الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سراب...!

حملاوي فاطمة الزهراء

2016 / 5 / 21
الادب والفن


آخر مرة لمحت فيها وجه سراب من وراء زجاج المقهى بدا وجهها أصفرا شاحبا...عندما خرجت لأوقفها لم أجد غير الظلام يحيك أنشودة قادمة...عدت لأقرأ الرسائل التي كانت تصلني كل أسبوع:
رسالة رقم واحد :
إنني أتحايل على نفسي جاهدة حتى لا أقتل نفسي بعد فجر كل ليلة عندما أستيقظ برئتين مكتومتين، و حين أكتشف أن أشياء كثيرة قد تغيرت، و عندما أنظر في المرآة لأرى هالة السواد تحف مقلتي ، و حين أفكر في طفل يجر رفات والدته، و حين تسوقني الحياة قصرا إلى الإيمان بقدرها و حين أتذكر أن الوجع مازال مستمرا، و عندما يكلفني قرار النهوض من الفراش و الذهاب لدورة المياه نصف ساعة و خاطرتين...إنني فعلا أتحايل جاهدة...تنفسي حياة !
رسالة رقم 2
لا شيء لي في هذه المدينة بل لا شيء لي في هذه الحياة ، عشقت هنا و غازلت السنين تفاصيلي الصغيرة على أعتابه...و لا شيء لي في هذه الحياة!
أشعر أنني لست موجودة...لكن أنفاسي تتجمد حين تأتيني هذه الفكرة الرهيبة!
إن الهزء الذي يمتلئ به الهواء لم يعد يهمني، أحس كل شيء هازئا و فيه لزوجة بعد رحيله
في غالب الأحيان أكتفي بالتحليق في صورتنا:
أ أعجبك ؟
يجيبني مبتسما: تعجبينني !
هذا نشيد كامل كي أحتفظ بتوازني...حتى أنني لا أبدل مجهودا لأتغير...أنا كسولة جدا و أستمتع بكسلي...لا شيء يغريني غير صدى ضحكاتنا!
رسالة رقم 3 :
هذه الأمطار لم تزدني إلا التصاقا بالهوية الأولى، لم أنم في مدينة أخرى إلا و صورة القمر تأتيني دون استئذان...لمحت وجهه الطفولي و هو يعبر بهو البيت المؤدي إلى حجرة النوم، و بين يديه قلم و ديوان لم يوقع بعد !
كنت أجلس بعيدا، أرقب حركاته الطفولية، أستمتع بمشهد لا يراه أحد سواي...لوحة شاعر و هو يخلق القصيدة...يكتب العبارة و لا تسعفه، يمحوها، يعيد قراءة النص أكثر من مرة، يرتله و يهيم في ثنايا الصور، يعيش في القصيدة و ينسجم بإيقاعها...ثم ينقح نسخته الأولى !
موسيقى خوليو إغلسياس تشدو في هدوء تام، أضع رأسي على الحائط المقابل...باب الغرفة الشبه مفتوح يعينني على استراق اللحظة من دهشتها الأولى ! كنت في عمق رعشة الخوف من أن أفقد المشهد، تساءلت بيني و بيني : كيف يمكن للناس أن يموتوا على مرأى من أرخبيل الجمال؟
في الخارج كان اللون الرمادي يملأ السماء، نظرت إلى الساعة، الزمن يسيل كالماء. كم تمنيت أن يتوقف لكنه كان يجري بسرعة كنت عاجزة على متابعتها... تنفسي حياة..!
رسالة رقم 4 :
