الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماذا عن الولايات المتحدة؟

فلاح رحيم

2016 / 6 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


هنالك موقفان أساسيان من سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. كلاهما ينطوي على مفارقة طريفة محيرة. الأول يبالغ في جهل الولايات المتحدة وتخبطها والثاني يبالغ في قوتها وجبروتها، وكلاهما يعود بأبلغ الضرر على شعوب الشرق الأوسط ويخلط الأوراق على صانعي القرار والناس على حد سواء. لا تدعي هذه الوقفة معرفة يقينية تنفرد بها أو التوفر على مصادر خاصة، وهي لا تدعي حلولاً مبسطة لقضية معقدة كهذه. لكنها خطوة أولى لوصف الالتباسات وتقصي حقيقتها في سياقاتها.
يسود بين المعلقين السياسيين والخبراء الاستراتيجيين والكثير من القادة ممن تحفل بهم وسائل الاعلام والتواصل اعتقاد بات أشبه بالبديهة مفاده أن الولايات المتحدة تجهل طبيعة الثقافة العربية وخصوصيات المنطقة وأنها منذ صعد نجمها في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية ظلت تتخبط في سلسلة من القرارات والإجراءات الخاطئة التي عادت بالضرر عليها وعلى دول المنطقة. وما يستدعي النظر في أغلب دعاة هذا الرأي أنهم يقيمون في الولايات المتحدة نفسها أو في العالم الغربي ويعملون في المؤسسات البحثية والأكاديمية والإعلامية لهذه الدول، بل والكثير منهم يستشيرهم صانع القرار الأمريكي قبل الإقدام على أية خطوة حاسمة. السؤال المحير لماذا لا تساعد هذه النخبة الولايات المتحدة على فهم ما يحدث إذا كانت تمتلك هذا الفهم؟ وإذا كانت قد أدت واجبها وقدمت النصح السديد بعبارات إنجليزية واضحة يحق لنا أن نسأل عن المبرر لدعوى الجهل. المعرفة كما يبدو موجودة ولكن القرار يبتعد عنها لحسابات خاصة.
الأطرف في هذا الركن من الثنائية أن الولايات المتحدة بساستها ومحلليها ومعلقيها السياسيين تطرب لمن يتهمها بالجهل، وتشجع أسطورة الجهل عبر تصريحات عديدة اعتذر بها سياسيون أمريكيون عن قرارات مصيرية اتخذوها بشأن المنطقة. هنالك من يعتذر عن غزو العراق ويعده خطأ ترتب على معلومات استخبارية تعوزها الدقة، وهنالك من يبدي حيرة في موقف حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة من الإرهاب، ويبدو كأن هؤلاء الحلفاء يشاكسون حليفهم الأكبر دون أن تكون لديه القدرة على ردعهم! تأتي في هذا السياق القناعة واسعة الانتشار أن الغزو الأمريكي للعراق لم يكن ليحدث لولا نصائح وآراء سياسيين ومثقفين من مثل أحمد الجلبي وكنعان مكية! يبدو الأمر وكأن هؤلاء يمتلكون بأيديهم قرار غزو العراق ولولاهم ما حدث الغزو! اسطورة التخبط هذه دعت الفيلسوف النقدي اللاذع سلافوي جيجيك إلى تعليق طريف على الصورة التي انتشرت ويظهر فيها جندي أمريكي يبحث داخل فم الطاغية الأهوج بمصباح كهربائي. كتب جيجيك: "إنه يبحث عن أسلحة الدمار الشامل!"
لمن يهوى العجائب أضيف أمراً أدعى إلى العجب. يكافأ من ينتقد الولايات المتحدة في يومنا هذا على تخبطها المزعوم وتُفتح أمامه وسائل الإعلام الأمريكية والغربية للتعبير عن نقده وتسفيهه للأخطاء الأمريكية، بينما يُتهم من ينعت الولايات المتحدة بالفطنة والدهاء والبراعة السياسية في تنفيذ برامجها ورعاية مصالحها بأنه من دعاة نظرية المؤامرة. والمتابع للسجال السياسي في العراق مثلاً لا يجد ذكراً يعتد به للسياسة الأمريكية ودورها في تطور الأحداث خارج صفوف المعسكر الإيراني. هنالك إشارات سريعة تفيد أن الولايات المتحدة قد حاولت نفع العراقيين وأخفقت لأنهم مجموعة من الجهلة انتخبت زمرة من السياسيين الفاسدين. وكتّاب هذه الإشارات هم من وصفهم على الوردي بوعاظ السلاطين، أولئك الذين يجلدون الضحية ويردون كل قضية اجتماعية وسياسية واقتصادية إلى أصل أخلاقي على مستوى الأفراد. السائد عموماً أن عليك لكي تحرز مكانة لامعة في عالم التعليق السياسي أن تسخر من أخطاء السياسة الأمريكية البريئة وتتكلم عن صانعي القرار الأمريكي الذين تنفق المليارات من الدولارات على توفير المعلومة الصحيحة لهم بنبرة العالم العليم الذي يعرف من زاويته الضيقة ما يجهلون. خطر لي يوماً أن على أقسام "العلاقات الدولية “و"السياسة الدولية" في الجامعات العربية تسمية نفسها أقسام "نظرية المؤامرة" لأن كل حديث في البعد الدولي لأزماتنا صار يواجه دون إبطاء بهذه التهمة الباطلة.
هنالك على الطرف الآخر في الموقف من الولايات المتحدة المبالغون في قوتها وجبروتها. وهؤلاء يعزون تعثرهم بصخرة على الطريق إلى مؤامرة أمريكية مبيتة. والطريف في هذا الموقف أنه يقود عادة إلى سلوكين سياسيين متضادين في ما بينهما وإن اعتمدا منطلقاً واحداً! هنالك من تدعوه هذه القناعة إلى الانصياع الكامل للإرادة الأمريكية ظنا منه أن ذلك سينجيه من المخاطر. أثبتت الأحداث أن هذا الظن وهم محض. الجيل الذي جرب الانصياع الكامل للإرادة الأمريكية من الزعماء العرب كنسه الربيع العربي وصار أثراً بعد عين، وتم ذلك باحتفاء أمريكي بالحدث! لكن هنالك الكثير من القادة في الشرق الأوسط ممن ظلوا يصرون على أن الولايات المتحدة الجبارة لا ينفع معها إلا الانصياع الكامل على أمل النجاة. وهؤلاء تنتظرهم مفاجآت كثيرة لا مجال للخوض فيها في هذه العجالة.
السلوك السياسي المضاد للانصياع يرى أن الحل الوحيد في التعامل مع الولايات المتحدة هو محاربتها ومقاومتها و"السيف أصدق إنباء من الكتب". وهذا الموقف ينطوي على تناقض محير هو الأخر. إذا كانت الولايات المتحدة قوية إلى هذا الحد ومهيمنة على العالم كل هذه الهيمنة، تخشاها قوى عظمى، لماذا يظن زبانية داعش أو قوى شرق أوسطية محدودة الموارد أنها تستطيع أن تخلص البشرية من شر "الشيطان ألأكبر"؟ لم يعد في يومنا هذا من منطق يدعم المواجهة عدا القناعة الغيبية الانتحارية بإمكان النصر على أية قوة مهما كبرت واشتد بأسها. وكان بول ريكور قد شخص حقيقة أن الثورات الدينية تكون بلا موعد دائماً لأنها لا تأخذ معطيات التاريخ والسياق بنظر الاعتبار وتقرر مواعيدها على أساس وحي يوحى. ما يحدث في السياق الفعلي أن جند الله هؤلاء لا يحرزون انتصاراتهم إلا على بلدانهم وشعوبهم والأبرياء من الناس، وهم مطية الطامعين في خيرات الشرق الأوسط وإعادة استعباده.
هنالك في جامعة كيمبردج العريقة مركز أكاديمي باسم "مركز القوى الصاعدة"Centre for Rising Powers، وهو متخصص في دراسة القوى التي يأخذها الغرب مأخذ الجد في يومنا هذا. يتفق المختصون في العلاقات الدولية أن هذه الدول أربع تختصرها الكلمة الإنجليزية BRIC، ويمكن التصرف في ترجمة المصطلح بكلمة "بصره". لا علاقة لهذه الكلمة ببصرتنا العزيزة، المقصود بها الحروف الأولى من أسماء الدول الصاعدة في عالم اليوم وهي: البرازيل والصين وروسيا والهند. هنالك من يقترح إضافة جنوب أفريقيا إلى القائمة لكني لن أتوسع في مناقشة هذه التسمية، السؤال الذي لا يطرحه أحد هو أين من هذه القوى المتوقع لها أن تكون مؤثرة وفاعلة في القرن الحادي والعشرين الدول الإسلامية ودول الشرق الأوسط؟ لماذا يظن من يتابع الاعلام العربي والغربي أن المشكلة الكبرى في هذا القرن هي الخطر الذي تمثله الدول العربية والإسلامية بينما يدرك من يقرأ أي كتاب أكاديمي رصين في السياسة الدولية أن هذه الدول قد دخلت الهامش منذ زمن بعيد وأن ما هو مطروح التعامل معها بعد انقضاء الحرب الباردة كما تعامل الحلفاء مع "الرجل المريض" بعد الحرب العالمية الأولى؟
قد يسأل سائل ما الموقف الصحيح إذن من الولايات المتحدة؟ لا أدعي معرفة الإجابة عن معضلة كهذه، لكني متأكد من أن المواقف السائدة اليوم ستؤدي بنا إلى مزيد من الكوارث، ولابد من وقفة تعتمد العقل ومبدأ إنقاذ شعوب الشرق الأوسط من مصائب التشرد والدمار. لابد من ضبط النفس والامتناع عن تصعيد الصراعات الطائفية والقومية الضيقة لأنها مهلكة مؤكدة. إذا كنا بحاجة إلى فقه في عالم اليوم فهو فقه تحريم استثارة عدو باطش. وهو الفقه الذي تلتزمه الدول الكبرى في قرننا هذا. تضم اتفاقية شنغهاي الصين وروسيا ومجموعة من الجمهوريات الآسيوية، أي ما يقدر بربع البشرية من السكان. ظلت إيران تسعى إلى دخول هذه الاتفاقية منذ عام 2001 دون جدوى، والسبب أن الدول الموقعة على الاتفاقية لا تريد أن تتسبب في توتر بينها وبين الولايات المتحدة ولا تريد أن تبدو تجمعا يُقصد منه التصدي للمصالح الأمريكية. داعش ومن لف لفها من الحمقى تعتقد أنها ستنقذ العالم بإقامة الخلافة من جديد، وهي إنما سلاح تدمير شامل لا يتجاوز ضرره الشرق الأوسط.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نبض فرنسا: هل يتجه المشهد السياسي نحو قطبية ثنائية على حساب


.. مقتل أكثر من 100 جندي من بوركينا فاسو في منطقة قرب الحدود مع




.. شخصيات فنية رياضية تدعو إلى منع فوز اليمين المتشدد في التشري


.. إسماعيل هنية في كلمة لأهل غزة: تضحياتكم تصنع النصر




.. البرهان يؤكد ثقته بالنصر ودقلو يتهمه بالانسحاب من المفاوضات