قتيبة انموذجا

كريم الوائلي
كاتب وناقد ادبي وتربوي .

(Karim Alwaili)

2016 / 5 / 15
الادب والفن


قد يكون الماضي حزيناً و كئيباً ، و لكننا حين نستذكره او نستحضره نشذب او نحذف كثيراً من جوانبه المعتمة ، فنستمتع و نستلذ بذكرياته ، و نظل نستعيدها بين الحين و الآخر.
و قد يكون الماضي تجربة فردية ذاتية ، أو نكون جزءاً من تراث أدبي و حضاري ، و حين يتم استحضار الأخير نمارس معه الآلية نفسها من التشذيب و الحذف بحيث يغدو جميلاً و رائقاً ، الأمر الذي يدفعنا الى التحدث عن جوانبه الايجابية ، و نتغافل عن جوانبه السلبية المقيتة ، و نلوذ به احتماء من التعري أمام الآخر ، بسبب تقدمه و تخلفنا ، و بخاصة حين نجد انفسنا مبهورين امام منجزات الآخر المادية و المدنية ، و لذا نكرر عبارات لافتة تحاول تغطية العجز و التخلف الذي نعيشه ، فنخاطب الغرب المتقدم بان حضارتنا ( كانت ) تشع نوراً في زمن ظلامكم ، و اننا ( كنا ) اول من خلق ابجدية المعرفة و اول من سن القوانين و التشريعات.
و يتحول الماضي لدى بعض الناس الى كيان مقدس لا يجوز المساس به ، و ان اي محاولة للاقتراب منه للكشف عن جوانبه الايجابية و السلبية تعد محاولة مرفوضة ، و ان من يرتكبها لا بد من محاسبته بأشد المواقف عقوبة و ردعاً. و اكثر من هذا فان القراءة النقدية لهذا التراث تواجه برفض و هجوم قد يطيح بصاحبه وجوداً ذهنياً و معرفياً ، ان لم يصل ذلك الى تصفية جسدية. ان بعض هؤلاء الناس المقدسين للماضي لمجرد قدمه انما يعيشون في اجسادهم في زماننا ، اما عقولهم و تصوراتهم و ممارساتهم فانها مستقرة – هناك – في الماضي السحيق.
و ليست هذه الظاهرة وليدة ( هذا الزمان ) ، و لسنا نحن الوحيدين المتخلفين حضارياً الذين نعيشها ، بل تكاد تكون سمة تلازم بعض المثقفين التقليديين في عصور سابقة. و نجد ذلك جلياً في تراثنا الأدبي و النقدي ، حيث يتعصب لغويون و نحويون الى القديم و بخاصة الى التراث الجاهلي بوصفه المثال الذي نقيس على ضوئه اي ابداع و لأنه النص الذي نشتق منه أصول و قواعدلغتنا و نحوها و صرفها و بنائها اللغوي.
و اذا كان العلم في بعض جوانبه يقترن في تلك الازمان برواية الشعر فان هؤلاء اللغويين يرفضون رواية غير القديم ، و يقتصرون في الاستشهاد بالشعر الجاهلي فحسب ، و من ثم تصبح القيمة الفنية للنصوص عالية كلما تقدمنا نحو الوراء ، و نقل هذه القيمة كلما تراجعنا نحو الأمام. مؤثراً استخدام التقدم بالعودة للقديم و استخدام التراجع في السير نحو الأمام. لأن التاريخ - هنا – تنازلي و ليس تصاعدياً .. بمعنى ان كل ما هو قديم افضل من كل حديث ، لدرجة يبدو القرن الأول افضل من القرون التالية تنازلياً حتى قيام الساعة !!
اذن فالشعر الجاهلي هو المثال ، و هو المتقدم ، و يؤكد هذا ان ابا عمرو بن العلاء ( ت 154 هـ ) قد جالس الاصمعي ( ت 215 هـ ) ثمان سنين لم يجده يستشهد بيت لشاعر في العصر الاسلامي ، و لم يكن يستشهد بالشعراء المحدثين ( المولدين ) و يؤكد ان ما لديهم من حسن فانما هو لمحاكاتهم للقدامى ، و ما كان من قبيح فهو من عندهم ، ثم يصدر حكماً يقرر تفاوت الاسلوبين ، إذ يقول ( ليس النمط واحداً ). و هذا اعتراف ضمني بتغاير الأساليب بتغاير العصور و لقد همًَ ابو عمرو بن العلاء ( الذي يستشهد بالشعر من الجاهلي و الاسلامي ) الاستشهاد بالشعر المحدث بسبب كثرته و حسنه.
و من الجدير بالذكر - هنا - ان مصطلحي الحسن و القبح الشعريين اخذا بالتفشي و الانتشار في الدرس النقدي و هما صدى لمفهومي التحسين و التقبيح العقليين الذين أشادهما الفكر الاعتزالي ، حيث جعلا القيمة كائنة في الشيء ذاته ، فقد يكون الشيء او القول او النص الأدبي جميلاً اوقبيحاً لصفات قارة فيه.
و يمايز المبرد( ت 286 هـ ) بين الشعرين القديم و المحدث و يرى ان الشعر المحدث انما هو ( اشكل بالدهر ) و المشاكلة - لغوياً - تعني المماثلة و المشابهة ، و لذلك فان الشاعر المحدث هو من يقدر على التعبير عن واقعه بشكل فني ، و ليس تابعاً او محاكياً لشاعر قديم.
و لعل أهم ما ارساه المبّرد في هذا السياق مقولته التي يجعل فيها العدل ميزاناً للتمييز بين الشعر الجيد و الشعر الرديء ، و يلغى بها التفاضل و التمايز بحسب الأزمان يقول : ( و ليس لقدم العهد يفضل القائل ، و لا لحدثان عهد .. يهتضم المصيب ، و لكن يُعطى كل ما يستحق ) و بهذا أخرج الحكم بالجودة و الرداءة من البعد الزماني الى ابعاد فنية ، و لذلك فليس الشعر القديم جيداً لكونه قديماً ، و ليس الشعر المحدث رديئاً لحداثته ، و انما يعطي كل منهما حقه بحسب خصائص ذاتية كائنة في النص ذاته.
و حين نلتقي بابن قتيبة ( ت 276 هـ ) فانه يحاول الإفادة من النقاد الذي سبقوه او من النقاد المعاصرين له ، و بذلك يحدد ، جودة الشعر لا على اساس زماني و انما لخصائص كائنة فيه ، و بهذا فهو يعيب على بعضهم بأنه (( يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله و يضعه في متخير شعره ، و يرذل الشعر الرصين و لا عيب فيه عنده إلا انه قبل في زمانه ، أو أنه رأي قائله )).
و يحاول ابن قتيبة التوسط في الحكم بين انصار القديم و انصار المحدث و ينظر اليهما بعين العدل ، يقول : ( و لم اسلك فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختاراً له ، و سبيل من قلّد ، او استحسن باستحسان غيره ، و لا نظرت الى المتقدم بعين الجلال لتقدمه ، و الى المتأخر بعين الاحتقار لتأخره ، بل نظرت بعين العدل على الفريقين ، و اعطيت كلا حظه ، و وفرت عليه حقه )
و حين ينتقل ابن قتيبة للتحدث عن بنية القصيدة التي يرى انها تتكون من ثلاثة أقسام 1- الوقوف على الطلل. 2- التغزل بالحبيبة 3- مدح الممدوح ..
فانه يعود تقليدياً بحيث يلزم المتأخرين بالسير على خطا المتقدمين ، إذ (( ليس لمتأخر الشعراء ان يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الاقسام ، فيقف على منزل عامر او يبكي عند مشيد البيان لان المتقدمين وقفوا على المنزل الدائر و الرسم العافي ، أو يرحل على حمار او بغل و يصفهما لان المتقدمين رحلوا على الناقة و البعير ).
ان نصرة الحداثة هنا لدى المبرد و ابن قتيبة كانت مفروضة عليهم بسبب التطور الزمني ، و ليست جزءاً من البنية العميقة لتطورهما الفكري فالمبرد لغوي ، و غالباً ما يميل اللغويون الى القديم بحسب أساليب الاستشهاد النحوى ، و ابن قتيبة هو من انصار مدرسة النقل التي تعلي في جوهرها بالبنية الروائية للنصوص ، و النصوص القديمة منها بخاصة.
و ليس من قبل الصدفة ان ينحاز ابن قتيبة للتراث الأدبي بهذه العقلية التقليدية ، فهو اصلاً ليس بناقد للشعر ، و انما هو محدث ، و كان من أهل النقل و معارضاً للمدرسة العقلية لدرجة وصفه ابن تيمية بأنه لأهل السنة مثل الجاحظ لأهل المعتزلة.
و لا ريب ان هناك تعارضاً جلياً بين مدرستي العقل و النقل ، و تتمثل الأولى في الفلاسفة و المعتزلة الذين ارسوا معايير نقدية متأصلة على اساس عقلي ، و لم يجعلوا الزمن معياراً ، و لم تكن النصوص القديمة مثالاً ، بخلاف المدرسة الثانية مدرسة النقل التي تقلل كثيراً من أهمية النقل ، إذ تجعل النقل متقدماً على العقل ، و من ثم فان معايير المتابعة و المماثلة هي التي تتحكم بجودة النص الشعري. و لذلك لاحظنا ان ابن قتيبة على الرغم من ادعائه الحكم بالعدل بين فريقي الشعر القديم و الشعر المحدث فانه يرجع ناكصاً بطريقة تقليدية في احكام بناء القصيدة على اساس معيار تراثي قديم ، ويوجب أن يلتزم بها الشاعر المحدث .. و هذا يعني ان الجذر التراثي النقلي هو الذي يتحكم في رؤيته النقدية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما