الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العولمة المتوحشة ومأزق الدولة القومية

إكرام يوسف

2005 / 12 / 10
العولمة وتطورات العالم المعاصر


مع انطلاق صاروخ العولمة، مدعوما بتعاظم سطوة الليبراليين الجدد في مختلف الكيانات والمؤسسات الاقتصادية الدولية الكبرى، ثار الجدل حول إعادة النظر في صلاحيات فكرة "الدولة القومية" أو الدولة الأمة nation state ـ وهي التي اعتبرت في وقت من الأوقات درة الفكر السياسي الحديث ـ بعدما أدى التنافس العالمي الضاري على الاستثمارات الأجنبية إلى تقويض هذه الصلاحيات. وصارت المؤسسات الاقتصادية متعدية الجنسيات (مثل منظمة التجارة العالمية والبنك وصندوق النقد الدوليين) تعمل ليل نهار كمطرقة هائلة تحطم كافة الحواجز في طريق رؤوس الأموال العالمية؛ بهدف تحويل العالم إلى سوق كبيرة تنساب عبرها السلع والخدمات والبشر بدون أي تدخل حكومي من أي نوع. وباختصار، يسعى الليبراليون الجدد إلى إعادة عجلة تاريخ الرأسمالية إلى نشأتها الأولى؛ حيث شعار الدولة الحارسة ومبدأ (دعه يعمل دعه يمر).
ولا يقتصر الأمر على هذا النحو, إذ أن رؤوس الأموال الضخمة التي تجوب الدنيا بحثا عن الاستثمارات المربحة تدفع حكومات العالم, بما فيها حكومات الدول الصناعية الكبرى, إلى التنازل عن صلاحيات كانت منذ وقت ليس ببعيد من أقدس خصوصيات الدولة القومية. وحتى الولايات المتحدة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم ( حجم ما أنتجه الاقتصاد الأمريكي من سلع وخدمات بلغ نحو 12 تريليون دولار في العام الماضي) تضطر إلى الاستعانة بالاستثمارات الخارجية لسد العجز السنوي الهائل في الموازنة العامة للدولة (من المتوقع أن تبلغ قيمة هذا العجز هذا العام خمسمائة مليار دولار) ولاستخدامها كغطاء لطبع مليارات الدولارات الورقية.

الغائب الحاضر في البرلمانات

ولا يتعين على أصحاب هذه الاستثمارات إلا الجلوس أمام شاشات حواسيبهم الشخصية وتحويل ملياراتهم الساخنة من مكان إلى آخر بنفس سرعة النبضات الالكترونية التي تحركها أناملهم. وفي غمرة تلك العملية تدخل دول العالم في مزايدات طاحنة من أجل الفوز بأكبر حصة من الكعكة الهائلة. فإذا قررت دولة ما تقديم إعفاءات ضريبية لمدة عشر سنوات، تسارع دولة أخرى إلى تقديم إعفاءات تصل مدتها إلى ربع قرن. وإذا عرضت دولة ما تقديم أراض بالمجان للمستثمرين تتبرع لهم الأخرى بالأراضي ومعها البنية الأساسية من كهرباء وماء. وهكذا صارت دول العالم تحسب ألف حساب للمستثمرين الأجانب عند وضع القوانين الخاصة بالضرائب وحقوق العمال وإدارة القطاعات الحيوية للدولة من مرافق وجمارك وغيرها. وأصبحت رؤوس الأموال الأجنبية هي الغائب الحاضر في جلسات البرلمانات في شتى أرجاء العالم , ومن أجلها يجري تقديم تنازلات بلا حدود. فلم تعد أي دولة في العالم حرة في صياغة ما تراه من قوانين اقتصادية؛ الأمر الذي يعني من الناحية العملية أن رؤوس الأموال الأجنبية انتزعت من الدول القومية صلاحية تشريع العديد من القوانين.

مأزق الشركات الوطنية

بل إن الأمر يصل إلى حد أن قوانين منظمة التجارة العالمية تنتزع من الحكومات صلاحية تفضيل الشركات الوطنية على الشركات الأجنبية في المشروعات القومية بحجة أن العالم صار سوقا واحدة وأن المنافسة هي القاعدة العامة التي يتعين الالتزام بها حتى لو كانت الصفقة مجرد عملية رصف شارع أمام مصلحة حكومية. ولعل هذا ما دفع كثيرون ـ منهم رئيس الوزراء الماليزي الأسبق مهاتير محمد ـ إلى التشكيك في استفادة السوق المحلية من الاستثمارات التي تجني مكاسب هائلة من الإعفاءات الضريبية ومن رخص الأيدي العاملة في البلدان النامية التي تعمل فيها, بينما لا تمنح تلك البلدان سوى الفتات. وهكذا يعاد صياغة التشريعات الاقتصادية في العالم بأسره تقريبا من أجل إغراء رؤوس الأموال الأجنبية للمجيء إلى هذا البلد أو ذاك. أما النتيجة فهي تقلص عائدات الحكومات من الضرائب والجمارك وغيرها من الرسوم المباشرة وغير المباشرة بينما توجه مبالغ طائلة لدعم البنية الأساسية التي تبيعها عادة برخص التراب للاستثمارات الأجنبية. الأمر الأكثر خطورة أن هذا كله يحدث على حساب الأموال المخصصة لبنود الرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية وهو ما يعني رفع أيدي الحكومات عن تلك البنود وتراجع دور الدولة في عملية إعادة توزيع الدخل القومي على نحو يفاقم الفجوة بين الأغنياء والفقراء. وهذا بالضبط ما نراه يحدث الآن في البلدان التي كان يُضرب بها المثل في تقديم نموذج دولة الرفاهية مثل الدول الاسكندينافية
.
ما هو الحل

وربما تبدو الحلول المطروحة لهذه المشكلة مثالية من وجهة نظر البعض ومن بينها الحل الذي طرحه "مهاتير محمد"، وهو تشكيل إدارة عالمية تتولى فرض ضرائب على تحركات رؤوس الأموال والاستثمارات العالمية ,على أن يجري استغلال حصيلة تلك الضرائب في الحد من الآثار السلبية لهذا المظهر القاسي من مظاهر العولمة الاقتصادية. كما يطالب البعض بإعادة فرض قيود دولية على تحرك تلك المليارات الساخنة التي تنال من صلاحيات الدول ومن رفاهية الشعوب. لكن السؤال هل يتنازل الرأسماليون الجدد من تلقاء أنفسهم عن هذا الكنز الذي أتاحته لهم تلك العولمة المتوحشة؟.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تبدو النتائج الأولية غير الرسمية للانتخابات العامة البري


.. مراسل الجزيرة يرصد أبرز تصريحات وزير المالية الإسرائيلي سموت




.. بايدن يعترف: لقد أخفقت في المناظرة وكنت متوترا جدا وقضيت ليل


.. استطلاعات رأي: -العمال- يفوز في الانتخابات البريطانية ويخرج




.. أبرز المرشحين الديمقراطيين لخوض انتخابات الرئاسة في حال انسح