الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خديجة غربوب تصنع بدلة الإمبراطور غير المرئية

عبد الفتاح المطلبي

2016 / 5 / 22
الادب والفن


خديجة غربوب تصنع بدلة الإمبراطور غير المرئية
انطباعات حول بعض نصوصهاالشعرية
عبد الفتاح المطلبي
إذا كانتِ الحداثةُ الشعريةُ بمعناها الواسعِ هي إنتاجُ نصوصٍ تنتسبُ إلى زمنِها الحاضرِ بكلِّ إرهاصاتهِ وإذا كانتْ تعني التمردَ على الموروثِ الشعري العربي والخروجَ على قوانين الِخليلِ وما اتفقتْ عليه العربُ من قوالبٍ لغويةٍ وموسيقيةٍ والتخلصُ من كلِّ ما يُعيقُ التعبيرَعمّا يجيشُ في نفسِ الشاعرِ منْ مخلوقاتِ المعنى المعتمدةِ على الإشارة ِوالسيمياءِ وديناميكيةِ الحفرِ والإستحداثِ في اللغةِ والتوغلِ في مجاهلِ الطبقات ِالتحتيةِ لللاوعي العميقِ الذي أهملتْه ُالذاكرةُ الواعيةُ طويلاً والصعودُ إلى مخلوقاتِ الهامشِ التي تُعدّ من أغنى البيئاتِ الشعريةِ التي تعبّرُ عن القسم ِالأكبرِ من الحياةِ بمجملها كونَها تمثل الترابَ الأركيولوجي الناتجَ عن حفرياتنا في مجملِ طبقاتِ اللاوعي والتي تحتاجُ إلى نصوصٍ غربالية تماما مثل غربالِ الأركيولوجي في طبقاته ، إذا كان كل ما تقدم يعني الحداثة في الشعر فإن الدكتورة الشاعرة وأستاذة النقد الأدبي ( خديجة غربوب) قد فعلت ذلك عبر نصوصها الشعرية.
تشتغل نصوص خديجة غربوب على مستويين رئيسيين أولهما المستوى الدلالي المعتمد على المقابسة المتقاطعة بين الطاقة الإيحائية للمفردة في الجملة الشعرية وبين الهدف النهائي للنسق الإنفجاري في المعنى المتشضي مثل قنبله ذكية تختار أهدافها وهم ذلك النوع من المتلقين الذين يصلحون كمجسات التقاط لتلك الطاقة الإيحائية المذكورةِ آنفا وعند حصول هذا التقاطع على أو في حيّزتفكير المتلقي النوعي تحصل المقابسة المتبادلة صانعةً ما يشبه الوشيجة ذات العرى القوية بين النص وقارئه ، شيءٌما يتوهج في نسق الجملة وشيءٌ ما يتوهج في الذات القارئةِ والمستوى الثاني هو الإشتغال في المناطق الشائكة أو المحضورة أو المهملة بنيّةِ إعادة إنتاجها وتدويرها لجعلها منتجا ذهنيا صالحا للإستهلاك الذهني والعاطفي بكل مناحيه النفسية وطاقات (اللبيدو) مضرجةً جسد الواقع بدم االخيال لتضمده بضماد منقوع بالنوستالجيا الإستثنائية على نغم الحداثة مضيفةً نكهتها اللاذعة أحياناً والواخزةِ أحيانا أخرى وفي كل الأحوال تنتهج نهجا متحرشا بالعقل المتسائل ، العقل النقدي مقدمةً جمهرةً من الأجوبة ومطلقةً سيلاً من أسئلةٍ طالما مارس البعض الحيود عنها ، وكأنها ذلك المقاتل الذي وجد النجاة في الهروب إلى الأمام لمواجهة الوقائع الملتبسة بعينين عاريتين وجلدٍ أجرد ممتطيةً قوارب اليأس والمستحيل:
الدكاكين الصغيرة تبيع الشكلاطة الرخيصة
اشتريت قطعة لأجعل الحزن شهيا ولذيذا
أيقظت ألم الأسنان وصرت بحزنين
ضحكت قبل أن أشرع في تنفيذ لهستيريا
أضفت التين الى الشاي ,وتجاوزت نفسي
مجموعة من الشتائم اقتحمت غرفتي
الكل يريد تلميع غائطه على حساب حمقي البائس
تمثلت حائط برلين ,ووضعته بيني وبينهم
وأنا في الحافلة أحمل معي هذا الحائط
وكلما ترنحت ,خفت أن يسقط الجدار
على جهة معينة
الازدحام يرغمنا على أن نلتصق بعضنا ببعض
ونكون على وشك تحقيق الوحدة
الحافلة تهدد سيادتي
أمشي على الأقدام كي أتخلص من الثقل
