الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اسبينوزا: العقد الاجتماعي كمنعطف نوعي للانتقال إلى المدنية

بلال البازي

2016 / 6 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


إن الإنسان ومنذ حالة الطبيعة التي كان يتمتع فيها بحق مطلق بموجب قانون طبيعي مطلق ، وهو يعيش نوع من الفوضى ، إلى أن أدرك مصالحه قرر أن يبدأ أولى محاولاته للانتقال من حالة الطبيعة بشكل غير واعي فبدأ يقيم علاقات صداقة مع أبناء جنسه ، وهنا بدأ الإنسان يسعى بمحاولات جادة للتخلص من حالة الطبيعة الأولى ليمر بعدها إلى مرحلة أقل فوضى وأكثر احتكاماً للعقل ، فارتأى الأفراد لإبرام تعاقد اجتماعي فيما بينهم وذلك لأنه "...لا يوجد إنسان واحد يعيش دون قلق وسط العداء والكراهية والغضب والمخادعة ، ومن ثم فلا يوجد إنسان واحد يحاول الخلاص من ذلك بقدر استطاعته "30.
اللجوء إلى الاجتماع عن طريق التعاقد بهدف الانتقال من حالة إلى حالة أخرى أرقى تقوم على الحق والقانون المدنيين بدل الطبيعيين ، فهو ضرورة اضطر إليها الإنسان عندما أدرك مصالحه الذاتيه ، في الحفاظ على ذاته وتحصيل قوته ، أضف إلى ذلك فالإنسان مدني بطبعه ولا يمكن أن يستمر على حالة الطبيعة لأنه مشدود إلى بني جنسه ؛ أي لابد له من الاجتماع الذي هو المدينة في اصطلاحهم وهو معنى العمران . وبيانه أن الله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء ، وهداه إلى التماسه بفطرته ، وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله ، إلا أن قدرة، والواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجاته من ذلك الغذاء ، غير موفية له بمادة حياته منه...فلابد من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت لهم ، فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة الأكثر منهم بأضعاف. وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضاً في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه...ولما كان العدوان طبيعياً في الحيوان جعل لكل واحد منها عضواً يختص بمدافعته ما يصل إليه من عادية غيره ، وجعل للإنسان عضواً من ذلك كله الفكر واليد "31 . فالأمر هنا يتعلق بإدراك الإنسان لمصالحه من حفظ الذات وتحصيل الاطمئنان والغذاء ، فالعقد إذن هو نتيجة دوافع أنانية بالأساس "ولنلحظ أيضاً أن الناس يعيشون في شقاء عظيم إذا لم يتعاونوا ويظلون عبيداً لضرورات الحياة إن لم ينموا عقولهم من ثم يظهر لنا بوضوح تام أنه لكي يعيش الناس في أمان وعلى أفضل نحو ممكن ، كان لزاماً عليهم أن يسعوا إلى التوحد في نظام واحد ، وكان من نتيجة ذلك أن الحق الذي كان لكل واحد منهم، بحكم الطبيعة ، على الأشياء جميعاً ، أصبح ينتمي إلى الجماعة ، ولم تعد تتحكم فيه قوته أو شهوته بل قوة الجميع وإرادتهم "32، فالتعاقد وانتقال الحق الذي كان لكل واحد منهم وفق ما تمليه قوانين الطبيعة على كل ما يقع تحت قدرتهم ، إلى الجماعة والانتقال من سلطة الطبيعة إلى سلطة الجماعة هي ضرورة اضطر إليها الإنسان للتحرر من الخوف والشقاء إذ أنه " كان لزاماً عليهم أن يتفقوا فيما بينهم عن طريق تنظيم وتعاقد حاسم ، على إخضاع كل شيء لتوجيهات العقل ، وعلى كبح جماح الشهوة بقدر ما تسبب أضراراً للآخرين ، إذ إن العقل يوحد الناس أما الشهوة فهي تفرق ،إذ أنه لما كان كل واحد يتصرف وفقاً لشهوته فكان لزاماً أن يتفرق الناس وأن يسعى كل واحد منهم إلى ما تمليه عليه شهوته الخاصة ورغبته ، وبالتالي فكان عليهم أن يتفقوا أيضاً "على معاملة الناس بمثل ما يحبون أن يعاملوا به ، وأخيراً على المحافظة على حق الآخرين كما لو كانوا يحافظون على حقهم الخاص "33 فإذا حافظ كل واحد على حق الآخر وكأنه حقه الخاص فإنه حتماً سينتفي العنف بانتفاء الأنانية المطلقة وستحفظ حقوق الكل وسيتساوى فيها الضعيف والقوي أي سينتفي حق القوة، وأن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه.ولما كان الهدف من هذا التعاقد والاتفاق عبر تحقيق المصلحة فما أقبل عليه الأفراد إذ " إنه لقانون شامل للطبيعة أن أحداً لا يترك ما يعتقد أنه خير إلاَّ أملاً في خير أعظم ، أو خوفا من ضرر أكبر ، ولا يقبل شراً إلاَّ تجنباً لشر أعظم منه أو أملاً في خير أكبر. وبعبارة أخرى يختار كل فرد ما يبدو له أعظم الخيرين أو أهون الشرين " 34، ولكي يكون هذا التعاقد متيناً ومضموناً وجب إبرامه بشروط وأول هذه الشروط هو أن يفوض كل فرد بموجب هذا العقد حق طبيعي للآخر ، ومن له السلطة المطلقة التي تتيح له اجبار الآخرين على طاعته ، يكون له حق مطلق على الأفراد وهذا الحق يحتفظ به بقدر احتفاظه بقدرته على تنفيذ ما يشاء " وبدون هذا الشرط لا ينفذ أمره ويصبح ملغى، ولن يكون أحد ممن يتمتعون بقوة أكبر منه ، ملزماً بإطاعته ، إذا لم يشأ ذلك " 35 وبالتالي فإن هذا الشرط هو أن يفوض كل فرد كل ما له من قدرة ، وبموجب هذا التفويض يكون للمجتمع الحق الطبيعي المطلق على كل شيء ، ونقصد هنا السلطة المطلقة في اعطاء الأوامر التي يتعين على كل فرد أن يطيعها 36.
ومنه ، فإن الانسان حصل لديه نوع من الوعي بمصالحه الكبرى ، فقرر العيش تحت وطأة الدولة وقبول سلطتها والتخلي عن حالة الطبيعة ، والتنازل عن جزء من حقه الطبيعي لصالح الجماعة ، لأنه رأى في هذا التنازل خيراً أعظم أو شراً أقل ، الذي حرك في الانسان هذه الرغبة في الانتقال من حالة الطبيعة الى حالة المدنية والالتزام بهذا العقد المبرم الذي بموجبه فوض الفرد سلطة القرار للجماعة ، إما طمعاً في خير أعظم أو تجنباً لشر أعظم وبالتالي نستنتج أن " صحة أي عقد رهن بمنفعته ، فإذا بطلت المنفعة ، انحل العقد في لحال ، ولم يعد سارياً ، وثم يكون من الغباء أن يطلب إنسان من آخر أن يلتزم بعقد إلى الأبد دون أن يحاول في الوقت نفسه أن يبين له أن فسخ العقد يضر من يفسخه أكثر مما ينفعه ، وهذه نقطة مهمة للغاية في تأسيس الدولة "37. إذن يمكننا القول مع اسبينوزا إن العقد رهين بالمنفعة والمنفعة هي التي تجعل من العقد صالحاً وساريا المفعول ، وينتفي العمل به بانتفاء تحقيقه للمنفعة. على غرار ما نجده عند توماس هوبس الذي يرى بأن هذا التعاقد المبرم بين الأفراد والحاكم هو تعاقد أبدي لا تراجع فيه ولا يمكن فسخه ، وصيغة هذا العقد أو مبرراته هي الخلاص من العنف والحرب القائمة في حالة الطبيعة وتخليص الإنسان من الخوف بهدف حفظ الجنس البشري ، والأفراد يفوضون كل حقوقهم الطبيعية للحاكم ، بموجب هذا التعاقد يصبح للحاكم حق مطلق على الأفراد ، في حين يرى جون لوك بأن التعاقد يتم ابرامه بنوع من الرضا والتراضي بين الأفراد لتأسيس الدولة بهدف صيانة الآمن العام وتوفير السكينة والاطمئنان للأفراد ، وبهدف فض النزاعات بين الأفراد في حالة الطبيعة تفادياً لما قد ينجم عن تعدد الحكام من مساوئ بإيجاد سلطة لتنفيذ القانون. وإذا كان التعاقد عند هؤلاء الثلاثة هدفه هو الانتقال من حالة الطبيعة الى حالة المدنية فإنه مع جون جاك روسو فليس الهدف منه هو الانتقال من حالة لأخرى بل هو تعاقد داخل حالة المدنية نفسها بهدف رفع حالة الشقاء التي دخلها الإنسان بعدما كان سعيدا في الطور الطبيعي ورغبته في مزيد من السعادة أدت به إلى حالة المجتمع التي هي حالة الشقاء بدل السعادة ، ويتم هذا التعاقد من خلال تنازل تام عن كل الإرادات الخاصة باستثناء بعض الحقوق كالحرية والحياة والملكية .
=========================================
-30: اسبينوزا : رسالة في اللاهوت والسياسة ، ترجمة حسن حنفي ، الفصل السادس عشر ، ص 380
-31: عبد الرحمان بن خلدون؛ مقدمة ابن خلدون، تحقيق؛ أبي عبد الفتاح عادل بن سعد ،الدار الذهبية،ص:48
-32-33-34 : اسبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة – مصدر سابق- ص: 380 -381
-35 : اسبينوزا : رسالة في اللاهوت والسياسة ،مصدر سابق ، ص : 382
-36: المصدر نفسه: ص : 384
-37: اسبينوزا : رسالة في اللاهوت والسياسة : ص : 381








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار


.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟




.. يديعوت أحرونوت: إسرائيل ناشدت رئيس الكونغرس وأعضاء بالشيوخ ا


.. آثار قصف الاحتلال على بلدة عيتا الشعب جنوب لبنان




.. الجزائر: لإحياء تقاليدها القديمة.. مدينة البليدة تحتضن معرض