الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكتابة والاحتيال

حمزة الحسن

2003 / 1 / 30
الادب والفن



        خاص: الحوار المتمدن

   سجن الفرزدق يوما و حين انتهت فترة حكمه لم يتقدم احد لكفالته فظل في الحبس حتى قال له الحرس يوما ( جهز نفسك للخروج، فلقد جاء كفيلك). وعند باب السجن سأل الفرزدق الحراس( من هو كفيلي؟) فقيل له فلان الفلاني، فصرخ الفرزدق غاضبا( أعيدوني، والله لا أخرج بشفاعة دعي!).

  انها مهمة شاقة حقا بالنسبة لشاعر كبير كالفرزدق أن يخرج بشفاعة دعي ولو من السجن. ولكن هل هذه الظاهرة، ظاهرة الكتابة والاحتيال، جديدة في تاريخ الادب، ام ان لها جذورا قديمة؟.
 ومن حسن الحظ ان النصب في الادب عمره قصير وليس كما في السياسة حيث يكون طويلا الى حد ما.
 العلاقة وثيقة بين الانتحال وبين الاحتيال والفارق هو حد رقيق لا يرى. الانتحال، حسب عبد الفتاح كليطو في كتابه ( الكتابة والتناسخ)، مثله مثل كل تقليد ومحاكاة في حاجة الى نموذج يكون تابعا له، لكنه يخفي هذه التبعية، ويقدم نفسه على انه النموذج.

 ويذكر طه حسين في كتابه ( من تاريخ الادب) اسمين مشهورين بسرقة وبنحل الشعر هما خلف الاحمر وحماد الراوية، وحسب طه حسين( كان حماد الراوية زعيم اهل الكوفة في الرواية والحفظ، وكان خلف الاحمر زعيم اهل البصرة في الرواية والحفظ.) وكانا خبيرين في الانتحال لدرجة ان ان خلف اعترف للاصمعي بأنه وضع اكثر من قصيدة، وربما تكون لامية الشنفري ولامية تأبط شرا من وضعه وقد نسبهما لهذين الشاعرين.

 ولكل عصر خلفه وحماده. كيف تنشأ هذه الظاهرة؟.
 بما ان الكتابة هي حالة كشف وبحث عن الحقيقة، فإن الانتحال والادعاء والنصب يشكل حالة نقيضة لها تماما، ولكن هذه الظاهرة تزدهر في مناخات العواصف السياسية( حالتنا اليوم) وحالات الغموض والترقب وانتظار تحولات وتشوش الاسماء والوجوه وكثرة عدد الداخلين الى حقل الكتابة من خارجه، بل من نماذج تشكل الكتابة معها خطا متناقضا، وتزدهر هذه الظاهرة في مناخ غياب المرجعيات وسهولة النشر، والتباس الاوضاع وتشابه البقر.

 ومن المؤكد حسب كل مدارس علم النفس، ان الانتحال هو نوع من هوس الكذب، وهوس الكذب تعويض عن عقدة الشعور بالتفاهة والضآلة وعقدة الشعور بالدونية، وبما ان المنتحل واللص والدعي ليس عنده من المواهب الحقيقية لكي يقدمها للناس، فهو يلجأ الى تقنية معروفة لأطباء النفس وللمطلعين على هذا الشأن وهي تقنية الانتحال والادعاء والمفاخرة والمباهاة وهي آلية للتعويض عن شعور عميق بالتفاهة الذاتية خفي.

 والانتحال لا يعني فقط سرقة قصيدة أو نصوص ادبية اخرى، بل ان الانتحال يمتد ليشمل سلسلة طويلة ولا نهاية لها من الانتحالات وابرزها كما يمارسها  أكثر من( خلف!) عراقي هذه الايام وبمهارة وشطارة وسخرية ضاحكا من الجميع، انتحال مواقف الاخرين ونسبتها له. فمثلا ان احد هؤلاء لا يقول انني اتصلت بشاعر عراقي معروف وبكيت معه على فقدان الشاعر الفلاني، بل يقول ان هذا الشاعر هو الذي اتصل بي وبكى على الهاتف..!
وان صاحب دار النشر هو الذي اتصل بي!
 وان رئيس تحرير صحيفة كذا هو الذي يتصل بي دائما ويطلب المشورة!
 وان المرحوم الشاعر عبد الوهاب البياتي قبل ان يموت أوصاني!
 وان الشاعر سعدي يوسف لم يكن يجلس في عمان إلا بحضوري!

 هو لا يتصل بأحد. ولا يحب أن يجلس مع احد. الجميع يبحث عنه. وهذه التقنية تتضمن رسائل سرية مبطنة  للاخرين أو القراء عن اهمية هذا الشخص المزعومة.وكما يرسم صورة وردية لنفسه، يرسم صورة شيطانية للاخر، النقيض، لكي تكتمل لعبة التعويض عن عقدة الشعور بالتفاهة والدونية. اي ان " شيطنة" الاخر، تعني رسم  واجهة جميلة للنفس. وهذه ايضا من الرسائل المضمرة في خطاب الانتحال المليء برسائل مشفرة وسرية سنقوم يوما بشرحها علنا  مع التدليل على نماذجها المنتحلة للدرس والعبرة.
 
