الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جون جاك روسو وشروط تشكيل العقد الاجتماعي..

محمد البورقادي

2016 / 6 / 29
السياسة والعلاقات الدولية


1.حرية الفرد في مقابل حرية الجماعة :

يؤكد روسو على أن النظام الاجتماعي هو حق مقدس يستخدم كقاعدة لجميع الأمور الأخرى ، لكن هذا الحق لا يتأتى أبدا من الطبيعة ، فهو مؤسس على اتفاقيات ، ويعطي مثالا لمفهوم السلطة بالأسرة التي هي المنوال الأول للمجتمعات السياسية ، فالرئيس بالتالي هو الصورة عن الأب ، والشعب هو الصورة عن الأولاد .وهؤلاء الأولاد قد ولدوا أحرارا و لذلك فهم لا يتنازلون على حريتهم إلا لصالح منفعتهم .ولذلك فحق الأفراد المتنازل المتنازل عنه لا يكون إلا لصالح الخدمات الاجتماعية التي يقدمها نظام سياسي ما ، وإذا صار تنازل بدون الظفر بالمصالح غدا الأمر كما كان يقول كاليغولا : "إما أن يكون الملوك من الآلهة وإما أن تكون الشعوب في غباء البهائم" (روسو ، ،1762).
فروسو يعتقد بأن القوة الذي يحكم بها الحاكم أو تمارسها السلطة ماهي إلا حق معطى وفق شروط واضحة ، وبالتالي فالطاعة المفروضة على الأفراد من قبل السلطة هي ليست إجبارية ولكن اختيارية لا تتم إلا بالتوافق والاختيار الواعي من طرف الأفراد الذين يختارون الالتزام بها بمحض إرادتهم ، ومن هنا فالطاعة ليست استسلام ورضوخ ولكنها امتثال مشروط بقوانين واضحة ، وأن الأفراد ليسوا ملزمين إلا بطاعة القوى المشروعة "أي التي لا تُفرض بالقهر وإنما بالرضى والتوافق " ، وهذا يحيلنا إلى القول بأن السلطة كحق لدى الحاكم ليست طبيعية ولا فردانية ، ولكنها حق مكتسب وجماعي يقدمه الأفراد على شكل هبة أو تنازل لشخص الحاكم ، لكن هذا التنازل الحر لا يتأتى بدون مقابل إلا إذا صدر عن شخص غير عاقل ، فما بالنا بالإقدام على فعله من طرف شعب بأكمله ، ولعل افتراض فعل ذلك يماثل افتراض وجود شعب من المجانين والجنون لا يسوّغ الحق.
إن بيع حرية الفرد للآخر بدون تعويض هو هدر لكينونة وماهية الفرد وتناقض مع أخلاقه ووظائفه كفرد حر له مطلق الاختيار ، ف"لا يحق أن لا يكون ملتزما بشيء تجاهنا ذاك الذي خولناه حق التصرف في بعض حرياتنا" (نفس المرجع السابق) ، والإتيان بذلك حسب روسو لا يكون إلا من طرف العبد المملوك الذي لا يملك من أمره شيئا أمام سيده ، وهذا كمخاطبة إنسان لآخر بالقول : "إنني أقيم معك اتفاقية عليك أنت كل وزرها ولي أنا كل نفعها ، أرعاها أنا ما طاب لي ذلك ، وترعاها أنت ما طاب لي الأمر أيضا".
