الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


توقف الذاكرة ..

قاسم حسن محاجنة
مترجم ومدرب شخصي ، كاتب وشاعر أحيانا

2016 / 5 / 30
الادب والفن


توقف الذاكرة ..
تنويه: هاتان قصتان حقيقيتان ،عرفتُ شخصياتهما حق المعرفة ..
القصة الأولى .
أبو جميل ، أو بلقبه الأكثر شهرة ، أبو الشوارب ،وذلك لأنه كان يحمل على وجهه الصغير شاربين كبيرين معقوفين الى الأعلى، مُنذ أن نبت له شعر فوق شفته العليا ، وكان يعتز بهما أيما إعتزاز .. وكان يمسدهما طيلة الوقت .. فأصبح الشاربان علامته المميزة في قريته ..
وربطت عائلتنا به علاقة مصاهرة، فهو متزوج من عمتي حليمة .. كان يعمل جمالّا ،ينقل على ظهور جمليه الأحمال مقابل أجر معلوم .
كان يُحب التأنق ويعتني بمظهره كثيراً ، وكان لا يخرج من البيت إلا بكامل عدته وعتاده ، ومن بين عتاده الشهير ،كانت علبة الدخان العربي وموسى حادة مطوية ..
وابو جميل عُمِرّ طويلا ،حتى أنه جاوز التسعين من العمر ، ولم يُقعده الكبر ، فقد حافظ على صحته ورشاقته ،إذ كان "دبّيكاً"* مشهورا ، ولم يمر عرس إلّا وكان على رأس الدبكة التي يُصاحبها المزمار أو الشبابة .
في نهايات عُمره ،علمنا بأنه قد فقد ذاكرته ، فذهبتُ معية أخوتي الكبار لزيارته والإطمئنان عليه ، فقد توفيت عمتي قبله ، مما أدى الى التخفيف من زيارتنا لبيته ..
-هل تعرف من هؤلاء؟ خاطبه إبنه البكر جميل ..
-نعم إنهم أبناء حسن !! أجاب بكل ثقة .
وحسن هذا هو أبي ، الذي توفي ولمّا يبلغ السبعين من عُمره ، وكان قد مضى على وفاته ، وقت زيارتنا لأبي جميل ، أكثر من عقدين من الزمان ..
تبادلنا أطراف الحديث مع جميل وأبيه ، وفجأة :
-لماذا لم يأت أبوكم معكم .. أريد أن أراه ، فمنذ أن هُجّرنا من البلد لم يدخل بيتنا هذا ولا مرة ..!!
وكان قد مرّ على التهجير ستة عقود كاملة ...
نسي أبو جميل كل شيء، إلّا التهجير ..
خُيّل إليّ حينها ،بأن ذاكرته قد توقفت هناك ..
القصة الثانية :
أبو أحمد ، إبن بلدنا الأصلية ، وهي قرية الكفرين ، من قُرى قضاء حيفا ،أيام الإنتداب البريطاني ... وأهل البلد الواحد "يحنون" على بعضهم في "الغُربة " ، ومع تهجير قريتنا ، زالت الحمائل وأختفت الصراعات ما بينها ، وأصبح أهل القرية "عائلة" واحدة ..
وأبو أحمد هذا ، لم يُرزق بأحمد ، وإنما هو إسم حمله ،على أمل أن يأتي أحمد .. لكن السنين تمر .. وشاخ وشاخت زوجته.. فقررت أن تزوجه وتختار له الزوجة بطريقتها ..
-لماذا بعد كل هذه السنين ،سعيتِ في تزويج أبي أحمد ؟ سألتها ..
-أن يرثه أولاده خيرا من أن يرثه أبناء أخوته ..!! أجابتني إجابة "مُفحمة " ..
عمل أبو أحمد طيلة حياته في التهريب ، كان يعبر الحدود خلسة إلى الطرف الأخر "حي العرب"* ،كما كان يقول كبار السن، يُهّرب تارة اقمشة ، وتارة مواشي وكل شيء قابل للتهريب ، من هناك، ويعود بها الى داخل القرية العربية الواقعة في اسرائيل ، بعد النكبة ..
وكانت مهنة التهريب من أشد المهن خطراً ، فمن يُلقى عليه القبض يُسجن فترات طويلة والذي يحاول الهرب ،يُردى قتيلا برصاص حرس الحدود ..
وتمر السنون ، وتختفي الحدود ، ويتزوج أبو أحمد بسيدة من خلف الحدود ،ليُرزق بولد أسماه محمدا.
وذات يوم صادفته في الطريق ، وبعد التحية والسلام ،

-وين عباب الله ؟ أي الى اين أنت ذاهب ؟ سألتُه ..
-إلى البيت ... أجابني بكل ثقة ..
لكنه كان يسير بالإتجاه المعاكس لوجهة بيته ، وكان قد ابتعد كثير عن بيته...
-لكن الطريق ليست من هنا ...!! قلتُ مستغرباَ

-بلى فالطريق الى الكفرين من هنا .. سأسير على الأقدام وسأصل قبل غروب الشمس ..
استوقفتُ سيارة وأوصلته الى بيته ..فشكرتني زوجتاه ..
-يُغافلنا ويخرج من البيت ، للذهاب الى البلد التي هُجّر منها .. يقول الأطباء بأنه يعاني من الألتسهايمر ..فهو لا يتذكر أسماء بناته ، لكنه يتذكر البلد فقط .. وحياته في البلد ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - العزيز قاسم حسن محاجنة المحترم
عبد الرضا حمد جاسم ( 2016 / 5 / 30 - 15:26 )
تحية و اعتزاز
هذا الذي لا يمكن انتزاعه ابداً مهما تبدلت الايام و تقلبت الاحوال و تغيرت الظروف
هناك في اعماق التلافيف و ربما تدافع عن نفسها بأن تتحوصل لكن بدون جفاف...تبقى حية ابداً مما دفعت الى ان تؤثر في الجينات فانتقل بعضها عند بعضهم الى الثاني و الثالث و حتى الرابع الذي لم يُفطم بعد.
هنا السر و هنا الحل او من هنا الحل ينطلق
اكرر الاعتزاز و التحية


2 - اهلا يا صديقي
قاسم حسن محاجنة ( 2016 / 5 / 31 - 07:08 )
تحية حارة
وشكرا على التعقيب
في الحقيقة فهؤلاء وغيرهم عاشوا على أمل العودة ..
وحين دنت منيتهم ، حققوا عودتهم عبر إلغاء الذاكرة التي تكونت ما بعد التهجير .
هذا رأيي على الأقل


3 - هذه هي
د.قاسم الجلبي ( 2016 / 5 / 31 - 12:17 )
الاخ قاسم , هذه هي ضريبه العمر الطويل, الخرف وا لازهايمر والنسيان, انها ارذل العمرين , ان يموت المرء مبكرا فهي خساره وفي التسعين فهي تعاسه , , ولكن الاوسط من العمر هي الحل, التغذيه الصحيه وممارسه الرياضه وتحفيز الذاكره قد تساعدنا عل الموت الرحيم , ولكن ليس في اليد حيله كما يقال , , فدعنا عن الموت , فهو ات بدون ريب, ولنعش ليومنا ودع الغد كما سيكون , مع التقدير


4 - العزيز د. قاسم الجلبي المحترم
قاسم حسن محاجنة ( 2016 / 5 / 31 - 15:54 )
تحياتي عزيزي المحترم
شكرا على الإضافة. ونأمل ان يعيش الجميع عمرهم كله بصحة وسلامة
بالغ مودتي

اخر الافلام

.. الفنان أيمن عبد السلام ضيف صباح العربية


.. موسيقى ورقص داخل حرم المسجد في عقد قران ابنة مفيدة شيحة يثير




.. على طريقته الخاصة.. الفنان الفرنسي -زاربو- يحكي قصصا عن لبنا


.. الموسيقي التونسي سليم عبيدة: -قضايا انسانية ،فكرة مشروعي الج




.. الفنان بانكسي يفاجىء جمهور فرقة موسيقية بإلقاء قارب مطاطي عل