الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صناعة الوهم الأمريكية في العراق

يوسف محمد

2005 / 12 / 11
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


يبدو أن الجماهير في العراق تمر الآن بأكثر العهود "ديمقراطية!". فخلال عام واحد يذهب العراقيون للمرة الثالثة الى أمام صناديق الاقتراع وممارسة حقهم في التصويت. ومَنْ بوسعه أن يعترض على أمر حميد كهذا؟!. إلا أن هذه الصورة هي مشوهة ومقلوبة تماماً عن حقيقة الأوضاع السياسية في العراق. إنها صورة اجتهد من صاغها في إشاعة الوهم. صورة تخدع الناظر ببريق وهاج وادعاء ذا وقع كبير في النفوس بأن العراقيين هم من يقرر الآن وهم من يصوغون مستقبلهم ومستقبل نظام حكمهم ويفاضلون بين برنامج وآخر، يفاضلون بين قيادات وأخرى، ويفاضلون بين أحزاب وأحزاب أخرى. فلو كان ما يجري في العراق الآن هو انتخابات بحق، لو كانت تلك العملية ستؤدي الى حكومة تمثل إرادة وطموحات الجماهير وتطلعاتها، ولو كانت ستكون خطوة من أجل التعبير عن المسؤولية إزاء مصير المجتمع وحقوق المواطنين وحرياتهم الأساسية، لكان من حق بقية الجماهير في المنطقة التي تعيش في ظل أنظمة حكم استبدادية ودكتاتورية الشعور بالحسد إزاء هذا الأمر، والاستبشار خيراً بأن رياح "الديمقراطية!" ستهب عليها ذات يوم أيضاً، وفقاً لمشروع "الشرق الأوسط الكبير!!!".
عملية الاقتراع المقرر إجرائها في ظرف أيام قليلة قادمة تأتي كحلقة أخرى في سلسلة المخططات والاستراتيجية والسياسة الأمريكية في المنطقة. إنها استمرار وإدامة للمسار الذي بدأ بالحرب والاحتلال الأمريكيين وخطوة أخرى فيه. ففي ظل المساعي الأمريكية المتواصلة لملئ فراغ السلطة الناشئ عن انهيار الدولة وسقوط النظام البعثي وبلورة بديل سياسي يجيب على حاجات ومصالح البرجوازية في العراق، فقط في ظل هذا السياق يمكن فهم وقراءة موضوع الانتخابات في العراق واتخاذ موقف منه على هذا الأساس.
ولكن لندقق، ولو قليلاً، في ملامح الصورة. عند ذاك سنرى مجتمعاً مأزوماً دُمرت أسس الحياة المدنية فيه، وأوضاعاً شاقة وعسيرة ينتفي فيها أي وجود لأقل ما يمكن من الطمأنينة والأمان والاستقرار، وغياباً تاماً لوجود الدولة ومؤسساتها، وتمزقاً لجغرافيا كانت حتى الأمس معلومة الهوية والاتجاه الى مناطق نفوذ مجزأة لمليشيات مسلحة متهورة ومتغطرسة تمارس دوراً فاعلاً في تمزيق أوصال المجتمع وقولبة مطالب الجماهير فيه بأطر خادعة طائفية وإسلامية وقومية وعشائرية رجعية، ونقضاً يومياً وسحقاً متواصلاً لحقوق وحريات أساسية وبديهية بدءاً بحق العيش وصولاً الى الحريات السياسية وحرية الرأي والتعبير. في ظل هكذا أوضاع من المقرر أن تذهب هذه الجماهير في العراق الى أمام صناديق الاقتراع وغمر أصابعها في الحبر البنفسجي للمرة الثالثة!. وكأن هذه المرة ستكون الفرصة أرحب أمامها، بعد مشاركة أطراف غابت عن المشاركة سابقاً وعادت وتراجعت هذه المرة عن مواقفها السابقة!، وكأن أوضاعها صارت أفضل بعد عمليتي تصويت سابقتين مما يعني أن تصويتها هذه المرة سيدق مسماراً في نعش هذا السيناريو الأسود الذي تخوَّض فيه!.إنها حقاً صناعة منظمة ومبرمجة للوهم. إنها صناعة الوهم الأمريكية على الطريقة الهوليوودية!.
ولكن الجماهير ليست أيضاً غافلة عما يجري حولها، ربما أن هناك الكثير من التشويش عليها، ربما أن ثمة عمى ألوان يمكن لمسه في قدرتها على التشخيص، ربما هناك حقن يومي لأذهانها بقصف متواصل من الدعاية المأجورة التي تمارسها وسائل الإعلام المختلفة يصيبها بشلل ما، وربما هناك تفتيت مبرمج لهوية المواطنة لديها التي تعرضت للطمس من قبل الفاشية البعثية سابقاً ودفعها رغماً عنها لهويات زائفة وانتماءات رجعية ومتخلفة تماماً من قبيل الانتماء للطائفة والمذهب والقوم والعشيرة، غير أن تجربة عامين ونصف كفيلة بأن تؤكد الحقائق التي كنا ومازلنا نقولها لها. تجربة عامين ونصف من التشرذم والتخبط وغياب الأمن وانعدام الخدمات الأساسية والإرهاب الإسلامي والأمريكي والقتل اليومي وحمامات الدم الساخنة والحرب الأهلية القائمة، وتجربة عامين ونصف من الاحتلال الأمريكي وسيطرة الجماعات الإسلامية-القومية، كفيلة بالقول أن أي انتظار إيجابي من تجربة الانتخابات الحالية هو توهم لن يكون ثمنه بأقل من الثمن الذي تم دفعه خلال عامين ونصف ماضيين.
إن نفس القوى التي تشرف على هذه الانتخابات ونفس عراب هذا المشروع الفاشل ونفس القوى المقرر أن تنتخب منها الجماهير مَنْ يستلم دفة ومقاليد الحكم، هي في السلطة الآن ونفسها من يمسك بمقاليد الأمور ويدير شؤون المجتمع الآن. نفس هذه القوى هي التي ساهمت بدور كبير في كل تفاصيل ومفردات الواقع العراقي المتفجر الحالي. نفسها من عمق الصراعات والهوة الطائفية والقومية والمذهبية في المجتمع الآن ونفسها من ورث ممارسات الفاشية البعثية، ولم تقم بأقل مما قام به نظام صدام حسين من الاجرام. إنها الآن تنافسه بسجونها السرية ومداهماتها وغاراتها الأمنية وعمليات تعذيب المعتقلين التي يخفف البعض من وطأتها بتسميتها "إساءات". نفسها من جاء على ظهر الدبابات الأمريكية نكايةً بالبعث الذي جاء بقطار أمريكي.
وإذن ما يجري الآن ليست انتخابات أبداً. فليس هناك اختيار بين بدائل سياسية مختلفة. وليس هناك انتخاب بين قوى متمايزة وذات توجهات ورؤى سياسية وبرامج تميزها عن بعضها البعض. بل لا يعدوا الأمر أن يكون عملية تقسيم ومحاصصات جديدة للثروة والنفوذ والسلطة في المجتمع من قبل القوى المختلفة المشاركة في المشروع الأمريكي وفق قوانين لن تختلف عن سابقتها. وهي ليست فقط عملية تزييف لإرادة الجماهير بل إنها سحق وتفتيت لتلك الإرادة وشلها من خلال فرض بديل إسلامي-قومي رجعي حد النخاع. ومن ضمن ما تهدف إليه هذه العملية أيضاً إضفاء الشرعية على المخططات والاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، ومنح تبرير خادع لممارستها وغطرستها وعسكرتاريتها التي تمارسها باسم (الحرب ضد الإرهاب) ونشر (الديمقراطية) في المنطقة والعالم.
وهنا على الجماهير في العراق، على الجماهير التي دفعت الثمن غالياً من حياتها وأمنها وطمأنينتها في ظل وبسبب هذه القوى وهذه الأوضاع، على الجماهير التي جرحت كرامتها واستفردت بها قوى السيناريو السود الحالية ودفعتها الى العزلة والانكماش على نفسها، وضع حد لهذه المهازل التي تجري باسمها. فالتحدي الكبير الذي يواجهها هو إحباط هذا السيناريو وإفشاله. عليها أن تدرك جيداً أن محاولات كسب الشرعية وإضفاء الطابع الرسمي على هذا الواقع المأساوي والأوضاع الوخيمة، محاولات عقيمة ويجب إجهاضها وخنقها في مهدها. الخطوة الأولى في هذا السبيل هي رفع راية (لا) للانتخابات و(لا) للسيناريوهات الرجعية التي تصاغ خلف الكواليس لها ولمصيرها ومستقبلها. وهذا ما سيمهد السبيل لإسقاط المشروع الأمريكي في العراق وطرد القوات الأمريكية وإخراج القوى الإسلامية والقومية الرجعية من المسرح السياسي العراقي ودفعها الى العزلة والانزواء، الأمر الذي يشكل خطوة أساسية في بناء حياة حرة كريمة تليق بالعراقيين وتجيب على تطلعاتهم وأمانيهم التقدمية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا يحدث عند معبر رفح الآن؟


.. غزة اليوم (7 مايو 2024): أصوات القصف لا تفارق آذان أطفال غزة




.. غزة: تركيا في بحث عن دور أكبر خلال وما بعد الحرب؟


.. الانتخابات الرئاسية في تشاد: عهد جديد أم تمديد لحكم عائلة دي




.. كيف ستبدو معركة رفح.. وهل تختلف عن المعارك السابقة؟