شاي بالتين لايكلف شيئا لنضحك
على رزانتنا المصطنعة
بلغةٍ إستثنائية حروفها أدوات تجرح وتخدش وتحفر تشق القصيدة بطلة اللحظة طريقها في لحم الوهم الثخين ومع أن روح القصيدة في الحافلة ذاتها ومع أن الآخرين بدوا كمخلوقات من لحم وشحم ذلك الذي أشار إليه المتنبي ليُشبّههُ بورمٍ ربما يهدد بالإنفجار كل لحظة ، ورغم محاولات حمقنا البئيس باستدراع الفردانية الشخوصية لكنها تبدو كمن يضحك على انعكاسِ صورته في المرآة ، سيادتنا ، وحدتنا ، رزانتنا ، جدراننا التي نحمل ، كل ذلك يدعو للضحك حقا(شاي بالتين لا يكلف شيئاً لنضحك)* ، نص عميق ينفتح على متسع من التأويلات ، ما يبهج في كتابة مثل هذه النصوص تحرشها بالعقل وكهربته واستدراجه للهذيان الرؤيوي بطريقة المجالد الروماني في حلبة الحياة لا تمل مجالدةً ومنافحةً او لا تركن إلى السكونية التعبيرية بل تجنح في نصوصها إلى الإنغماس في الساكن وتشضيته أو هزه صانعةً موجات من المعنى المتعاقب بدوائر متعددة مثل إلقاء حجرٍ في بركةٍ ساكنة، تفعل ذلك من أجل إيمانها بالحرب الدائرة بين الذات الشاعرة وبين الحياة إذ أنها تعلم جيدا أن السجال قائمٌ بين تلك الذات وبين الحياة منذ الصرخة الأولى في الخروج الأول حتى النهاية وكأنها قد آمنت أن نفحة الحياة اللذيذة تكتنفها نفثات من سمٍ مخبوء بين طياتها الناعمة وأن سكونها سكون الأفعى في فراشك وأنت تغط في نومٍ عميق لا تدري كيف ومتى ستهاجمك وفي أحسن الأحوال فإن الحياة تكيل لك الصفعات وتذيقك الآلام وكلما أمعنت الحياة بإهاناتها أعدّتِ الذاكرةُ سردابها ليكونَ مقبرةً تدفن فيها الذات الشاعرة أرتال المشاعر الميتة والقتيلة في هذه الحرب المستمرة حتى الموت ففي حيّزنا الزمكاني نحنُ الذين مازلنا على قيد الحياة نتلقى إهاناتها بشكل متواصل، الكثيرُ منا يولي الأدبارَمستخذياً ويترك قفاه معرّضا للسعِ سياطِها وفرقعات صفعها بتخاذلٍ مريعٍ والقليل منا الذي يرد على قدر ما يستطيع ، أحيانا بنظرةٍ غاضبةٍ وتقطيبةِ جبينٍ أو صمتٍ كالذي يحصل قبل العاصفة يعقب ذلك انفتاق جرح على جلد الروح الرهيف وفي لحمها الحي فتنزف أرواحنا دمها على الورق ( الكتابةُ انفتاح جرحٍ ما- فرانز كافكا) نشعر بعدها أننا نسترد جزءاً من كرامتنا المهدورة ،أولئك النازفون هم هذا القليلُ خالقُ كائنات الكتابة ...
في بعض نصوصها أتت اشتغالات خديجة غربوب على اللغة بما يشبه التوهج المقدس الذي استخدمته حقب كثيرة ، أكاد أجزم أن في رأسها معصرة للكلمات تستقطر منها روح المعنى وبذلك قد تجاوزت الرأي القائل أن الشعر يقوم على المعنى ، تجاوزته إلى تلك القضية الإشكالية التي تكتنف معنى الروح وتحيله إلى سؤال كوني واقف أبدا لا يريم ، تلك النصوص الإشكالية تعتني عناية خاصة بالبحث عن قارئ في الخضم قارئٍ غريق يحتاج قاربها السحري لانتشاله مما هو فيه وربما لا تعني أولئك المتفرجين على الشاطئ، تلك ميزتها ولايكفي أن نقول أنها مبدعة ، هناك شيء آخر أبحث عن زاويةٍ مناسبة تماما كما تتطلب القصيدة عند خديجة ، أظن أنني وجدت أثرا ، ربما تضع في الجانب الذي لا يظهر من الصورة بعض أدوات الحفر ، هي تحفر في ذاكرة الهامش الجمعي ، أكاد أشم ما تعثر عليه من لقىً ، لحم الهامش ، فتات المصائب ،أناشيد ضائعة تتردد على رنين الفجيعة المتصل في أصقاعنا العربية...

يتكلم بعينين غير صافيتين
لاأحب هذا النوع من البشر
لاعذر للمكر الذي يحدق
في تفاصيل لغتي
أضحك من موت يتحرك أمامي
لن أذرف الدموع فالأحاسيس تعرف الطريق
أيها الرجل الذي يحمل الرشاش في قلبه
أنا أحرص على وضع الأسلاك الشائكة
بيني وبينك ,لاتخترق الحدود
الموت يشبه الانسان ,له ألوان متعددة
أنا أشتهي موت جدتي
عندما عادت من الغاب ,أوقدت النار
وأغرت الموت بالدخان المنبعث من سيجارتها
المحشوة بالعشب
أكره أن تتبعثر أعضائي في الملهى الليلي
أو أنا داخل المسجد أنتظر مرور العاصفة
لاتصنعوا لي موتا بألوانكم الحاملة للجنابة
أتخيلكم وأنتم تمارسون الحب
أصواتكم مزعجة وأنتم تقذفون الكراهية
يا الله لاتدعهم يشاركون في موتي
أنا أشتهي موتا خاليا من الأسلحة
ومفعما بالرومانسية وقصائد الحب
لاتترك الكلمات تندس مع الغصة
استجب يا الله
الذات الشاعرة عند خديجة غربوب قد غادرت الجانب السكوني وانغمست في هذه الفوضى البانورامية ذلك الخليط المتنوع من الآلام والآمال وخرائط الهجوم والتقهقر والهزائم الكثيرة المشوبة بلحظات نصر قصير لا يلبث أن يتحول إلى خيبة واندحار فلاتجد ذاتها إلا في خضم الصراخ الإحتجاجي ونزيف الألم المنسرب من قربةِ الحياة المعطوبة عبر اشتباكاتها معه حتى يأتي الردُّ من تلك المناطق النائية في الذاكرة عبر فعل الكتابة بشروعٍ تشترك فيه الحواس كلها في اللحظة المناسبة فيهدأ النزيف قليلاً ربما يكون ردا مقابلا أو موازيا أو محايثاً لتلك الصفعات ، تلك هي لحظة الكتابة عند خديجة غربوب التي تتطلب استنفاراً لمقابرالذاكرةِ وجاهزيةً للحواس فالعين ليست لرؤية ما حولها فحسب بل لتكييفها بحيث تستطيع التقاط اللحظة ، لحظة تلك الصفعة، الدماغ وتلافيفه معنيٌ بعجين الفكرة وتخميرها ثم خبز رغيفها بتنورالوعي المشتعل ، هناك ما يتعلق بجروح اندملت على صديدها وقبعت في اللاوعي لتصبح فيما بعد دماملَ وجروحاً متقيحةً تنفجرُ في لحظةٍ ما ويسيلُ صديدُها على الورقِ ممثلةً للحظةِ الكتابة عندها أيضاً، إنفجار صديد الخزين المتقيح من الأفكار والمواقف يندرج أيضا تحت عنوان الرد على تلك التغولات والإهانات القديمة لهذه الحياة وجميعنا قد حصلَ على حصتهِ من هذه الصفعات وعانينا الشجا حتى أُصبنا بداء التفكير وهمّ الكتابة إذ أن المعتوهين وحدهمُ الذين لا يتعرضون لأزماتٍ نفسية تجبرهم أحيانا على فتح نوافذ الخيال لتسريب دخانها الخانق، المعتوهون هم خارج هذه الحرب ،هي ليست حربهم بل حرب المهووسين بصناعة السؤال وهنا تأتي ضرورة الإستنجاد بالمخيلة مهمازا مؤثراً في حلبة السباق إلى بلوغ المرامي والمقاصد حينَ تكون فظاعات الواقع المعيش قد تجاوزت الحد الأقصى وأصبح من العسير التكلم عليها بكلامٍ واقعي نقداً وفضحاً وباتَ علينا البحث عن قوةِ الخيالِ لفعل ذلك فلطالما كانت الروحُ النقديةُ للخيال وزجّها في المعركة ضد القبح اليومي مؤثرةً وناجحةً ذلك أن العقل النقدي هو بالضرورة عقلٌ يجنح إلى الخيال في أدواته بل ويكون سلاحه الفاتك وعلى هذا الأساس أجد أن خديجة غربوب تواصل حربها ضد القبح تطلق في كل قصيدة من قصائدها سيلاً من قذائفها التي تحيل الوقائع المخجلة في حياتنا إلى مجرمٍ متلبسٍ بالجرم ألقت قصائدها القبض عليه ووضعته في قفص الإتهام وهي تواصل محاكمته لتكون هي القاضي وهي الإدعاء العام وهي المحامي لكنها بالنتيجة تحكم بنسف القبح والعدوان وتحيلهُ هباءً.
*كما علمت أن هذا النوع من الشاي معروف في بعض المدن الفقيرة في المغرب وهو يعطي حالةاستثنائية للإسترخاء و للضحك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??