لم أنم ! كانت ليلة مجنونة بكل تفاصيلها، باغتني ألم كليتي مجددا في ساعة متأخرة من الليل،جرعات الباراسيتامول لم تكن كافية لإيقاف هذا الهراء، فكرت في حل آخر : لففت وشاحا حولي و عقدته بإحكام متناه، كان ينقصني فقط صخرتين على بطني ليقولوا: لقد ماتت ثورة على العدم ! تمددت على سريري و رفعت من صوت معزوفة جيبسي كينغ /inspiration...هذه المعزوفة تعيدني سنوات ضوئية إلى جدار الروح ، أشعر بترانيمها تتسلل إلي في هدوء تام، تغتال ألمي، تغازله و تراقصه...نجحت أخيرا في توحيد الدوبامين بالإيقاع...لقد صار لهذا الألم وجود استطيقي !
تنفسي حياة...
رسالة رقم 5
فتحت يوميات الحزن العادي ل محمود دروريش، هذا الكتاب الذي أهداه لي ضمن مجموعة الكتب تلك آخر عيد ميلاد جمعنا... و أخرجته من بين الكتب ما يعادل المائة مرة، و لم أقرأه و لو مرة واحدة !
لقد قررت أن احتمل هذا الألم مرتين،و أدعي السلام و المحبة للعالم !
على الأقل الآن، صار لي شيئا صادقا أحيا أو أموت لأجله : إنه الألم !
هذه المرة أيضا، لم أقرأ يوميات الحزن العادي...تنفسي حياة !
وضعت الرسائل جانبا، شعرت بدوار شديد...ليالي هذه المدينة مرايا و أشواق...و سراب التي أودعتها حزني غادرت هربا من هذا الضيق !
لا أدري لماذا اشتعلت فتيلة الخوف بداخلي، إني أغرق في صمت المجاز، و عنفوان اللاجدوى يلد ألف سؤال و سؤال...بقيت أراقب سير الليل و هو يوغل الوحشة بداخلنا، لماذا تتحاشى سراب مواجهتي ؟ بكيت ثم ضحكت ثم شتمت و صرخت: يا الله لماذا لم تتخلى عني منذ زمن بعيد؟
كل شيء مستمر حولي، لا أحد يسمع صراخ دماغي، لا شيء يتراجع للوراء...مضي، مضي...من إرهاب إلى آخر...تيه يقذفك عبر تيه...و العالم الذي تصورته كاملا، منسجما شارفت فوضاه على الاكتمال... و بخار اللهث وراء السراب أغرق المرآة أمامي...غير أن أجمل ما في ضباب المرآة أنه يخفي شحوبي...لم يحدث أن خاف أحد من وجهه...إنني الآن أخشى وجهي !
التعب الجاثم في عروقي يلوح بآخر نفس لتلك الليلة... لن أخشى شيئا هذه المرة...سأطرق ذلك الباب غدا !
هو ذا الليل انجلى عن آخره، لم يعد يفصلني عن لقاء سراب سوى بضع سويعات...كنت أريد أن أبدو في أجمل حلة...أن أودع آخر سماء للحزن و أعانقها بحفنة فرح و موسيقى جديدة..استيقظت بعد تلك الليلة الطويلة و عمدت إلى الحمام لأغسل ندوب الكآبة عني ارتديت الفستان الفستقي الذي كانت تحبه كثيرا..أخذت الرسائل في يدي و رحت أؤثت الخيال سدى...ستفرح سراب بلقائي !
في آخر الشارع ثمة بناية يلوح بياضها من بعيد..هناك عرفت سراب !
كلما اقتربت قدماي من المكان ازدادت نبضات قلبي...في كل مرة يقتادني القدر نحو الغموض كنت أخبر نفسي أن لا حاجة للخوف ما دام الموت حليفنا في كل الحالات..لكن هذه المرة شيء ما عصيا عن الإدراك كان يجلجلني...و قفت أمام باب البناية أصيخ السمع عل صوتا من السماء يرنو ليهدئ هذياني...صعدت الدرج الأخير ثم اقتربت من باب المنزل... هو ذا بيت سراب...الظلمة تحيط أرجاء المنزل... كانت تتناهى إلى ذهني صرخة مكتومة عن آخر الأنفاس...لم يعد يفصلني عن الحقيقة و الحلم سوى هذا الباب الحديدي..لابد أنها مثلي تريد أن ينفض هذا الجدار بيننا عن آخره..تريد أن تنهي هذا العبث و تعانق الصرخة الأولى بكثير من الطمأنينة و اللامبالاة...هيت لك يا سراب ! مضى وقت طويل و هذا الحلم في لم يمض..في كل مرة أقترب بأصبعي من الجرس يأتيني صوت منبعث من غياهب هبلي البعيد...أكتم شهقاتي و أصيخ السمع له...إنه يهمس بحنو في مسمعي : لا أريد لهذا الأمل أن ينتهي !
