الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءات - هل تظل الدوامة السارترية تلف بعضهم إلي الأبد؟ - سيرة هارون الرشيد في نص مسرحي

سردار عبدالله

2003 / 1 / 30
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


- قراءة: سردار عبدالله

 

الكتاب: هارون الرشيد
المؤلف: موكري
المترجم: عقور صالح عبدالله
الطبعة: الأولي ــ السليمانية 2002

صدرت مؤخرا بمدينة السليمانية بكردستان العراق، الترجمة العربية لمسرحية (هارون الرشيد) لكاتبها (محمد موكري)، المسرحية مكتوبة اصلا باللغة الكردية وقام بترجمتها الي العربية (غفور صالح عبدالله). السؤال الجوهري الذي يلح في فرض نفسه هو: لماذا هارون الرشيد بالذات؟ لكن الغريب أن موكري يسبقنا الي طرح السؤال علي نفسه، ويجيب (ان من الممكن استقراء ذلك التاريخ والنظر اليه بعقلية أخري وبعين بصيرة من دون تبريج أو تزيين لذلك أقول أن هارون الرشيد هو تاريخ البشرية)، اذ أن موكري ومع ادراكه لأهمية وحساسية فترة خلافة الرشيد فأنه أختار كما يقول الجانب الطاغي لدي هارون الرشيد وهو ولعه بسفك الدماء والظلم وابادة البرامكة والعلويين. تبدأ المسرحية بصراخ عال يطالب بالدم، ثم يظهر هارون الثاني وهو يجر خلفه تابوت ــ وهارون الثاني هو توأم هارون وكان هارون قد التهمه في رحم أمه ــ وهنا نشهد مشهدا مثيرا يطرحه موكري من خلال الأجواء وكذلك عن طريق حوار فلسفي بليغ ذو دلالات عميقة. يطرح من خلاله الأسئلة الانسانية الخالدة عن الوجود. هنا نجد هارون الثاني الذي خرج من عيني أخيه هارون علي هيئة بخار يوم ممات هارون، وهو يبلغ اربعين يوما من عمره ويتجول حاملا علي كتفه تابوت أخيه بعد أن رفضت جثته من قبل اربعين قبرا. ويختلف الأثنان علي تفسير هذا الرفض، فهارون الثاني يعزو رفض القبور الي عفونة الجثة ودموية هارون، بينما يصر هارون علي أن القبور تعلم بأنه لم يمت. يعود بنا موكري هنا الي أزلية القتل الأنساني وحتميته فيخبرنا هارون يأنه (لو لم يكن قابيل هو القاتل، لصار هابيل هو القاتل حتما )، لأن موكري يخبرنا وعلي لسان هارون بأنه (كان محتما أن يتذوق أحدنا طعم خطيئة امتصاص دمه نفسه). في نهاية المشهد يحيلنا هارون الثاني بطريقة مسرحية الي مشاهدة الأحداث علي خشبة المسرح.
تبدأ الأحداث في قصر خيزران الفخم وسرعان ما نجد أنفسنا في أجواء موبؤة مليئة برائحة التآمر وتدبير المكائد والتصفيات.. فخيزران أم هارون تدبر محاولة لقتل الخليفة الهادي، بينما نري الهادي في مشاهد أخري محاطا بجواسيسه يدبر لقتل أمه. علي هذا المحور الحساس والمثير يبني موكري عقدة الصراع، ولكنه أثناء ذلك يمنح هذا الصراع علي السلطة أبعادا أخري يتفنن في التعامل معها، فهو يصور الصراع في أحدي جوانبه علي أنه صراع بين العرب والعناصر والشعوب غير العربية في الدولة العباسية، فالهادي يأمر بنصب آلاف المشانق لتصفية البرامكة، بينما تحاول خيزران وبتخطيط من يحيي البرمكي تسميم الخليفة لتنقذ البرامكة، أي العناصر غير العربية وتنصب هارون علي عرش الخلافة. علي أن موكري لا يكتفي بذلك، بل هو يحمل الصراع بعدا بشريا وأزليا آخر ألا وهو صراع الأنثي مع الذكر.. وفي النهاية يري القارئ بأن عملية تسميم وتصفية الهادي وكأنها أنقلاب نسائي علي جنس الرجال واثبات ذكاء وتفوق العنصر الأنثوي علي الذكوري، ويجب أن نذكر هنا أن موكري فعل كل ذلك بشكل فني ممتاز وراقي للغاية. في اليوم الأول لخلافة هارون الرشيد وانقاذ البرامكة وخروج يحيي البرمكي من السجن، يولد المأمون وهو حدث له الكثير من الدلالات، ولكن في الجانب الآخر يبدأ هارون يومه الأول بالقتل، فهو يأمر ابن أخيه جعفر ابن الهادي أن يركب استاذه عمر مثل الحمار ثم يأمره بقتله ويقوم هو بتوزيع كل ما يملك من مال وجواري بل وحتي أبنائه، كل ذلك انتقاما من عمر لمعاملته السيئة لهارون أيام حكم الهادي. من هنا تسترد دوامة القتل دورتها الطبيعية وذلك بعد توقف أستثنائي لم يدم سوي ساعات قلائل. بعد سيطرة البرامكة علي زمام الأمور يشتد الصراع بينهم وبين زبيدة سليلة الأسرة القريشية والتي تسيل في عروقها دماء عربية نقية، يتخذ الصراع في هذه المرحلة علاوة علي الأبعاد التي سبقت الأشارة اليها بعدا حضاريا ايضا، فالبرامكة يشجعون هارون علي بناء قصر الحريم ويحاولون أن يجروه الي ممارسات تعود بالأصل الي ملوك المجوس. يقع هارون بين هذا الشد والجذب، بينما تسيطر أجواء التآمر والمكائد والدسائس علي قصور الخليفة وينجح المتآمرون وبدفع من زبيدة في تعكير علاقة الخليفة بالبرامكة وتدور دوامة الدسيسة والدم علي الكل بلا استثناء ويطال حتي العلماء الذين يبدعون في اعداد اكثر انواع السم فتكاً. ان القارئ يشعر بأن موكري ينقل في كل هذه المشاهد صورة صادقة عن الأجواء السياسية الشرقية المعاصرة. فالخليفة زائل والكل يتركون مواقعهم ويتبدلون عدا الجواسيس ورؤساء الجواسيس الذين يبقون ولا يتغيرون ولايتورعون عن فعل أي شيء او أي عمل مهما كانت درجة انحطاطه والغريب انهم يفعلون كل ذلك بأسم المصلحة العليا للبلاد. وهنا يطرح موكري تصورات وصور بالغة الدلالة والعمق عن الشرق والغرب، والسلطة ومفاسدها، وطبيعة العمل السياسي وهو يخبرنا بأن الدوامة السارترية ليست ازلية وقديمة قدم الأنسان فحسب، بل هي كذلك أبدية وستظل خالدة حتي بقاء آخر انسان علي الأرض، فيأتي هنا ليخبرنا في المشهد الأخير وفي حوار بليغ بين هارون وتوأمه بأن هارون الذي يتحول هنا الي رمز مجرد للطغيان، حي لم ولن يموت. وفي النهاية وبعد ان تكتمل مشاهد المسرحية يخرج هارون من تابوته علي هيئة دخان احمر وينتشر في القاعة ويردد حوارا مسرحيا واضح الدلالة (ها.. قد وجدت قبري.. هاهم يستنشقونني مع الأنفاس.. ها قد دخلت اعماقهم.. لقد استحوذت عليهم، أنا الآن جميعهم.. جميعهم هارون.. هارون لم ولن يموت مادام هنالك انسان واحد باقيا)، وبالنهاية نجد أنفسنا وقد اكتشفنا بداخلنا هارون الطاغية الذي كان نائما ولم يكن يحتاج إلا إلي تملك زمام السلطة لنظهر علي حقيقتنا الأزلية الأبدية في الوقت نفسه. تقع المفارقة العجيبة حين تدور دوامة الدم والقسوة والعنف علي عكس هوانا ومخططاتنا، فعلي الرغم من كل التضحيات والدم والجهد الذي صرف في مجيء هارون الي السلطة لكي يحمي البرامكة، فاذا به يقع فريسة القدر في النهاية ويأمر هو بتصفية البرامكة وحرق كل ممتلكاتهم، وهنا نشهد واحدة من اجمل الحوارات التي يزخر بها النص، فيخاطب هارون زوجته زبيدة التي تنظر الي حريق البرامكة منتشية وكذلك محمرة من الخجل بعد أن فاجأها الخليفة ببعض التقارير المكتوبة عنها، فيقول لها (لم ار بغداد بهذا الجمال أبدا.. انظري كم هي جميلة، عندما كان عبدالله (وهو وزير الجاسوسية وكاتب التقارير السرية) يخجل منك كانت خداك تحمران.. بغداد حاليا تشبه خديك، بعد أيام سأشبه بغداد بلون خدي عبدالله عندما كان يقول: أستحي لأن السيدة زبيدة هنا.. كان لون ملامحه يشبه لون الرماد.. آه.. يا بغداد.. يا عاصمة الأسلام.. تتجسدين بلونين عجيبين.. لون كاتب التقارير ولون المكتوبة عليها التقارير..). بالنهاية يأمر هارون عبدالله بأعداد تقرير عن هذه الليلة الحمراء ويقدمه للسيدة زبيدة وهو أمر لا يخلو من دلالات ضمنية كما أن هذه الصورة تذكرنا علي الرغم منا بصورة نيرون المنتشي بحرائق روما ليقول لنا بأن جنون التدمير والدم والرحرائق لا يعرف حدودا واجناسا وأعراق.. يبدع موكري علي طول النص في التعامل مع الألوان وكذلك الأسماء فجلاد الخليفة مثلا أسمه مسرور، وكذلك مع الأرقام فمثلا عمر هارون الثاني يبلغ اربعين يوما، واربعون قبرا ترفض جثة هارون والغريب أن عدد مشاهد المسرحية هي اربعون مشهدا بالتمام والكمال، ولا أظن هذا الأمر مصادفة عرضية وخصوصا وأن هذا الرقم يملك ابعادا وحضورا اسطوريا طاغيا في مجتمعاتنا.

جريدة (الزمان) العدد 1418 التاريخ 2003 - 1 - 29

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر أمني: ضربة إسرائيلية أصابت مبنى تديره قوات الأمن السوري


.. طائفة -الحريديم- تغلق طريقًا احتجاجًا على قانون التجنيد قرب




.. في اليوم العالمي لحرية الصحافة.. صحفيون من غزة يتحدثون عن تج


.. جائزة -حرية الصحافة- لجميع الفلسطينيين في غزة




.. الجيش الإسرائيلي.. سلسلة تعيينات جديدة على مستوى القيادة