الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التاريخ يتكلم بإسم عبد القادر الجزائري ..-كتاب الأمير- لواسيني الأعرج

ماجد المذحجي

2005 / 12 / 9
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


يعمل الروائي الجزائري واسيني الأعرج في روايته "كتاب الأمير: مسالك أبواب الحديد" الصادرة أخيراً عن "دار الآداب" في بيروت، على إعادة بناء التاريخ الصامت للأمير عبد القادر الجزائري الذي قام بمقارعة أولى موجات الاستعمار الفرنسي واُخذ منفياً لفترة طويلة في فرنسا قبل أن يتم ترحيله لاحقاً إلى المشرق العربي تنفيذاً لاتفاق عقده مع الحكومة الفرنسية التي تلكأت في تنفيذه طويلاً.

يحاور هذا العمل أكثر من منطقة، فهو يعيد الاعتبار الى الدور التاريخي الذي قام به الأمير عبد القادر الجزائري في دفاعه عن الجزائر، ويقدّم مشهداً واسعاً للجزائر قبل الاستعمار، وما خلّفته التركة العثمانية الثقيلة من سوء إدارة، وجهل، ومجموعة علاقات بدائية بين القبائل، ودولة مهدمة حاول الأمير إعادة بنائها قبل أن يفاجئه الفرنسيون بخططهم الاستعمارية. يتتبع العمل أيضاً جهود القس الفرنسي في الجزائر المونسنيور ديبوش في الدفاع عن حرية الأمير واحترام فرنسا لمواثيقها. لا يعيد سرد الوقائع التاريخية، إنما يعيد ترتيب مشاهدها الخلفية. يقوم ببناء الصامت في سيرة الأمير عبد القادر ويفضح تقرحات الحرب وعدم جدواها ولا يبرّئ احداً حين يحدث الموت. الجميل في هذه الرواية انها لا تقع في فخ الأساطير، أي انها لا تؤسطر الأمير بل تعيد وصله بيوميات صعبة وحقيقية بشكل جارح. إننا هنا نتعرف الى خيباته، الى الرجال حين يُخذَلون ويَخذلون، الى المناخ السري للصفقات، الى حقائق القوة التي لا تكفي لقهرها شعارات النضال ضد المستعمر الكافر. في "كتاب الأمير" يتم الاستئناس بالتاريخ ولكن لا يتم تبنيه أو تكريره، بل استنطاقه وفضح أسراره وجعله موصولاً بالغامض الذي لا يتم الانتباه اليه. انه عمل يعتني بالحديقة الخلفية للتاريخ فيجعلها معرّضة للضوء.

تتنقل الرواية عبر أكثر من محطة. ترصد تحولات حياة الأمير أثناء قيادته مهمة مقاومة الفرنسيين والمحافظة على دولة تتنقل مع الخيام التي يحملها في حراكه المستمر في أرجاء الجزائر بعدما دمر الفرنسيين عواصمه واحدة تلو الأخرى. يتكشف عبر الرواية شكل الدولة الجزائرية التي كان الأمير يريد إقامتها، العلاقات السياسية المتوترة مع السلطان المغربي والقبائل المتمردة التي تعتاش على السلب والغزو والتي أراد الأمير تمدينها. كيف أدار العلاقات مع القوى الأوروبية أثناء مفاوضاته، وصراعه السياسي مع الفرنسيين قبل دخول الأزمة بينهما مرحلة اللاعودة. كيف سقط رفاقه شهداء في أثناء المعارك وكيف ارتكبوا المجازر أيضاً. يحاول الروائي أن ينظر من بعيد وإن كان لا يخفي تعاطفه الشديد مع هذا الأمير الذي شردته نزاهته، وخيبات الأرض، والحلفاء، والخصوم.

يأتي القس الفرنسي المونسنيور ديبوش ليفخخ فكرة الاستعماري الشرير بالمطلق، فرجل الكنيسة البسيط والطيب قصد الأمير في خدمة إطلاق أسير لديه، وبسبب إجابة الأمير لهذا الطلب ينذر القس بقية حياته لإطلاق الأمير من منفاه الفرنسي ولإنقاذ شرف فرنسا من تهمة عدم الإيفاء بالعهود التي تقطعها. يتحاور الاثنان مطولاً، القس المسيحي الكاثوليكي والأمير المسلم التقي، حول الكثير من القضايا، ومن دون الوقوع في فخ التعصب الديني تنفتح الأسئلة في المنطقة الصعبة، من غير أن يقع أي منهما في استقطاب بدائي يلغي شغفه بمعرفة الآخر حتى النهاية.

في هذا العمل يتخلى واسيني الأعرج الى حد بعيد عن بنائه الشعري للرواية كما تعوّد في بقية تجاربه. لا يفرط في استخدام اللغة الشعرية بل يوزعها بخفة لا تُلحَظ في أنحاء العمل الذي تصطاد أحداثه القارئ وتجعله يُمرّ التراكيب الشعرية القليلة في البناء اللغوي للرواية من دون انتباه. ميزة هذه الطريقة أنها تُمرّ الرواية من مناطق صعبة يضيق فيها الحدث التاريخي ولا يمكن سوى الاستناد الى لغة شعرية مميزة تستطيع أن تُفلت بالروائي من ضيق المكشوف الذي يُعتمد عليه في هذا التاريخ الصامت.

تستطيع تجربة واسيني الأعرج هذه أن تقول إن مشكلة التاريخ تَمثل في علاقته بالرواية من زاوية انه يخرّب المناطق المفتوحة للتخيل ويلجمها في إطار الصدقية التاريخية التي لا تمنح الفرص أمام إمكان اختبار مسكوتاته إلا في حدود ضيقة. يكون على العمل الروائي إذاً أن يفتح منافذ صغيرة ليتسرب منها نحو إعادة بناء الحدث التاريخي ضمن المعطيات الرسمية، مع منح ألوان للمناطق المعتمة فيه، وتركيب حياة أكثر اكتمالا من العناوين العريضة. أي انه يجب إنقاذ الرواية من تجهم المروية التاريخية عبر منحها صيغة أكثر حرارة لما تريد اقتناصه من هذا الحدث التاريخي. وعندما يفعل الروائي ذلك فإنه يضع تجربته أمام اختبار أساسي، وهو بناء رواية غير مناهضة للصدقية التاريخية ولا تقع أيضاً في صرامتها.

هذه الرواية "لا تقول التاريخ لأنه ليس هاجسها؛ ولا تتقصّى الحوادث والوقائع لاختبارها"، على ما يقول الناشر. إنها عمل يتعرض لهذا التاريخ بخفة لكي يسرّب مقولات تفضح الحياة الصعبة، وتقرّح الحروب، ولا منطقها، والحاجات البسيطة للبشر العظماء الذين وقعوا فجأة أمام اختبارات قاسية لم يكونوا يرغبون بها. إنها رواية تُنصف ذلك الأمير الشريد وتقول كلمة طيبة في حقه. وجدير بالقول أخيرا إن الروائي والأستاذ الجامعي واسيني الأعرج تنازل عن حقوق هذا العمل والعمل الذي سبقه لجمعيات الأطفال المرضى بالسرطان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خطوة جديدة نحو إكسير الحياة؟ باحثون صينيون يكشفون عن علاج يط


.. ماذا تعني سيطرة الجيش الإسرائيلي على الجانب الفلسطيني من معب




.. حفل ميت غالا 2024.. إليكم أغرب الإطلالات على السجادة الحمراء


.. بعد إعلان حماس.. هل تنجح الضغوط في جعل حكومة نتنياهو توافق ع




.. حزب الله – إسرائيل.. جبهة مشتعلة وتطورات تصعيدية| #الظهيرة