وهذه التقنية/ مثلا/ لا تهدف الى  الاشادة بموقف هذا الشاعر الباكي، ولا بمناقب الشاعر الميت، بل هي حيلة أو نوع من انتحال مواقف وارسال رسائل الى الأخرين الذين يجهلون اللعبة على ان هذا "الكويتب" هو:
1 ـ شخص معروف 2 يتصل به الشعراء 3 بل ويبكون عنده ـ 4 وحتى الشعراء الموتى هم اصدقاء له ـ وهذه الرسالة عادة ما تكون مضمرة ومدفونة في نص هذا الخطاب الذي أبعد مايكون عن المراثي، بل هو نوع من النصب والاحتيال المثير للسخرية.

  يعرف عالم النفس الفرنسي  بيير داكو هوس الكذب على انه:
 ( هوس الكذب يكشف عن فقدان التوازن النفسي ايا كان ذكاء الفرد، ويبدو ابسط هوس الكذب  في الزهو والشعور بالدونية. فالفرد يتبجح بمعارفه الخياليين أو غير الخياليين، وبأعماله الباهرة، ويلمح بمهارة الى شيء معين" يرفع" مقامه في أعين الاخرين، ويحول لمصلحته ظروفا تعرضه الى الذل. ونحن نفهم  على أحسن مايرام  ان الفرد يفعل كل شيء في حالة الشعور بالدونية ليعطي نفسه شعورا بالاهمية، وتلك ظاهرة التعويض. وقد يكون هوس الكذب مرضيا حد الشراسة وعندئذ تلك هي التشهيرات والافتراءات التي تثيرها الغيرة والضغينة والحقد).

   لكن هل يمكن ان يتحول "خلف" هذه الايام الى حامل قلم ويعامل، سهوا أو خطأ، على انه كاتب لو كانت هناك مرجعيات سياسية وثقافية وادبية ونقدية واضحة وجادة؟ ولماذا لا توجد هذه الظاهرة بهذه الغزارة في مصر مثلا أو المغرب أو لبنان؟
 طبعا لأن المرجعيات واضحة وهناك هامش ضيق أو حيز ضئيل لمثل هذه النماذج.
هل يجرؤ شخص أو دعي في هذه الدول على فرض نفسه على الوسط الثقافي أو الادبي بقوة وهو  يهدد بحرق الكون أو بحرب لا أول لها ولا آخر ما لم يتم الاعتراف به؟!
هذه ظاهرة عراقية استثنائية. وهي من أمراض هذه الحقبة الغريبة.
 
 يذكر الشاعر الشيلي بابلو نيرودا في سيرته الذاتية ( أشهد اني عشت) انهم كانوا في القطار المنطلق من باريس الى مدريد خلال الحرب الاهلية الاسبانية للقتال ضد نظام فرانكو، وكان القطار يضم خيرة كتاب العالم، وفي اثناء الرحلة قام "شويعر"  بألقاء قصيدة تافهة وطويلة ازعجت الروائي الفرنسي الشهير اندريه مالرو وازعجت الجميع في تلك اللحظات  النفسية الحرجة، فقام مالرو الى هذا الدعي صارخا في وجهه:
 ـ تسكت أو أضع في فمك...خ..!

 إن أكثر من خلف يجول المنافي هذه الايام  في هذه الضجة والتداخل والازدحام، ولا أدري، كما تساءل احد الكتاب يوما عن حق، لماذا اختار هؤلاء مهنة الكتابة مع ان الحياة تعج بمهن كثيرة كالسياقة والحدادة والنجارة والمطاعم وتنظيف الموائد.. ؟!

 لكن هل يستطيع هؤلاء حقا التوقف عن هذا الهوس؟ حسب  بيير داكو عالم النفس الشهير، ليس ذلك سهلا ابدا. ان المصاب بهوس الكذب يعرف انه يكذب ويعرف اكثر ان احدا لن يصدقه، بل يعرف انه يتعرض بسبب ذلك للسخرية، لكن المسألة لم تعد بيده وانه غير قادر على التوقف وانه يعيد انتاج  مشاكله من جديد. ان السيادة على الذات غائبة، وان البنية النفسية مصابة بالكامل، وان مساحة الوضوح معدومة، وان هناك فكرة ثابتة واحدة تحتل القشرة الدماغية وتنسف كل شعور أو رأي أو عمل غيرها، وان هذه الفكرة التسلطية تنغص عليه عيشه وتملأ حياته بالكوابيس رغم الاستعراض العلني الزائف بالقوة والقدرة، وان آلية التعويض عن مشاعر نقص هي المسيطرة.

 من المستحيل على من يعاني من هوس الكذب ان  يرى الاشياء ويرى نفسه بصورة صحيحة، لأن "الموشور"  النفسي وهو مقياس الرؤية مصاب بالعطب. وخطورة هذه النماذج هو في عملها في مجالات تهم الشأن العام كالسياسة والادارة والثقافة  والمؤسسات الدينية.

 وتزدهر هذه النماذج في ظروف المنعطفات ولحظات التحول والمخاض. يقول المفكر غرامشي  عن اعراض ماقبل لحظات التحول بأنها كثيرة وخطيرة ولا نهائية  وتظهر سلسلة من الاعراض المرضية والتشوهات كثيرة، لأنه لا القديم يموت ولا الجديد يولد.

 و"خلف" هو احد افرازات ماقبل التحول !
ـــ 

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خيارات صباح العربية للمشاهدة هذا الأسبوع في السينما والمنصات


.. الفنان ناصر نايف يتحدث عن جديده مع الملحن ياسر بوعلي وموعد ط




.. -أنا محظوظ-.. الفنان ناصر نايف يتحدث عن علاقته بالملحن ياسر


.. من عالم الشهرة إلى عالم الإنتاج السينمائي.. صباح العربية يلت




.. أغنية -سألوني الناس- بصوت الفنان الشاب ناصر نايف