وتلك حالة سيادية استبدادية وليست حالة قيادة مفوضة من الشعب لرئيسه ، وإنما هي علاقة سيد وعبيد . ويضع روسو الميثاق الاجتماعي كحد موضوعي للفصل بين تناقضات الرعية والحاكم ، هذا الميثاق الذي يكون مقتصرا على "وضع كل شخص قدراته وقوته موضع اشتراك تحت الإمرة العليا التي للإرادة العامة " (نفس المرجع السابق) ، وهذا يحيلنا مجددا إلى النظرية الوظيفية في علم الاجتماع والتي يعتمد عليها النسق لبناء تمفصلاته وأجزائه ، فالإمرة العليا هنا هي الجسم الواحد الذي يشكل كلا واحدا لا ينفصل عن باقي أجزائه "أي عن أفراد المجتمع "، هذا الجسم الكلي هو بناء متكامل ومتناسق ناتج عن اجتماع حريات واختيارات الأفراد ، وهو كل لا يتجزأ أي لا ينفصل عن باقي أجزاءه ، إذ في انفصاله ضياع النسق العام وإسهام في اختلال توازناته ، ذلك أن الجسم السياسي الذي تصدر منه السلطة أو القيادة يستمد فعله من وحدته وأناه المشتركة مع باقي الأفراد ؛ فهو شخص واحد "حاكم" مختزل ومجزأ في الآن معا ؛ مختزل في ذاته ومجزأ في الآخرين الذين فوضوا له أمر القيادة ، بل حتى هذا الجسم السياسي في انتمائه إلى الجماعة لا يمكنه أن يتنازل عن جزء من نفسه هو بالذات أو أن يذعن لصاحب سلطة آخر ، فذلك وإن دخل في مجال حريته واختياره الفردي فهو ناقض لمبادئ العقد.
إن العقد بهذا المعنى لا يلزم فقط الأمير والشعب باتباع القوانين المتواطئ عليها ولكن يلزم أيضا وبشكل حصري الحاكم بإيثار واستدماج حقوقه وميولاته ومحاولة صهرها أو مماتلثها مع ما ترتضيه الجماعة ، إذن فالجماعة هنا تمارس نوعا من الإكراه الغير معلن تجاه حرية الأمير المحدودة بحدود وجود وحقوق الجماعة ، لأنه كما أكد روسو فإن "أي خرق للإجراء الذي به يقوم وجوده يعني انعدامه " (نفس المرجع السابق). فوجوده بالتالي مقترن بوجود الجماعة ، أي هي التي تنتج وجوده وتنتج انعدام وجوده وفقا لبنود ومقاييس العقد المقدس.
إلا أن هذا الجسم السياسي في شخص الحاكم قد يحادث نفسه في بعض الأحيان بحديث مغاير للمصلحة المشتركة ، وقد يدفع به وجوده المطلق والمستقل بطبعه إلى تحقيق مصالح ذاتية لا ترتضيها بنوذ العقد وقد يحمله على خرقها اعتقاده "أن ما سيخسره الآخرون بتفريطه ضرره بهم أهون من فحش ما سيدفعه لهم" (نفس المرجع السابق) ، أي أن سلطة وسيادة مقامه من شأنها أن تحتوي كل نزاع تفتعله الرعية جراء الإخلال بالعقد فيكون بوسعه أن يتمتع بحقوق المواطن من دون أداء واجبات الرعية ، وهذا ضرب من الجور قد يسبب تناميه خرابا للجسم السياسي ، فمدى الالتزام بالعقد هو ما يسمو بالجسم السياسي عن مستوى الطبيعة وعن مستوى العالم الفيزيقي الغرائزي وهو المنهج التي من خلاله يحكم العقل والقانون والحق والعدالة بدل الميولات والنزعات الطبيعية .
إن إبرام العقد هو المرحلة الفاصلة بين الحالة الطبيعية والحالة المدنية وهو بحسب روسو ذلك "اللحظة السعيدة التي صنعت من حيوان بليد ومقيّد كائنا ذكيا وإنسانا "(نفس المرجع السابق). ولعل أي خرق أو إخلال من الجسم السياسي في حق المواطن هو بمثابة انحطاط وتقهقر وتراجع في اتجاه الوضع الطبيعي وارتضاء هذا الوضع كبديل في مقابل التخلي عن القيم العقلانية التي بها يسمو الإنسان ويتفرّد ويتعالى على فطرته الطبيعية التي ترفع من شأن العقل كأعلى قيمة لدى الإنسان يتميز بها عن كل الموجودات.
إن الميثاق الأساسي بدل أن يقوض المساواة الطبيعية يحلّ ، على العكس من ذلك ، مساواة أخلاقية مشروعة محلّ ما جاز للطبيعة أن تقيمه من تفاوت فيزيقي بين البشر ، وهكذا لئن جاز أن يكونوا متفاوتين بالقوة وبالموهبة العقلية فقد صاروا متساوين جميعا بمقتضى الاتفاق والحق، تلك المساواة هي قاعدة النسق الاجتماعي وجماحه عن الغضب والثورة ، لكن إن جاز القول فحال الحكومات اليوم لا يجسد هذه المساواة إلا ظاهريا وبشكل وهمي فهي لا تصلُح إلا لإبقاء الفقير في بؤسه والغني في غناه.
بما يدعو إلى إنتاج اللامساواة وإعادة توزيعها اعتمادا على استراتيجيات ، التي من فرط خيبتها أصبحت مكشوفة وصريحة لكامل الجسم المجتمعي.

2.الجسم السياسي كمنذوب عن الارادة العامة :

إن الجسم السياسي بحسب روسو يجب أن يكون خاضعا للإرادة العامة ، أي إرادة الكل، التي تكون دائما ميالة إلى العمومية ، إنها إرادة الجميع التي يُقصد بها المجموع الإحصائي للإرادات الفردية ، هذه الإرادة ، وإذ تتخللها إرادات متعادية أو متناقضة مع بعضها البعض ، فإنها تحكمها إرادات أغلبية الأفراد وتوجهها بما يتماهى ويتماثل إلى حد ما مع الإرادات المتناقضة الأخرى، وفي الوقت الراهن يمكن التعبير عنها بالأغلبية الحكومية التي تشكل الحزب الحاكم في مقابل المعارضة التي تتماهى مع الأغلبية من أجل إيجاد حلول وسطية بالتوافق.
إن الميثاق الوطني هو ما يقيم بين المواطنين من المساواة ما يجعلهم يلتزمون جميعا بالإنضواء تحت شروط واحدة ويحملهم جميعا على التمتع بالحقوق نفسها ، إنه ليس باتفاق يجربه من هو أعلى على مع من هو أدنى بحسب تعبير روسو، وإنما هو اتفاق الجسم مع كل عضو من أعضائه ، وهو اتفاق منصف لأنه مشترك بين الجميع ،واتفاق نافع لأن ليس له موضوع سوى الخير العام . ومن هنا فهو اتفاق الكل مع الكل أو عهد كل واحد مع الجميع ، وعهد الجميع مع كلّ واحد ، ذلك أن الإرادة العامة هي ما تسُوسُ الحاكم (وليس العكس كما هو حاصل إلى حد ما في مجتمعاتنا الراهنة التي تسوسها حكومات مستبدة متفردة الرأي والقول والتي تحوّل باستبدادها حقوق الأفراد إلى امتيازات تتفضّل عليهم بتحقيقها.
وأما في ما يخص العقد كإجراء أصلي للميثاق الاجتماعي ، فيُبثّ موضوع إنشاء عناصره للإرادة العامة كصاحبة سيادة ، والتي تشكل بنوذه وفقا لمعايير الخير العام الذي لا يحابي جزء على جزء داخل الجسم الكلي ، وإنما ينظر إلى الإنسان باعتباره فردا وإلى الفعل باعتباره مجردا . إن القانون بهذا المعنى هو قالب نمطي يكيّف أفعال الأفراد بحسب نموذجه التابث ، وليس هو بمكيّف للأفراد بحسب وضعهم أو دورهم الاجتماعي (كما الحال في بعض المجتمعات الحالية ) ، فالقانون بذلك هو أسمى من الكل أي لا تدخل في معاييره التراتبات الاجتماعية أو الطبقية التي يتشكل منها الجسم الاجتماعي ، كما أنه منزّه عن التحريف وعن الالتفاف على معاييره باعتباره نص مقدس تخضع لبنوذه القاعدة الاجتماعية.
ولكن رغم تقديس الشعب والجسم السياسي على السواء لمبدأ القانون ، فلا بد حسب روسو وأن يأتي على الشعوب مراحل تستعصي فيها عن الإذعان لهذا القانون وتحاول التحرر من سلطته ، فالأحكام المسبقة لها تاريخ معين تقف عنده ثم تحاول بعد ذلك غالبية الشعب التمرد عليها مهما كانت نزاهة وشفافية تلك الأحكام ، ففي عمر الدولة لا بد أن توجد هناك حقب من العنف فتحدث ما تحدثه الأزمات الحادة في الأشخاص من تغيير جذري يستفيق بعده الجسم السياسي أكثر قوة وينبعث من جديد بشكل يتجاوب أكثر فأكثر لتطلعات الإرادات العامة المتجددة على الدوام.
إن القوانين الواحدة وإن صدرت بالتوافق والإجماع من تلك الإرادة العامة، لا يمكنها أن تلائم كمّا هائلا من شتى الأصناف وذو أخلاق وميولات مختلفة ، حتى وإن صمدت "أي القوانين" لفترة زمنية طويلة فلن يمكنها الاستمرار بعد ذلك ، فمركز القيادة العليا ، إذ أثقلته الأعمال المتزايدة والمتضخمة لا يعود يأبه لشأن التدابير المتخذة ومدى نجاعتها ، وبالتالي ينشد الخلاص والتملص من الأداء على أحسن وجه بالتماطل تارة وبالتفويض تارة للقوى التي تقدم نفسها كراعية أمينة "كالقطاع الخاص" ، فيحدث أن يتهاوى ويتهالك هذا الجسم السياسي بالتقسيط ، ولمجابهة هذا التقهقر ، وجب على الدولة حسب روسو أن توفر لنفسها قاعدة ما لكي تكتسب الصلابة والرسوخ وتقاوم الهزات التي لا مناص من الابتلاء بها ، بأن تكثف من جهودها ، فإن لم تتمكن من المجابهة فعلى الأقل تحاول الحفاظ على التوازن قائما بشكل يجعل الظغط ينقسم بالتساوي على مجموع الجسم الاجتماعي وذلك لكي لا يهلَك المستضعفون ويبقى الأقوياء ، ولذلك فالعلاقة بين الدولة والشعب بالإضافة إلى أنها يجب أن تكون توافقية لزم كذلك أن تدعمها القوانين التي تقوم بدورها على ترسيخ تلك العلاقة ومعاضدتها وتصحيحها .لكن وبخلاف ذلك ، أي إذا حدث أن جنح المشرع إلى مبدإ مغاير لما فيه صلاح وخير الغالب على حساب صلاح القلة الحاكمة ، فيصير أحد الطرفين يتوق إلى الاستعباد والآخر ينشد الحرية ، الأول ينشد تكديس الثروات والآخر يصبو إلى التزايد السكاني ، الأول يصبو إلى السلام والآخر إلى نهج العنف ، بات الجسم السياسي حينذاك يعتريه الفساد بكل مكوناته وسقطت هيبة القوانين لانتفاء شرعيتها وأحقيتها ، فما تلبث الدولة أن تستحيل مضطربة فتسقط هيبتها في عيون الأفراد ويقوم الصراع بين الطرفين ؛ الرعية تحاول استرداد حقوقها والدولة تسعى للحفاظ على مكاسبها.
إن تمثل الحاكم للسلطة كمفهوم ثيوقراطي وكحق وتفويض إلهي هو ما يبرر له أحقية الاستئثار والانفراد بالحكم المطلق والتحايل على القانون أو تحويره في الخفاء بما يتناسب وميولاته ضدا على مصالح إرادة الشعب ، وفي ذلك مفسدة مطلقة ، وهذا هو ما دعا إليه طوماس هوبز حيث أكد على ضرورة تأسيس الحكومة المطلقة القائمة على حكم فرد أو مجموعة أفراد تتوفر على حقوق مطلقة وتلتزم بها الرعية وجوبا وليس للرعية الحق في نقضها..
ويضيف روسو بأنه في حالة فشل قوانين الدولة عن بلوغ تطلعات الأفراد أو في حالة هرمها ، فإن هناك عنصرا آخر يحييها ويبعثها من جديد وهو العادة أو الأخلاق الجارية والأعراف ، هاته الأخيرة هي التي تنغرس في اللاوعي الجمعي بصورة لا إرادية وهي ما تستعيض به الدولة عن قوة السلطة "العنف"، وهي الهيمنة الرمزية التي تُقنع بدون جدال وتحقق المطلوب بدون مقابل ، فهذا العنصر المضمر والذي يشتغل في الخفاء هو ما يغرس النظم في مختلف أجزاء الجسم الاجتماعي ، لكن إذا حدث عكس ذلك ، أي إذا كانت الأخلاق الجارية أقل تعلّقا بالقوانين ، وجب أن تزداد قوة الردع.
كما يطرح روسو في سياق آخر ، مبدأ استهلاك الفرد الذي ينبثق من مجموع إنتاج كل الأفراد ، هؤلاء الأفراد بما فيهم هو ، يعود فضل إنتاجهم بالتساوي، وعلى حسب الاستعدادات المتباينة للأفراد، على فضل استهلاك الفرد بذاته ، وهو ما يطلق عليه باليد الخفية بتعبير آدم سميث ؛ تلك اليد التي تحرك الاقتصاد بما يكفل سد حاجيات الأفراد .إلا أن مجموع إنتاج الأفراد قد يزيد في بعض الأحيان عن ضروراتهم بما ينتج فائضا عن الحاجة، كما أن هذا الفائض يتباين كمّه باختلاف المناخ والبلد وأسلوب العمل واستعدادات الأفراد ، فكلما زاد حجم تلك العوامل السابقة تضاعف مجموع الفائض وكلما نقص تراجع ، كما يتحكم ، بالموازاة مع ذلك ، في حجم الفائض مقدار المسافة التي تفصل الشعب عن الحكومة ، حيث أنه إذا كان الشعب في كنف الديموقراطية تحمّل من الضرائب أقلّها ، وإذا كان في كنف الارستقراطية ارتفع مقدار ضرائبه ، أما إذا كان في كنف الملوكية تحمّل العبء الأكبر من الضرائب ، وبالتالي فالملوكية بحسب روسو لا تلائم إلا الأمم الثرية والأرستقراطية لا تلائم إلا الدولة متوسطة الثراء ، أما الديموقراطية فلا تتناسب إلا مع الدول الفقيرة.
والقصد من ذلك أنه في الدول الديموقراطية أو الارستقراطية ، يسعى كل فرد إلى تحقيق المنفعة المشتركة ، أما في الدول الملوكية فتكون القوى العمومية (الشعبية) والقوى الجزئية (الفئة الحاكمة) في وضع منافسة ، كل قوة تريد جلب النفع باتجاهها عن طريق تحطيم القوة الأخرى والمقابلة ،وهذا ما يولّد صراعا طبقيا يجمع بين البؤساء والأغنياء.
ويخلص روسو إلى أن هناك طريقتين تؤول بهما الحكومة إلى الفساد ؛ الأولى عندما تنكمش الحكومة والثانية عندما تنحلّ الدولة ، فالحكومة تنكمش حينما تنتقل من الديموقراطية إلى الارستقراطية ومن الارستقراطية إلى الملوكية ، أما إذا ارتدت من الارستقراطية إلى الديموقراطية فيمكن القول بأنها تتراخى وهذا محال أن يحصل.
ومما به تسقط الحكامة الجيدة ، اختيار نواب يؤثرون مصالحهم الخاصة على حساب الإرادة العامة ، فيفرط بهم الخمول وحب اكتناز المال إلى اتخاذ عساكر فيستعبدون الوطن ويتاجرون بأفراده على حساب رفاههم.
كلما كان تكوين الدولة أصلح ، تغلّبت في أفهام المواطنين الشؤون العمومية على الشؤون الخاصة ،بل إن ما يوجد من شؤون الخاصة أقل بكثير من ذلك ، إذ إن مجموع السعادة المشتركة يوفر لكل فرد حصة أعظم من تلك التي يوفرها لنفسه ، ومتى لا تعني للنواب الإرادة العامة في شيء لزم القول بأن الدولة قد بارت.
كما أن فعل التكوين الذي يؤسس الحكومة ليس عقدا ، وإنما هو قانون وأن المؤتمنين على السلطة التنفيذية ليسوا أسياد الشعب وإنما هم مأموروه ، وأنه يمكن للشعب أن ينصّبهم في وظائفهم وأن يعزلهم عنها متى طاب له الأمر أي متى تبث أنهم لا يقومون بواجباتهم كمواطنين ، وله أن يفصلهم متى شاء كذلك لأن تلك المناصب ليست إلا صورة مؤقتة تمنحها الإرادة العامة لهؤلاء الأفراد وقد تغير مظهرها إن تنافى ما يقوم به الأفراد المؤتمنون مع الخير العمومي ، كما أن الحاكم بدوره قد يتعذر إمساك الخلل عليه إلا وفق ما تضبطه حدود القانون الذي يستمد منه الحاكم فائدة كبيرة تحفظ له القدرة على اغتصاب السلطة ، فقد يظهر وكأنه يمارس حقوقه وأنه لا يحيد عنها في حين أنه قد يوسّع مداها ليجني أكبر نسبة من الراحة والرفاه ، "فقد يجني من سكوت فيحول دوون انقطاعه ، ومن مخالفات فيحث على ارتكابها ، وأن يسلط عقابا على أولئك الذين يجرؤون على الكلام " (نفس المرجع السابق) ، فما أن يُتنتخَب الحاكم لعام واحد حتى يسعى لتمديده أعواما ويعمل على ذلك بطرق مشروعة وبأخرى غير مشروعة إن اقتضى الأمر سعيا لتأبيد سيطرته وتأزيلها ، مستفيدا من إمكانياته ، وبهذه الوسيلة السهلة فإن كل الحكومات في العالم ، ما أن تتهيأ لها القوة العمومية ، حتى تعمَد إن عاجلا أم آجلا ، إلى اغتصاب السلطة السيادية وتسخيرها لخدمة مصالحها وضرب الإرادة العامة عرض الحائط.
وهذا ما يؤكده ماركوز في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد" حيث يرى بأن عالم الحضارة الصناعية المتقدمة هو عالم استبدادي توتاليتاري (كلي)، له القدرة على وأد أي محاولة لمعارضته بل وعلى دمج القوى الاجتماعية وتعبئة جميع طاقات الإنسان(الجسدية والروحية ، القوى الاجتماعية ) لحمايته والذود عنه، وهنا يأتي دور السياسة، حيث السلطة السياسية لها مطلق السلطة على الصيرورة الميكانيكية وعلى التنظيم التقني، ويقول ماركوز "أن الأنظمة الأكثر ديكتاتورية في التاريخ فشلت في النهاية في إلغاء البعد النافي لها، في حين نجحت الأنظمة الديمقراطية المتقدمة صناعيا في إلغاء ذلك البعد", (ماركوز، 1968) ويلاحظ هذا من خلال توجه تلك الأنظمة إلى نظام الحزبين، الذين يمثلان قطبي تعارض المجتمع، وهو تعارض وهمي لامتصاص المعارضة الحقيقية، حيث تنعدم القدرة على التمييز بين برامج الحزبين السياسية الداخلية والخارجية، ويأتي ذلك لقطع الطريق على القوى الاجتماعية التي يمكن أن تكون عامل التغيير الحاسم في المجتمع، ومن هنا عجزت الأحزاب الثورية بل وانزلقت نحو الانتهازية والإصلاحية والاندماج والتماهي بالنظام القائم بدل أن تعمل على التغيير. كما تحوز الدولة (السلطة السياسية) على مكونيين أساسيين لإبطال أي مفعول للمعارضة، لكونها دولة رفاه، تعمل دوما على خلق حاجات مصطنعة لأفراد المجتمع ومن ثم تلبيها، أما المكون الثاني فهو أنها دولة حرب دائمة، تستنفر كل القوى لمواجهة الخطر الدائم والمهدد لها (كالحرب النووية أو الغزو الخارجي وخطر الشيوعية)، حيث تعمل دوما على التذكير بذلك الخطر لكبح ودمج القوى التي لم يستطع الجهاز قمعها ودمجها، وبذلك يكون منطق السياسة منطق هيمنة وسيطرة وتحكم في كل المجالات والقوى الإنسانية وتسخيرها لخدمتها بنهج شتى الحيل والمسوغات الممكنة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الولايات المتحدة و17 دولة تطالب حماس بإطلاق سراح الرهائن الإ


.. انتشال نحو 400 جثة من ثلاث مقابر جماعية في خان يونس بغزة




.. الجيش الإسرائيلي يعلن قصف 30 هدفا لحماس في رفح • فرانس 24


.. كلاسيكو العين والوحدة نهائي غير ومباراة غير




.. وفد مصري يزور إسرائيل في مسعى لإنجاح مفاوضات التهدئة وصفقة ا