كنت هشة حد الثمالة و روحي خفيفة تكاد تهوي من فرط الاستماتة...أنا لست قادرة على مساومة القدر.. تراجعت قليلا ثم اختفيت في !
يحدث كثيرا أن تخاف فقدان التيه الأخير، فتفضل الغرق في منطقة العطش..و لأنني لا أجيد الركوض خلف الحياة ولا الاستسلام النهائي للموت...كنت أفضل غالبا ان أحيا بينهما...لذلك لم أطرق الباب أيضا ذلك اليوم!
عند باب المبنى باغثني حارس المنطقة بسؤاله : هل تحتاجين مساعدة ؟ أجبت بسرعة لأقتل فضولي: لا شكرا...غير أن جوابي لم يمنعه من الاسترسال في الحديث...كنت أنظر إليه و ذهني متوقف تماما...لا بد أنه كان يحكي عن سكان تلك البناية..و لا شك أنه حكى عن قصة المرأة التي فقدت ظلها بعدما مات زوجها في أحداث 11 أيلول خلال بعثة لأمسية شعرية..و حتما هو يعرف سراب و تحدث عنها...غير أن هذياني في تلك اللحظة كان يجعل قتامة المشهد أمامي تزداد شساعة...تركته يحكي و هرولت مسرعة إلى الخارج...كنت أركض و انفاسي المتقطعة تعزف سمفونية الهلع الأخير...
عدت إلى منزلي وجدت رسالة جديدة :
" لقد عاد الهاجس! فستان عرس أبيض أنيق، معزوفة التيه لسوزان لاندونغ التي كانت تقرأ على أنغامها مذكرات مريم و سينو في رواية" أنثى السراب"، حذاء الرقص....و ورقة كتب فيها:
لا تدعوا الكبار يقتربون من نعشي ! وزعوا الحلوى و الدمى على الأطفال...لا تنثروا الورود ولا تشيعوا جثماني بالإرهاب...أريد صوت الأطفال و هم يلعبون و يمرحون في أذني ! أغلقت الرسالة ثم
فتحت المذكرة و كتبت : العزيزة جدا سراب.. كدموعي التي لا تخذلني حين تجثو على صدري الجراحات..أريدك هادئة كما كنت من قبل...لا تفكري كثيرا في ما مضى...كل الأشياء آيلة إلى زوال... و وحدك نص القصيد.. تنفسي حياة كما كنت أخبرك دائما...سراب سآتي إليك قريبا... أعدك ! حين أتخلص مني سآتي...حتما سآتي !
كتبت هذه الكلمات و وضعت الرسائل داخل المذكرة ثم استسلمت لنوم عميق...من شدة هذياني لم يغتلني ألم كليتي ذلك المساء!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهرجان كان السينمائي: تصفيق حار لفيلم -المتدرب- الذي يتناول


.. إخلاء سبيل الفنان المصري عباس أبو الحسن بكفالة مالية بعد دهس




.. إعلان آيس كريم يورط نانسي عجرم مع الفنان فريد الأطرش


.. ذكريات يسرا في مهرجان كان السينمائي • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الفنان السعودي سعد خضر لـ صباح العربية: الصور المنتشرة في ال