الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العثور على أبي في بلاد ما بين النهرين

عدنان حسين أحمد

2016 / 6 / 2
الادب والفن


ضيّف مركز الدراسات الأنكَلوعراقية بلندن الشاعرة والأكاديمية البريطانية جَني لويس في محاضرة حملت عنوان "العثور على أبي في بلاد ما بين النهرين" وقد ساهم في تقديمها الباحث الأكاديمي نديم العبدالله، كما ساعدها كثيرًا في تسليط الضوء على أبرز المحطات الرئيسة في سنوات الحرب العالمية الأولى التي اندلعت في 28 يوليو 1914 ووضعت أوزارها في 11 نوفمبر 1918.
أُرسل توماس تشارلز لويس، والد جَني، إلى العراق عام 1916، وبقي هناك ثمانية أشهر لكنه جُرح في معركة الكوت فأُخلي إلى الهند لغرض العلاج، وعاد إلى بريطانيا حيث درس الطب ونال فيه شهادة جامعية. ويعتبر والد جَني أول فرد في العائلة يصل إلى الجامعة لأنهم كانوا عمّال مناجم وينتمون إلى الطبقة العاملة الفقيرة نسبيًا في المملكة المتحدة.
أكدت جَني غير مرة بأن محاضرتها ستكون مقتصرة على الجانب الإنساني في عملية البحث عن والدها الذي لم تره ولم تتعرّف عليه من كثب، وأنها لن تخوض في تفاصيل الحرب. وقد شكرت نديم العبدالله لأنه غطّى هذا الجانب وتحدّث عن نقل خمسة آلاف جندي آسيوي من الهند وكيف احتلوا الفاو والبصرة ثم اندفعوا منها إلى الكوت ليحاصروها قرابة الستة أشهر ويخسروا المعركة.
عثرت جَني وأختها جيليان بالمصادفة على ألبوم صور قديم في عِليّة المنزل يعود لوالدها الراحل ت. س. لويس الذي أخذ معه كاميرا "بوكس براوننغ" والتقط فيها 60 صورة في العراق حينما كان عمره 18 سنة لا غير. كما ساعدتها التقارير العسكرية، والمواقف اليومية الرسمية للحرب، ومفكرات الجنود على معرفة والدها الذي أبقته حيًا في ذاكرتها حيث فارق الحياة وعمرها بضعة أشهر. كان ضعيف البنية نحيلها، وميّالاً للتوثيق مثل غالبية الضباط والجنود البريطانيين. وبما أن عدد الجنود البريطانيين كان بحدود300.000 ألف جندي من مختلف الصنوف ونحو 500.000 ألف جندي هندي تابعين لسلطة التاج الملكي البريطاني فإن هذا يعني، من بين ما يعنيه، أن هناك مئات الآلاف من الصور التذكارية التي التقطها الضباط والمصورون الصحفيون والمؤرخون الذين يوثقون وقائع الحرب ويومياتها التي استمرت أربع سنوات، وثلاثة أشهر، وأسبوع واحد!
أوقدَ هذا الكنز من الصور الفوتوغرافية حماس جَني فقرّرت أن تبدأ عملية بحث واسعة النطاق شملت خمسة محاور وهي: الأرشيف العائلي، والأرشيف الوطني، والجمعيات المتخصصة بتوثيق التاريخ المحلي إضافة إلى الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الأخرى، وشبكة الإنترنيت، والمتاحف مثل المتحف الإمبراطوري الحربي، والمتحف البريطاني، ومتحف فوج ويلز الملكي.
ذكرت جَني بأنها قدّمت جوانب من هذه المحاضرة في الأرشيف الوطني وفي بعض المدارس البريطانية وعززتها بالصور والخرائط والوثائق الرسمية التي لا يرقى إليها الشك. وخلال عملية البحث التي استغرقتها سنتين كاملتين صوّرت جَني أوراقًا ووثائقَ كثيرة بموافقات رسمية. وفي أحد يوميات الحرب الرسمية وجدت أن هناك 72 قتيلاً من البريطانيين حيث سُجلت أسماء الضباط وأُوردت أرقام الجنود فقط وهذا الأمر قد صدمها حقًا لأنها لا ترى فرقًا جوهريًا من الناحية الإنسانية بين الضابط والجندي فلمَ هذا التفريق إذا كان الطرفان يضحيان بأرواحهم من أجل الوطن. وفي السياق أشارت جَني إلى سؤال غريب تعرضت له في أثناء تقديم محاضرة عن مشاركة والدها في الحرب العالمية الأولى إذ سألها أحدهم إن كانت تشعر بالذنب لأن والدها اشترك في تلك الحرب العظمى؟ فأجابت على الفور: أنا لا أشعر بالذنب أبدًا ولكنني أشعر بالحزن لأنه كان مُجبرًا على المشاركة في تلك الحرب التي أبعدته عن الوطن والأهل والأصدقاء". وعلّق العبدالله موضِّحًا: "إن الخدمة العسكرية آنذاك كانت إلزامية ومنْ يتخلّف عنها لسبب غير قانوني يُعدَم".
تعتقد جَني بأن الضبّاط البريطانيين لم يؤدوا واجباتهم بشكل جيد لذلك تركوا جنودهم يخوضون في الأراضي الموحلة ويجتازوا المستنقعات الأمر الذي سبّب لهم الكثير من الصعوبات. كما طلبت من الباحث نديم العبدالله أن يبدي رأيه في هذا الصدد بوصفه معنيًا بتلك الحرب التي هزّت أركان بلاده فقال موضحًا:" لا أعتقد أن الضباط البريطانيين كانوا مقصِّرين في أداء واجباتهم وإنما طبيعة الأرض العراقية سواء في العمارة أو الكوت أو أطراف بغداد هي أرض سبخة تنضح ماءً على الدوام، ولكن بعد هزيمتهم في معركة الكوت غيّروا القيادات، وحسّنوا الطاقم الطبي، وحدثوا وسائل النقل والمواصلات، وأرسلوا السفن الحديثة إلى العراق، ونشطّوا عملية النقل النهري، وشيّدوا معملاً لصناعة السفن في المعقل بالبصرة، وجلبوا له عمالاً من الصين، ثم مدّوا خط السكة الحديد إلى مدينة الكوت خلال ثلاثة أشهر من أجل سرعة التنقل وتقديم أفضل الخدمات لقطعاتهم العسكرية التي تشكِّل قرابة نصف مليون مقاتل، أي ما يعادل عشرين بالمئة من نسبة سكّان العراق آنذاك!
توقفت جَني عند محور قد لا ننتبه إليه نحن العراقيين تحديدًا وهو الكتابة عن الحيوانات التي شاركت في الحرب العالمية الثانية كالبغال والحمير والجياد التي عانت هي الأخرى من الرعب والخوف والألم والجوع والإرهاق والموت من دون أن تفكر بالنصر النهائي كما يفعل الإنسان، ومع ذلك فلقد تجاهلها الجميع ولم يذكرها أحد إلاّ ما ندر، فلاغرابة أن تخصص كتابًا كاملاً للحروب التي خاضتها هذه الحيوانات!
أرادت جَني أن تربط بين معارك الحرب العالمية الأولى وبين معركة الفلوجة التي وقعت في سنة 2004 وكأنّ الشعب العراقي محكوم عليه بأن يعيش قرنًا من الحروب المتواصلة التي لما تزل مستمرة لحد الآن لكنها تمنّت أن تزور العراق في القريب العاجل وتقرأ لأبنائه ما كتبته عن بلاد الرافدين. وختمت جَني أمسيتها بعرض فيديوي مصور لقصيدتها التي غنتها بنفسها وكانت بعنوان "نشيد لكَلكَامش" وهي من تأليفها وترجمة ربى أبو غيدا، كما قرأ عدنان الصائغ قصيدة "أغنية ثانية لإينانا" وهي من تأليفه وترجمة جَني لويس وربى أبو غيدا.
أما الباحث نديم العبدالله فلم يكن مُقدِّمًا للأمسية فقط ومُترجِما لما تقوله الشاعرة والأكاديمية البريطانية جَني عن والدها الذي عثرت عليه في بلاد ما بين النهرين وإنما غطّى تفاصيل كثيرة من الحرب العظمى واحتلال البصرة، والاندفاع منها باتجاه العمارة والناصرية ثم الكوت حيث حوصرت القطعات البريطانية لمدة 147 يومًا قبل أن يستسلم القائد تشارلز تاونشند Townshend إلى القطعات العثمانية التي أسَرَت نحو عشرة آلاف جندي بريطاني وحققت نصرًا كبيرًا على الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. أما تاونشند، بحسب رأي العبدالله، فقد أراد أن يضفي أهمية كبيرة لنفسه حينما صرّح غير مرة بأنّ العثمانين قد طلبوا التفاوض معه فوافق بعد أن حرّروه من السجن وروى قصته التي تتمحور إيقاف نزيف الدم، وتقليل الخسائر إلى أبعد حدٍ ممكن لكن أهالي الضحايا وبعض البريطانيين لا يذكرونه بخير لأنه، حسب رأيهم، كان مُهتمًا بنفسه ومُقصرَا بحق الجنود والضباط الذين كانوا تحت أمرته.
نستشف من هذه المحاضرة أن العراقيين حكومة وشعبًا هم أمة شفهية لا تميل إلى التوثيق بعكس الأمم الأخرى التي تُعتبر تدوينية وتوثق كل شيء تقريبًا. فالملازم الأول ت. س. لويس، والد جَني، قد وثّق في الأقل هذا الألبوم الفوتوغرافي التي يضم 60 صورة تُثبت بالأدلة الدامغة أنه مرّ بالفاو والبصرة والعمارة والكوت، وأن العديد من الضباط البريطانيين قد فعلوا الأمر ذاته أو وثقوا عن طريق كتابة اليوميات، والرسائل، والمذكرات، والسير الذاتية وما إلى ذلك. أما العثمانيون فقد أخذوا معهم أوراقهم ووثائقهم بعد انسحابهم من جبهة بغداد وكردستان العراق وجبهة الشام أيضًا كي ينقذوا ما يمكن إنقاذه من إمبراطوريتهم العتيدة التي خرجت نصف منتصرة ونصف مهزومة!
جدير ذكره أن جَني لويس شاعرة، وكاتبة مسرحية، ومؤلفة أغاني، وأستاذه أكاديمية تدرس في جامعة أوكسفورد. وقد أصدرت عددًا من المجموعات الشعرية أبرزها "عندما أصبحتُ أمازونية" و "احتلال ما بين النهرين" وهي منهمكة حاليًا في دراستها العليا لنيل درجة الدكتوراه عن "كَلكَامش"، الملحمة المحببة إلى نفسها وروحها ومخيلتها الشعرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ذكريات يسرا في مهرجان كان السينمائي • فرانس 24 / FRANCE 24


.. الفنان السعودي سعد خضر لـ صباح العربية: الصور المنتشرة في ال




.. الفنان السعودي سعد خضر يكشف لـ صباح العربية سبب اختفائه عن ا


.. الفنان السعودي سعد خضر يرد على شائعة وفاته: مزعجة ونسأل الله




.. مهرجان كان السينمائي : فيلم -البحر البعيد- للمخرج المغربي سع