الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكرى صديق عزيز

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2016 / 5 / 21
الادب والفن



ها هو قد شارف الستين ولم تبق سوى لحظات على تقاعده، لم ينل من التعليم سوى أمراض عضوية ونفسية، كان الأجدر به وهو يسعل تحت شجرة وارفة في قريته البعيدة أن يغادر مهنته باكرا ويخلد إلى الراحة ويستمتع بالحياة، اتكأ على الجذع وصارت ذاكرته تبتهل الماضي البعيد، صور متناثرة الواحدة تلو الأخرى، بلا معنى ولا دلالة، ولكن ما إن طفت صورة صديقه عبد السلام وهو يضحك ضحكة متفرسة حتى ابتسم ابتسامة كتومة تقديرا لإنسان عرفه ذات يوم، لا يذكر من هو عبد السلام ولا أين عرفه ولا المدينة التي يتحدر منها، فقط يعرف ضحكته المتفرسة المستبشرة بالحياة، هذه الضحكة تختزل مرحلة عصيبة كان قد مر منها البطل، مرت هنيهة ثم غير من جلسته، مرت دراجة مسرعة تاركة خلفها الغبار، فلاحت على ذاكرته المتشظية المنكسرة دراجة نارية خضراء تتعطل من حين لآخر ويركب عليها رجل قصير القامة بالقرب من جدار أصفر يحيل على الموت والخراب، وسط مدينة مريضة متعبة، مغبرة باعثة على اليأس، ها هي الدراجة تستيقظ من غفوتها، وتعود الذاكرة إلى رشدها، ويمثل أمامه رجل مكتنز البنية، حليق الرأس، مبتسم الوجه، في سن الثلاثين، يحمل محفظة سوداء، كان قد خرج للتو من ثانوية خربة، لا يذكرها بطلنا في ذاكرته، نيتشه قال أن ما يجعل الإنسان مستمرا على قيد الحياة هو قدرته على النسيان، لعله نسيها كما نسي تلك المدينة المغبرة، والمرأة الشمطاء التي اكترى لديها أول مرة، والبحيرة الملوثة، والسوق الفوضوي والشوارع الموحلة والمقاهي التي كان يتردد عليها، لم يبق شيء في الذاكرة سوى مدينة عبد السلام.
مضت ثلاثون عاما، عاش من عاش ومات من مات، أحداث لفها العدم، ولم ينس عبد السلام، عندما يخرجان من الثانوية يمتطيان الدراجة النارية، يجلسان في المقهى، يتناولان أطراف الحديث، ويقومان بنزهة خارج المدينة، كان عبد السلام يعشق النرفانا ويعتبر أن الفكر هو السبب في شقاء الإنسان، كانا يتداولان في اليومي، ويقص عليه النكث ويحكي له المغامرات والطرائف، لم تنساه ذاكرته، ربما لأنه شخص شفاف أو شخص مرح، أو عار لا يضمر حقدا أو تكبرا أو تعاليا، أو لأنه شخص مغامر ومجرب، كلما لفه الحزن أو شعر بالاغتراب تطفو أمامه ضحكة عبد السلام، فيبتسم أمامها، دامت صداقتهما سنوات طوال، تعارفا على الفايسبوك، كان عبد السلام مقيما في الجنوب والتحق بموطنه، فتعارفا على بعضهما وتعانقا، كانت هذه هي بدايتهما سرعان ما توطدت وراحا يجوبان المدينة، كانت هذه الأخيرة في الأيام الأولى موحشة وضبابية تثير الخوف والرهاب، كانت قيدا ملعونا، كانت جهنم الحارقة في المخيال الشعبي، تارتروس حيث الجحيم والخواء واللامعنى في الأسطورة الإغريقية، لكن بعد لقاء صديقه بدت أكثر وضوحا وإن كان حلم الانتقال لم يفارقه لحظة، ذات يوم تسكعا في كل شوارعها وزارا أقدم مقاهيها المتواجدة بالقرب بالبحيرة التي شيدها الفرنسيون على شاكلة خريطة فرنسا، اليوم باتت موبوءة بالنفايات ليست كالبارحة حيث كانت تعبرها القوارب وتبعث الأريج والحياة، لقد تمغربت وتزمزمت وصارت تارتروسية مليئة بالجحيمية والخواء.
رحلة سد بين الويدان لا تنسى، لقد بقت عالقة في الذاكرة، كان عبد السلام يرتدي تي شورط أخضر، ويقذف نفسه بين مياه السد، بطلنا أيضا سبح، بل إنه يجيد السباحة، لقد تعلمها منذ كان في عمر التاسعة، كان لا يفارق وادي النفيفيخ الذي يعبر قريتهم، كان رفيقا للأسماك والسلاحف، في الرحلة تلك التي مرت عليها خمسة وعشرون عاما عرف أن عبد السلام طباخ ماهر، وسباح مميز، وفكاهي رائع، ومغني مرموق ...
في النقاشات التي كانت تدور بينهما لم يفت عبد السلام أن يعتز بتجذره وانحداره من قبيلة السماعلة، لا يفوته حضور أتراحها وأفراحها ومواسمها، إنه يعشق التبوريدة والرقص والغناء، أنثروبولوجي بالفطرة، لكن عيبه هو أنه لا يكتب، حكى لي ذات مرة أن قبيلة السماعلة كانت تحمل الشموع وتسير جماعات مصطفة إلى ضريح مولاي بوعزة طلبا وتوسطا لله لكي تسقط الأمطار، ولقد لاحظ بطلنا في سبتمبر 2015 أثناء حضوره لموسم أبي جعد أن السماعلة كانوا يتوجهون زرافات هائجين مترنحين وأمامهم ثور قربانا للضريح طلبا للشفاعة والحماية من نوائب الزمان .
زئبقية عبد السلام تساعده على التنقل في شوارع المجتمع، إنه شعبي حد النخاع، يرافق الميكانيكي والنجار الحداد والأستاذ والبرلماني والطبيب والممرض والفقيه، إنه منغرس في الشعب يحاور الإسلامي، ويضحك مع العلماني، يصافح الرجال والنساء من كل الأعمار، في طريقه تصافحه كل المدينة، هذا ما جعله اجتماعيا أكثر من اللزوم، كان هاجسه الأكبر في قرية أولوز بتلاميذها الرائعين وجبالها الخلابة هو أن يعود إلى موطنه الأصلي، كان يرى في الموطن الأصلي الوالدة بحنانها الدافئ وخصوبة حكمتها، إن الوحشة التي شعر بها بطلنا في بلاد تارتروس شعر بها عبد السلام في أولوز، لقد قال لبطلنا يوما : " ما دفعني للانتقال هو أن أولوز تقليدية ومنغلقة، بينما في بلادي أشعر بالحرية "، إنه انتقال إلى حضن الأم رمز الحياة والإبداع والحرية والدفء والأمان، لكن بعد مضي سنتين فارقته الوالدة إلى مثواها الأخير، شعر بطلنا بالحزن العميق، ذرف دموعا، كان عبد السلام يحكي له معاناتها وهي تصارع المرض، تأسف بطلنا لأنه لم يزرها،فهو ذو عاطفة رقيقة وحساسة ويخشى طقوس المرض والموت، ست سنوات الأولى من حياته كانت مريرة لم يفارق المشفى، إذ أجرى عمليتين جراحيتين، وكان يعاين الموتى والجرحى والمرضى وهم يتألمون في أسرتهم، مرة واحدة رأى فيها ميتا، لقد ماتت جدته بالقرب منه، كاد هذا المنظر أن يفض بحياته . الموت حتما يؤدي إلى الحزن، وخاصة موت الوالدة، فهي كالشجرة نستظل بظلها، وحينما تفارقنا يفارقنا الظل وتلسعنا الشمس، لقد ناضل عبد السلام من أجل بقاء هذا الظل ولو لبرهة من الزمن، ذات يوم اتصل به بطلنا وقال له :" إنه في إحدى مشافي الدار البيضاء مع الوالدة "، هؤلاء هم الرجال الحربيون والمناضلون الأفذاذ، صديقنا الثوري مكسيم غورغي كتب رواية عن الأم مؤكدا أن أي ثورة أو تغيير من أجل الحرية والعدالة والمساواة والسلام والمحبة يجب أن ينطلق من مدرسة الأم، هاته الأخيرة خزان لا ينضب من الطاقات الثورية والتغييرية، ليس مانعا أن تكون الأم أمية، فالأمية ليست عائقا أمام الوعي، ليس أميا من يقول : "المظاهر ليس تعبيرا أمينا عن الأفراد "، هذا ما قالته الأم ذات مرة، فلم يخطىء عبد السلام حينما قال لبطلنا ذات يوم : "موت الوالدة هو تحطم كل المشاريع "، كان حلم الوالدة أن ترى أولاده وهم مشاريع يدبون في الحياة، لكن ها الوالدة قد ماتت .
ثلاثون عاما قد مرت على تعارفهما، ماذا بقي من عبد السلام ؟ هل لازال على قيد الحياة ؟ أين يكون قد ذهب ؟ ألا زال في تلك المدينة ؟ هل تزوج ؟ وماذا عن دراجته الخضراء ؟ ألا زال يذكر بطلنا ؟ هل كتب شيء في مذكراته عنه ؟ ماذا عن اللحظات الجميلة التي قضاها معا في حي المسيرة ؟ عبد السلام بقي حيا في ذاكرته كأوراق الشجرة التي لم تعصف بها حرارة الصيف، الطبيعة في كل سنة تموت، لكن عبد السلام لم يمت، كم تمنى صديقنا عبد السلام أن يبق بطلنا رفقته، لقد صارا صديقين تجمعهما علاقة متينة من الود والاحترام، غير بطلنا في كل سنة يحلم بالرحيل، كثيرة هي المرات التي لم يوفق فيها، وإحدى المرات توفق، ومذاك لم ير عبد السلام، تلك هي مأساته . وصار حلمه هو الرجوع إلى بلاد تارتروس ورؤية عبد السلام.
عبد الله عنتار، المحمدية، 18/05/2016








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فايز الدويري: فيديو الأسير يثبت زيف الرواية الإسرائيلية


.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي




.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |


.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه




.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز