الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زردة علي بن جاب الله / مشهد روائي

سمير دربالي

2016 / 5 / 17
الادب والفن


مازال صدى صوته الذكوري يطرق كوّة أذني إلى الآن ...أسمعه حتى لكأني أقطفه من فم صاحبه طريّا طازجا قبل أن تلامسه ريحُ البَلى .. رَجعٌ من الأحداث التي حفرت عميقا في ذاكرتي يتداعى إليّ ...وأسرابٌ من مشاعر شتّى غفتْ عميقا في جسدي صارت يقظة ..وحنين غامض الى زمن أوقد ناره في القلب ..ثم خبا ..
هناك .. وسط السوق .. قرب ناعورة الهواء ..كان“ البشير العايب ” يقف ..وهناك ظل يستوقف العابرين ..ممسكا بطرف عصاه تحت ركبته اليسرى وهو يطوّح برأسه قريبا من كتفيْه مردّدا :“ يا تَاغُوتْ راهي زرْدة ”علي بن جاب الله“ .. نهار الأحد الجايْ .. والحاضر يبلّغ الغايب ..“ ثم يتحرّك متمايلا يدفع رجله الوحيدة إلى الأمام فيتْبعه نصفُ رجله الأخرى والعصا الخشبيةُ التي تمتد أسفل ركبته إلى الأرض بتناسق عجيب :“ يا وْلادْ خلفة ،يا وْلادْ عاشور، يا وْلادْ مْساهل .. زردة تاغوت نهارْ الأحد الجايْ ....الحاضر يبلّغ الغايب ..“
... ويظل البشير الشّياد بقامته السّرْو يطوف مبرّحا .. ويظل صوته القوي الأجش يروح ويجيء .. يظهر ويخبو ..كهدير قطار عابر ..ونظل نحن نلاحق خياله .. نركض خلفه كقطط جائعة .نطوّق كلماته لئلا تضيع في زحمة المارة ، وصراخ البيّاعين ،وكركرة نسوة أقعين قرب السكة ، و نهيق أحمرة شُدت الى شجرات الكالاتوس الشامخة قريبا من ”اللاقار“ . نرقبه غير مصدقين ....تلتقط أسماعنا عبارة“ زردة ” فتلوكها بلهفة صَبّ عاودهُ طيفُ حبيب عابر ..
سعادة تسري في الأعماق لا يضاهيها شيءٌ.. وفرح طفولي غامر يفوق سعادتنا بقدوم نهار السوق ..لا شيء أعظم من أن ترسم حُلما وتعلّقه على شرفة الغيب .. ثم تمنّي النفس بالقادم .و تظل تركض خلف أرنب الوقت السريع .. تقضم الأيام والليالي للإمساك بمفاتيحه الضائعة ..
اليوم سألت ”السيد مسعودي“ عن البشير العايب الذي ظلت صورته تلاحقني منذ قترة ..فتردّد قليلا .ثم قال : ” نعم .. أذكره جيدا ..الشّيّاد ... أظنه من ولاد مساهل ..!! ”.
حين سألت ”محمد قنيشي ” رد ّ بسوْرته المعهودة ”..كَيْتي [ عبارة يستخدمها للاستغراب ] ومن لا يعرف بشيرالعايب.. بو الدّعفاري ..اللي يخدم في ”السّيلون“ .
قلت :“ وكيف خسر نصف رجله ”.
ردّ : ”..خسرها في الحرب ..تكلّمْ عليه لُغْم ...“ ثم سكتَ .
في ذلك اليوم فرشت أمي كعادتها حصير الحلفاء في الحوش ..حشرتني وسط إخوتي الثلاثة وألقت علينا عباءة الصّوف الثقيلة .. فظللنا في شدّ وجذب ،وضحك ولعب ،وصراخ وبكاء .. وظلت تتوعدنا كلما مرّتْ مردّدة عبارتها السّيف : أسكتوا والاّ لن تذهبوا غدا الى“ الزردة“.. تقع هذه العبارة في القلب وقع الرّجفة ..فتنخفض أصواتنا شيئا فشيئا حتى تختفي ..تنسحب الأفاعي الى جحورها خائبة كأنْ أوقدتْ أمامها نارٌ ...لكنها لا تلبث أنْ تعود ..وشوشة ً...ثم كركرةً ...ونظل نُطلّ برؤوسنا من تحت العباءة في عَبث طفولي بلا حدّ ... نسرّح أعيننا في السماء ..نتسابق في عدّ النجوم التي تهوي إلى الأرض ... نرسم بالأخرى المعلقة أشكالا وخيالات ..بينما تكون أرواحنا مشدودةً الى جامع سيدي علي بن جاب الله ..والى أوّل نجمة ستوقد في السّفح وسط الظلمة ..
في أعلى التلة بركتْ ناقته .. وهناك رقَد .. ..في لحظة سبقت زمان السرد و رواية التاريخ .
تقول امي كلما سألتها عنه : ” لا أعرف بُنيَّ ..يقال إنه جاء من الغرب زمن الجدود الأولين ..سيدي علي بن جاب الله ..شيْ لا بيه .“
.. في أسفل هنشير المقبرة غدر ”السّارقْ ”خاطف الأرواح ب“عائشة“ ، حين كانت تعبر الوادي خلف أغنامها عائدة الى البيت ..فتنادى الناس من كل مكان للبحث عنها أياما و ليالي ...حتى عُثر عليها وسط الطمْي وقد شبعتْ ماء .
..وهناك ظلت ”تاغوت“ تكدس أبناءَ لها تكسّرََ فخّارُُهُم على صخرة النهايات الغادرة ..
وهناك تعلمتُ كثيرا من أسرار الحزن وأساليب البكاء..
...و درّبتُُ نفسي على النسيان ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس


.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام




.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد