الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غِرّيدٌ أَنبَتَ صداهُ .. ومضى

يحيى علوان

2016 / 6 / 1
الادب والفن


نجوى مع صبري
في أربعينيته


غِرّيـدٌ أَنبَتَ صَداهُ .. ومضى

! .. ثَكلانٌ أنا
أََنتَ تَعرِفُ ، يا صاحبي ، مثلما يعرف غيركَ ، أَنّي ما كتبتُ يوماً في رثاءِ أحد ،
رُغمَ أَنّ سُنَّةَ الحياة شاءَتْ وستظلُّ تشيءُ بما لا قُدرةَ لي على رَدّه ! فقد غَيَّبَت عني
عدداً من الصحبِ ، حَزنتُ لِفَقدِهم .. لكن لم يتهيأ لي أَن أرثيهم . فبقيتُ
ألوكُ الحزنَ ، حتى أحتَبَسَ صَديدُ الألمِ في صدري ..! لذلك فأنَّ ما سأقولُه ليس رثاءً ،
بل نجوى ، فأنتَ مَسافِرٌ/ قادمٌ من الريحِ ، من طلعِ النخيلِ ومن حقولِ النِعناعِ ..

فأذَنْ لي ، أَنْ أُخرِجَكَ منّي ، كي أراكَ ، وإغفِرْ لي عجزَ حروفي ، لأنَّ فيكَ من سِِحرِ
العِبارةِ ما يُرجِّفُ زَغبَ القَطَا ويُرخي الشدَّ في وجه العَبُوس ..
سأُحاولُ ما إستطعتُ ، خِلافاً لطقوسِ التأبينِ المعهودة ، التي لا أُجيدُها ، أَنْ أُبقيكَ خارجَ
دائرة فعل الماضي الناقص .. فأنتَ منّي ، ولا يليقُ بكَ الموتُ ، كما لايليقُ بفََرَاشَة !

إسمحوا لي بالتعبيرِ عن حَيرةٍ عاطفيّةٍ وحزنٍ مُوجعٍ ، فليس سهلاً عليَّ ، أنا الضالُّ عن
"القبيلةِ"، صُنوَ بن العبد ! أَنْ أجِدَ نفسي دُفعَةً واحدةً ناقصاً من صبري ، دونَ أَنْ
أَضطَرِبَ وتغرَورقَ اللغةُ بدمعها السِرّي . فقد أحرَقَ الحزنُ دمعي ، ولستُ أدري
كيف يتَخَفّى الدمعُ الآنَ تحتَ سطحِ الكلمات !
...................................
سأقولُ لكَ ، يا صديقي ، كلاماً غيرَ مُقَفّىً .. ومن دونِ دَمعةٍ ، خوفاً على الكلماتِ من البَلَلِ !
فأنتَ مِمَّنْ كَبَسَ القمرَ مُتَلَبِّساً ، يتَلَصَّصُ على أسرارِ السطوحِ في ليالي الصيفِ ،
ومَنْ إسترَقَ لَقطَةً للموجَةِ تلحَسُ أجسادَ الصَبايا ،
مَنْ نَحَتَ بمفردته الرشيقة مُوَيجاتِ شطِّ العرب ،
وإستمطَرَ الغيمَ أريجاً وعِطراً ،
إمتلأتَ بالشِعرِ ، غطّاكَ ، حتى عافَتْ ريشتُكَ السردَ ! لمْ نسألكَ كيفَ ولماذا ؟
لأنَّ الزهرةَ لاتُسأَلُ لماذا تُزهرين ..! فهي ، ببساطةٍ ، لاتفعلُ شيئاً آخرَ سوى أَنْ تُزهر!!
لكن يحِقُّ لنا أن نَسألكَ " إلى مَنْ سلَّمتَ المجذاف ؟!"[إستعارة من صلاةٍ كان البحارةُ
الفينيقيون يتلونهاعندما تكون السفينة جانحة نحوالغَرَق ، مُردّدينَ
]" يا أمَّ قرطاج - المقصود مدينة صور- هائنذا أُعيدُ لكِ مجذافي "

ها هوَ ذا يومٌٌ مُبلَّلٌ بالرذاذِ ، إستَحلَبتَ غيمَهُ في بعضٍ من نُصوصِكَ ،
فجاءَ مُتأَخراً ، ولَمّا عَرِفَ أَنّكَ رَحَلتَ ، بَكى ..

شعورٌ غريبٌ بالوحدةِ ، لَمْ أَعهده من قبلُ ..!
لامَستُ دقّات قلبي ، فوجدتكَ هادئاً كرضيعٍ نامَ على صدرِ أُمّه ..
تَنهشُني وَحشَةُ غيابِكَ ، أتيتُ إليكَ حيثُ مُستقَرُّكَ الأخير في شارعِ الشُوْسَيْهْ
هادئاً ، مُسَجَّىً أَمامي ، لا رأيَ لكَ في ما حولَكَ من صريرِ عجلاتِ الترام واي ،
وأصواتِ سيّاراتٍ مُسرِعة ، وزَحمَةِ أقدامٍ على الرصيفِ ..
المقبَرَةُ مكانٌ يَعُجُّ صمتاً أَخضَرَ تُخايلُه صُفرَةُ وُرَيقاتٍ وبراعِمَ تَنوَلِدُ تَوَّاً
لاشيءَ يجرحُ السَكينَةَ هنا ، سوى زَقزَقةِ طيورِ في أعالي الشَجَرْ ، كلُّ شيءٍ
.. هنا ينزِفُ وَحدَةً وسَكينةً ، فيما المساءُ البِكرُ يزحفُ بصمتٍ
أرضُ المقبرة حافيةٌ من أحذية زُوارٍ لمْ يحضروا .. ربما أَخَّرَهم الرذاذ..!
حولنا جهاتٌ تُعَرِّفُ نفسها .. يميناً بيتُ العم بريشت في الطابقِ الأوَّلِ ،
حيثُ كان يقفُ عندَ النافِذةِ ، مُطِلاًّ على المقبرة ،التي سيرقُدُ،هو نفسه ،
فيها لاحقاً، ينفثُ دخانَ سيكاره ، يتأمَّلُ قَبرَ هيغل هناك ،
جنوباً ... حيثُ يرقد عوني كرّومي ،
يساراً ... أََشجارُ سُمّاقٍ ،
شمالاً ، حيثُ أقفُ قبالتكَ ، "ظهري إلى الحائط !".. سياجٌ يحمي سُكّانَ
المقبرةِ من عَبَثِ شارعٍ لا يُقيمُ وزناً لهَدأةِ المكان..!
السماءُ عَكِرَةُ المزاج ، الريحُ تََهمُسُ للشَجَر ،
جئتُكَ بحسرَتي ، في هذه الساعة ..
خرجتُ من ذاتي إليك بحنينٍ يشبه الكلمات ، فأراكَ خرَجتَ من ذاتِكَ إليَّ
بكلمات تشبه الحَجَلَ .. طيفاً يستضيفُ طيفاً ،
سأحكي لكَ ، كي نُكمِلَ ما إنقطعَ بيننا من حديثٍ .. ولأنَّ الفراغَ المحيطَ بنا
يحتاجُ إلى مَنْ يُسلّيه .. فليسَ معنا مَنْ يُهدِّدُ السَكينةَ حولنا بخُطبَةٍ "عصماءَ"!
أو ثرثرةٍ تُقرِفُ النفوس ،
وحيدانِ ، أنتَ وأنا ، لا ثالثَ بيننا يؤنِّبني بأنَّ الرثاءَ مديحٌ جاءَ مُتأخراً
عن موعده حياةً كاملَةً ..
لاحاجةَ بكَ لأيِّ قولٍ أو إعترافٍ ، يا صاحبي ، جئتُ إليكَ أَتعلَّمُ من صَبرِكَ
وهُدوئِكَ السَخِيِّ، وانتَ مُسجّىً ها هنا أمامي ، لايُزعِجُكَ غيابٌ ولا حضور
جئتُ أَتعلَّمُ الكَسَلَ ، بمعنى إفراغُ القلبِ مما يزيدُ عن حاجته للخَفَقانِ ،
وأَتَعلَّمُ كيفَ أُقلِعُ عن التفكيرِ بالألَمِ ، علَّ إحساسي به ينحسِر .. أُبَجِّلُ فيكَ الهدوءَ
أمامَ عَدَمٍ لا يُبدي رأياً فيكَ ، ولا تُبدي رأياً فيه ... هو اللاشيء قد إكتَمَلَ !

" فضيحتُكَ"هي اللاسِر، منذُ سبَقَ قلبَكَ لِسانُك !
سألتُكَ مرَّةً في ما يُشبهُ الأستجوابَ ، مُعابِثاً .." ما سِرُّ تأرجُحِكَ ؟ !"
قُلتَ لي حينها ، ونحن في الشُرفَة بدارِكَ نتمَطّقُ بِراحٍ يشبه العقيق الحُر :
" أًحبُّ الشيءَ ، فأهيمُ به .. ثمَّ أَنقلِبُ عليه ، كي لايستعبدَني ، لأني أعشقُ
الحريةَ فأدرَأُ عن نفسي التراكيبَ المُعلَّبَةَ ، التي إنقضَت فترةُ صلاحيتها !"
ثمَّ سألتَني، واحدةً بواحدة ! :"لماذا علاقتكَ بالكتاب الألكتروني غير وِديَّة ؟!"
قُلتُ لك :" علاقتي بالكتاب ، علاقة حِسيَّة ملموسة .. عندما يكونُ على الرف ،
يكونُ نائماً .. مُجلَّدٌ بين أقرانه من مُجلَّدات! لكنه يستيقظُ لمّا تتناوله ، تفتحُه ،
فيستسلمُ لكَ ويبدأُ الحوار معكَ. وفي كلِّ قراءةٍ يتمظهرُ لك بشكلٍ آخرَ عمّا قرأته
سابقاً ، كنهرِ هيراقليطيس ، الذي قال بأنَّ رَجُلَ الأمس هو غيره رَجُلُ اليوم ،
والذي لن يكون رجلَ الغد .. أي أننا نتبدّلُ بأستمرار ونعيدُ إبتكارَ النص ،
الذي هو أيضاً نهرُ هيراقليطيس المُتَبدِّل .." صَفَقتَ يداً بأخرى، وقُلتَ حينها فَرِحاً ،
كلانا نجحَ في الإمتحان !! فقَهقهنا عالياً ، كان الليلُ قد هَبَطَ على المعلوم والمجهولِ ،
فغدا المكانُ أعمى ..
إسمحْ لي يا صديقي ، فبي حاجةٌ أَنْ أصرخَ حُرقَةً في هذا المكان ، المُزدان
بالزهورِ والخُضرةِ الناصعةِ :
مَنْ حَجَزَ لصبري بطاقةً في رِحلَةٍ إلى المُطلقِ بلا عودةٍ ، فأشعلَ النارَ في صدورنا ؟
مَنْ شَطَبَ بدايةَ الجُملةِ ؟
ومَنْ وضعَ النقطةَ في نهايةِ السطرِ السابقِ ؟!
فشاعرُنا لَمْ ينتهِ ، بعدُ ، من نَصِّه الأجمل!!
.............................
أدري أنّكَ لمْ تتركْ وصيَّةً ، إلاّ النَهيَ عن الإفراطِ في التأويلِ والأمل..
وأعرِفُ جيداً أَنَّكَ تَقصُدُ أولئكَ ، الذينَ لا يَعرفونَ المَلَلَ ، بلْ يُفرِطونَ في التأويلِ
ففي وسعِهم أنْ يقولوا لعاشقٍ أَنَّ القُبلَةَ ليستْ أكثرَ من تبادُلِ أوبئةٍ ،
وفي وُسعِهمْ أنْ يحاكموكَ على إستعارةٍ شِعريةٍ أو مَجازٍ وخيالٍ مُجنَّحٍ ...
وإنْ تعثَّرَ لديهم جوابٌ ، حتى بَوحََاً ، يُرحِّلونَه إلى "الظروفٍ الموضوعية .. كذا"
لأنهم لا يجرأون على الصراحة ، حتى مع أنفسِهم !

أما الأملُ ، فنعرِفُ أنَّه إستُهلِكَ من كَثرَةِ ما إِستدعيناه ، فغدونا لا نُحبُّه ، مثلما تَنسَدُّ شهيَّتُنا
من عشاءٍ مَكرورٍ ... لكننا لانملِكُ ، يا صاحبي ، إلاّ العودةَ إلى العشاءِ ذاته ، إلى براغيثِ
الأملِ فليس لنا بديلٌ آخر إلاّ القنوط .. وهو ما ننهى أَنفُسَنا عنه!

فتطابق الصورةِ مع الواقع ، ليس أكثرَ من خبَرٍ يدفعُ الخيالَ إلى "الحيادِ "!
أليسَ من الأجدى أنْ تَكذِبَ صورةُ الشيءِ على الشيء ، كي نرى ما بعدَ الشيء ،
في ضوءِ الرؤيا ، فقد يُجنّبُنا العدَمَ ؟
.............................
سأوقظكَ من مكانِكَ هذا وأقولُ لكَ ، عُدْ إلى طفولتكَ الأُولى ،
لنرَ ماذا ستفعلُ بها ؟ وكيفَ ستختار؟
..........................
هو مُجرَّدُ فضولٍ !!
هل كُنتَ ستختارُ أنْ تكونَ حاوياً / ساحراً للكلماتِ ، تستدرجهاِ ، تُغريها
لتَتَفَتَّقَ عن جديدٍ لاتعرفه المعاجم ، فَتُبَعثِرَ طمأنينةَ المُفرَدةِ إلى معناها ؟
ثلاثةُ أحرُفٍ خاملاتٍ تَتسِعُ لأرضٍ كانت تمتدُّ من زاخو حتى البصرةَ
!! و"أُم قصر" السليب
وفي لَعِبِكَ مع الحروفِ والألفاظِ ، ستُسمِّي البئرَ جَرَّةً لحِفظِ الصوتِ من عَبَثِ الريحِ
والعواصف الترابية ، وتُسمّي السماءَ بحراً مُعلَّقاً فوقَ الغيم ... صياغةٌ تَتناسبُ
معَ توقِ أرضِ الرافدين ، في لاوعيها التأريخي ، لتظلَّ متشاطئةً على فضاءٍ مفتوحٍ ،
بكلَِ أسراره ... رئةً تَتنفَّسُ بها ما تَتبادله مع العوالم الأخرى ..

أتدري ، يا أبا أصيل ، أنّكَ أودعتني ثقلاً لا أقوى عليه لمّا قُلتَ لي في آخر مكالمَةٍ
حيّاوي ، دبُّرلنه فد كََعده ويَّه قيس الزبيدي ، عندي إحساس راح تكون الأخيرة.. [
عندي بُطُلْ عَرَك لبناني ، خلِّينه نقضي عليه سِوِيَّه ] قُلتُ لكَ نُرتّبها بعد عودتي
من لايبزك ، لكن شريطَةَ أن تكُفَّ عن هذا الكلام ..!
.................................
كيفَ نَمَتْ لديه هذه الحاسّة ولمْ نُصدّقه ؟!
وأَنّى له أَنْ يُثبِتَ الحدسَ بالبرهان ، وهذا الأخيرُ مُتعطِّشٌ لِنهبِ الحدسِ ،
تَعَطُّشَ قرصانٍ إلى سفينةٍ ضالَّةٍ ..؟ !
أَتُراهُ سافَرَ ليُبرهنَ لنا أَنَّ الحدسَ لديه لايُخطيء ؟
أَم أنه حملَ في نفسه شيئاً من طبائعِ الغجَرِ؟
فالغجريُّ دائماً على سَفَرٍ مُرتَجَل .. وفي كلِّ سفَرٍ حكايةٌ ، لاتُروى إلاّ بعدَ
أنْ تتجاوزَ سِنَّ الخجَلِ من الذكرى ، أو لَمّا يتشرّدُ المكانُ من أهله..!

أما كانََ بأمكانِكَ أنْ تُعلمنا السخريةَ من هذا الزمن ، بثمنٍ أَقلَّ من الرحيل ؟
ولماذا أسرَعتَ ، ما دامَتْ النهايةُ فقط هي الواضحة والبدايةُ هي الغامضة ؟
.............................
قُلْ لي ، مَنْ أَنتَ يا صبري ؟!
غامِضٌ ؟
تَعجزُ عن الإجابةِ ؟
ألأنَّكَ بَصريُّ أصيلٌ ، كلما إشتدَّ وضوحُكَ ، إشتدَّ غموضُكَ المضيء، كما قال
يومها بنُ النَظّام ؟! أم لأنَّكَ جئتَ من هناك ، من طُفولةِ ماءٍ ، شاخَ على
مواويلِ البردي وبساتينِ النخيل ، حيثُ شيَّدَ شاعرٌ مجهولٌ أوَّلَ بيتٍ للشِعرِ
ُأوي الكلمات ؟!

نسيتَ نَفسَكَ في البحثِ عن الوطن ، وطنٍ مُعافىًً ، لكنَّ الوطنَ وهَمّازيهِ ،
نَسَوْكَ في بحثِكَ عن نفسِك . الفارقُ بينكما ، هو الفارقُ بين ظِلِّ نخلةٍ
مُغَمَّسةٍ بالدم وبين ظِلِّها في الماء..
تحاشيتَ النظَرَ إلى الماضي ، كي لا تُعطي " أصحابَ الإناقة الوطنية !"
فرصةَ سؤالٍ غامِزٍ سيء:
"أين كنتَ كل هذه السنين ؟!"
فالسوءُ، كما تدري، أَبعدُ ظَنّاً من الشكِّ.. يَزحَفُ مثلَ سَرابٍ يُقلِّدُ وجه الماء..
...............................
ما عَلَينا ، يا صاحبي ، إلاّ أنْ نَخطِفَ العبارةَ من إغواء الإستعارة ، لنُعيدَها إلى
أُمّها فلا تمضي إلى ما هو أَبعَدْ


عِراقِيٌّ أنتَ وإنسانيٌّ ، حَدَّ الحماقة ، وهذا مَجدٌ لك .. إذا كان المَجدُ يعنيك!!
تُعانِقُ إمرأةً ، فتَصيرَ عشتار ،
تُقَبِّلُ طفلاً ، فيصيرَ حفيدكَ لينوكس ،
وهذا هو أيضاً مجدٌ لكَ ، إذا كانَ المجدُ يعنيك !!

أعرفُ ، يا صاحبي ، أنَّكَ طَرَقتَ المجهولَ على سِندان المَعلومِ ، حتى تطايرَ
شَرَرَاً وزَنبقاً من خيالٍ يتجاوزُ جُدرانَ المألوفِ وحُصونَه ، فغدا كرستالاً صافياً
كعينِ الديك ، مثلما يقولُ أَهلُنا !
وأَعرِفُ أَنَّ الذاكرَةَ والشِعرَ والأناشيدَ لا تُحَوِّلُ المنفى إلى وطنٍ ...
لذلكَ لَمْ يبقَ لنا سوى الإنتماءَ إلى فِكرَةِ الوطنِ وأخطائها .. حيثُ لايكونُ العِشقُ عِشقاً ،
إلاّ إذا بَلَغَ حَدَّ الخطأ !
فلنذهبْ إلى الخَطَأ جميعاً ، لأنه فاتحةُ الصَواب ..!
...............................
أرَدنا العودةَ للإسهامِ في تَرميمِ الذاكرةِ الجمعيةِ ، وبناءَ تَصَوُّرٍ أجملَ للمستقبل ،
مهما كانَ الحاضِرُ هَشَّاً ومُزرياً .. لكنكَ أسرَفتَ في الحُلُمِ ، لا الوهم ، وكمْ أَننا
في حاجةٍ إلى حالمينَ كِبار، "مَجانينَ !" في جُموحهم نحو الحريةِ والإنعتاق
أعرِفُ ، يا صاحبي ، أَنَّ الأمر ليس بهذه السهولةِ . لكن لا وظيفةَ للأحلام الكبيرةِ أصلاً ،
سوى توفير المناخِ المُلائمِ لإنسيابِ الأحلامِ الصغيرةِ .. للعاديِّ فينا !
فقد ذَهبنا إلى هناكَ، إلى "أرضِ آشورَ"، لأنَّ السيوفَ لَمْ تَتَحوَّلَ إلى محاريثَ ،
إلاّ في وصايا النبيِّين ذَهبنا لِنَنْتَزِعَ حريَّتَنا بأيدينا ، حتى لايُعيرُنا
"القديسونَ الزنادقة" فَرَحاً كاذباً لشرعَنَةِ الخطيئة
والرذيلة، مثلما يفعلون اليوم !!
تَضَرّجنا بالخيبةِ .. وحينَ تَرَجّلنا وقُلنا وداعاً أيتها الحربُ .. ما حَلَّ السلامُ ولا
إمتلأت الحقولُ قمحاً ..! فأنكسَرَتْ مَحاريثُنا في الدفاعِ عن سلامَةِ علاقةٍ أَبديَّةٍ بيننا
وبينَ أرضٍ لَمْ نُولد خارِجَها...

أَبحَرتَ في بطونِ التأريخِ ، بحثاًً عمّا يؤسِّسُ لعلاقةٍ أُخرى لكَ بالوطنِ ، فكانَتْ
" حديثُ الكمأةِ " و" هوركي ، أرض آشور" و"قيثارةُ مَديَنْ"، فتَوَصَّلتَ إلى ما كَسَرَ المألوفَ ،
وما لم تتَعوَّدْ عليه الآذانُ ، لأنه يُخالِفُ الرغبات في رؤيةِ تأريخنا بما نشتهي ..!
ما كُنّا نَحسَبُ أَنَّ الوطَنَ هَشٌّ ، يتكَسَّرُ كالفَخّار ، فَتصيرُ مُفرَدة " العودة " خُبزَنا اللغويَّ الجاف
العودةُ من مؤقتٍ إستطالَ أكثر مما يجبْ ، إلى دائمٍ مُرتَجى ... إلى لُغَتنا الأُولى .. ..
لِنَهزِمَ ثقافَةَ القُنوطِ في مواعِظِ أولئكَ القادمينَ مع الخطيئة ، الذينَ حَوَّلوا مفهومَ الحريةِ
والتضحيةِ في سبيلها ، إلى مادةٍ يوميةٍ للسُخرية ، وللإيحاء ، بلْ التصريحِ جَهاراً، بعبَثِيَّةِ
الإعتراض ورفضِ الواقعِ الضحلِ ، الذي يُزكِمُ كُلَّ الحواس ..
يُسَوِّقونَه على أنه "قدَرٌ!" لا رادَّ له ..!
لَهُم البلادُ ، التي صُنَّعَتْ لهمُ ..! ولنا وطنٌ جميلٌ حملناه في شغافِ القلب..
لهم الضغينة والنَهب ودخائلَ فاسدة ليس لها شفاء .. ولنا الحبُّ وأيدٍ بيضٍ
وجباهٍ ناصعة .. لنا وطنُ الأقليةِ الناطقة بالصدق والحق .. سنظلُّ ندافعُ عنه ،
وطنٌ مُحنىً بالدم يَزفّونَه إلى الرماد .. لكنَّنا سنظلُّ نُدافع عنه ، فنحنُ مَتراسُه الأخير..!
صحيحٌ أنّنَا لانملِكُ إنجاً مُربعاً من أيةِ أرضٍ ، ولا نَملِكُ ما يملكه "المالكون"،
لكنَّنَا نملكُ ما لايملكون !! ومع ذلكَ ، نُريدُ أَنْ نُصدِّقَ ما قاله كانط في محاضراته
عن " السِلمِ المستديم " من أنْ ليسَ للأرضِ ربٌّ إلاَّ أهلَها ! فهيَ مِلكُ مَنْ عليها ،
ولا يحِقُّ لأحَدٍ منعَ الناسَِ من التَنَقُّلِ لغرض الزيارة أوالإقامةِ فيها دونَ تمييزٍ أو مُضايقة..!
.............................
دمعَتانِ أَسفَحهما ، دمعَةٌ ، تفصِلُ بينَ يومينِ ، يتحوّلانِ إلى عَهدينِ
واحدةٌ يومَ غادرتَنا ، دونَ "إنذارٍ مُسبَقٍ !"، تجعلُ اليوم الذي يليه ،
عهداً ينزِلُ إلى الماءِ ،لا ليَغتَسِلَ ، بلْ لِيَغرَقَ ، بعدَ أَنْ إحتَبَس الماءُ في صدرِ النَبع !

وأخرى كي لايظَلَّ ما حَلُمتَ به من وطنٍ ، مُجرَّدَ خارطِةٍ خَرقاءَ يابسَةً ، بلا
بَشَرٍ ، بلا أنهارَ ولا زرعٍ .. وطنٌ يخرجُ من حِذاءِ الإحتلالِ الحديديِّ ، ومنْ نَتَنِ
ما زَرَعه .. عَلَّ الوطَنَ يصيرُ أقربَ وجميلاً ...

أنتَ تَدري أَنَّ واقِعَ الوطنِ ليسَ في حاجةٍ إلى مَزيدٍ من الشَكوى والهِجاء ،
ولا يستحقُّ أَيَّ ثَناء ، من بابٍ أَوْلى ! وليسَ من الطبيعيِّ أَنْ نَنصَرِفَ إلى أسئلةِ
التطبيعِ مع شيءٍ أَوْ أَحَدٍ ، وإلى الإستجابةِ للمُطالبََةِ بتطهيرِ الذاكرةِ ممّا علِقَ
بها ، وإلى "تعديلِ" / تزويرِ تأريخنا باتجاه الإعتذار عن سيرتنا ، ما دامَ الإحتلالُ ،
الذي إنتقلَ من غرفة النوم إلى الصالةِ ، جاثماً على حياتنا ..
يهبِطُ بنا من سؤالنا الوطنيِّ إلى بدائيَّةِ الوجود ..!
طوبى لِقَلبِكَ ، الذي إستعصى على الرصاصِ في " أرضِ آشورَ" ، لكنه لمْ يسلمَ من
!"غِريَنِ سومر" الذي سدَّ شرايينَك
فَنَمْ ، يا صديقي ، نَمْ خالصاً من الحنين ! فالموتى لا يحنّونَ ولا يكذبون
والحنينُ لايتعبُ من الكَذِب ، لأنه يكذبُ بصدقٍ ! لكنَّ أَحَداً لايحِنُّ إلى وَجَعٍ ،
لأنَّ الحنينَ إختصاصُ الذاكرةِ في تجميلِ ما إحتجبَ من المشهد ،
إنه ما يُنتقى من مُتحفِ الذاكرة ..
نَمْ ! فنَصُّكَ الأخير لن يُكمِله أحدٌ !
...........................
كيفَ حالُكَ الآنَ بلا آلامٍ ، بِلا هُموم ؟
لا أُريدُ جواباً الآن ، خَبّئه حتى نلتقي ، لأنَّ الأحياءَ لايفقهونَ لُغَةَ الموتى !
فنَمْ ، مُتحرِّراً من الوجعِ والضجيج ومن نميمة الحُسّاد.. من رثاءٍ ونعيٍ
لايُعجِبُك ، وإغفر لي أنني نسيتُ أَنْ أضعُ في جيبِك ، قبل سَفَرِكَ ،
ما سَمّاه بورخيس" كِتابَ الكُتُبِ "- ألفُ ليلةٍ وليلة -، إذ قال عنه
" لا أحدَ يستطيعُ قراءته حتى مُنتهاه فالليالي هي الزمن الذي لاتأخذُهُ سِنَةٌ ولا نوم "
فنمْ ، هادئاً قُربَ نفسِكَ ،
سأَحرُسُ أحلامَكَ .. وحدي ووحدُكَ وحارسُ المقبرةِ وأمرأةٌ تدفعُ رضيعاً يلهو
في عرَبته ويُناغي ، لايَعرِفُ معنى المقبرة أو الموت!
الأرضُ نَديِّةٌ ، ليسَ مجازاً ،
أَتعثَّرُ بأفكارٍ أخشى كتابتَها ، كي لا أُتُّهَمَ بالتجديف ، فيُحلِّلَ مَعتوهٌ دمي !
النهارُ يحتضرُ ، كأَنَّ ريحاً رخيَّةً تدفعه ، فلا نسمَعُ إلاّ خَشخَشَةَ حَفيفِها تكنِسُ
ما عافَه الشَجرُ من أوراقٍ ... والمَغيبُ يقفُ على شَفيرِ المدى ،
يَتَشَمَّمُ رائحةَ الأرض .. ويُذهِّبُ حواشيها ،
Alles Nahe werde fern W.Gö-;-the ".. وكلُّ قريبٍ / عزيزٍ في الحياةِ يرحلُ "
...........................
فَنَمْ ، يا صاحبي نومَ الهنا ، نوماً أَبيَضَ يَعفي بقيَّةَ الألوانِ من مِحنَةِ التأويل ،
فعزاؤنا برحيلكَ أَنَّ ذِكراكَ سِتظلُّ حيَّةً في نُصوصِكَ البَهيَّةِ ، في قلوبِ أَهلِكَ
ومُحبيك ،
.................................
ماذا صنَعتَ بنا وبنفسِكَ.. ؟!
إغفِرْ لنا ، يا صاحبي ، أننا سنعودُ بعدَ قليلٍ إلى أنفسِنا ناقِصينَ منك !




يحيى علوان
برلين 20.05.2016








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا