الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البنية المؤسساتية للهجمة الفكرية

فراس جابر

2005 / 12 / 14
العولمة وتطورات العالم المعاصر


يبدو أن الأمور تتجه عربياً من سيء إلى أسوء في مناحي مختلفة، ويظهر للمراقب العادي أن الأوضاع العربية في تراجع مستمر لم يفلت منه مجالاً أو حقلاً إلا وتأثر بالتراجع الحاصل، تحت ضغط الهجمة الامبريالية الجديدة الممثلة باحتلال العراق، وتهديد سوريا، والتدخل الجديد تحت ستار التحقيق في قضية اغتيال الحريري، وصولاً إلى دارفور "مسمار جحا" في السودان، لكن من غير الواضح تفاعلات الهجمة الثقافية التي تشن بطرق متعددة على الثقافة والهوية العربية بخطوطها العامة على الأقل، والتي تحاول من خلالها تدجين هذه الهوية والثقافة تحت ضغط "العولمة" والدخول في هذا النظام العالمي "العادل" الجديد، والذي لا يقيم وزناً للاختلافات الثقافية والحضارية تحت ضغط توحيد نمط التفكير ليشبه ذلك "الرأسمالي الليبرالي" المنتشر في الولايات المتحدة وحلفائها المنتشرين، كما يهدف هذا التوجه إلى إلغاء الفروقات والتمايزات الثقافية التي تميز الأمم الأخرى، من حيث تعزيز قيمة الثقافة الغربية ومالكها، وقيمته "السوقية"، وتخفيض أهمية مالك وناقل الثقافة الأخرى المغايرة لها، في محاولة جادة من اجل نشر "التماهي" بشكل شعبي، مطالباً بشكل واعِ وغير واعِ بامتلاك تلك الثقافة كتذكرة لدخول نادي "النخبة" سواء وجدت محلياً أو عربياً أو عالمياً، تلك التذكرة التي تفتح المجال للكثير من العلاقات "المفيدة"، والوظائف "المحترمة" والمجزية، بالإضافة إلى الشعور الذاتي بالرضى عن الذات لامتلاك مؤهلات الرضى العالمي "الجديد"، والانضمام إلى الطليعة الجديدة التي ستشكل الحجر الأخير في الهزيمة العربية، ولكن هذه المرة من جهة مثقفيها وثقافتها، وكتاباتهم التي تصل القاعدة وتؤثر بها، وتتجه نحو تغيير سلوكياتها وفقاً لهذا المطلب الثقافي الجديد.
أدوات إعادة الإنتاج الثقافي للهجمة الثقافية منتشرة وموجودة متمثلة في نخب من "المثقفين" المرحبين بهذا التوجه وفقاً لإعادة تشكيل النظام بما يخدم مصالحهم الذاتية، ويعيد تشكيل المجال الاجتماعي وفق المحددات الجديدة، وشطب المكونات القديمة التي تعتبر "شوائب" معيقة لعملية التغيير، مع شريحة متضامنة أو متساوقة في نمط التفكير لكنها تقف في الخلف من جهة إعادة التشكيل وإن رغبت به، تغطي هذه "النخبة" أشكال كثيرة من المؤسسات المنتشرة ومنها بعض مؤسسات المجتمع المدني الصاعدة نحو صياغة هذه "الثقافة" بشكل مقبول مجتمعياً، وفي إطار زمني واسع من خلال أشخاص مقبولين اجتماعياً يمارسون نشاطاً مستمراً للتحرك داخل القاعدة لأشعارها بوجودهم، واهتمامهم بمطالبهم، والأدهى كذلك ادعاء البعض تمثيل مطالبهم لدى المستويات الفوقية من السلطات المختلفة مستغلين الإمكانيات الكبيرة المسخرة لهذا الهدف، ومزودين بعلم ومال، وخوف السلطات السياسية العربية من إغضاب الحكومات الغربية، وحفاظاً على هامش من حريات الرأي والتعبير المكفولة "للجميع" وفقاً لتراتبية العلاقات المتقاطعة مع الثقافة الغربية.
نجد هؤلاء منتشرين في مواقع مختلفة، ولكن أوضح مكان لمعرفتهم، المؤتمرات التي تعقد في بعض الدول الغربية للتداول في أزمات وإشكاليات المجتمعات العربية، وسبل حلها لاعنفياً، من خلال احتلال مواقع مهمة في المجتمع المدني.
من الأدوات المباشرة المهمة في إعادة تشكيل الثقافة وفقاً لخطوط أساسية تسهل مهمة السيطرة والهيمنة ثقافياً من قبل نخب "عربية" هي وسائل الإعلام سواء تلك الغربية التي تخاطب باللغة العربية مثل قناة الحرة، وإذاعة سوا، والمتتبع لما يبث وماهية المصطلحات التي تستخدمها يمكنه معرفة شكل الهجمة الثقافية وعملية إعادة تشكيل الهوية والثقافة من خلال إعادة إنتاج مصطلحات ومفاهيم لظواهر اجتماعية وسياسية معروفة، وتغيير الموقف منها، ولا يوجد مثال واضح مثل ما يسمى "الإرهاب" والمقصود به هو النضال ضد الهيمنة والاحتلال، وعليه يقاس ما يبث وينشر ويكتب من هذه الجهات، أو وسائل الإعلام العربية التي أصبح خطابها الثقافي ملامساً للخط الفكري الغربي أكثر منه للخط الفكري العربي الذي يجب ان يتناول قضايا وهموم المجتمعات من زاوية مصلحتها المباشرة، لكن الحاصل هنا هو أن "المثقفين" و"المهنيين" الموجودين والمسيطرين على بعض سائل الإعلام هم من نفس الشريحة الموصوفة "مغربنة".
تتكامل الحلقات وتعمل على الوعي وعلى الثقافة عمل هدم، وتغييب، وإعادة تشكيل جديدة تتناسب مع خطط الهيمنة والسيطرة المباشرة، ليس فقط من خلال الوكلاء القدامى بل ومن خلال وكيل جديد هو الثقافة، وبالتالي تكتمل دوائر الهزيمة عسكرياً واقتصادياً مع تلك الجديدة الثقافية، ولكن الخطير بأمر هذه الهزيمة "الثقافية" هو أنها لا تظهر بواقع الحال كانتصار للثقافة الغربية على الثقافة العربية، بقدر ما تظهر تجلياتها في التقارب الحاصل بين الثقافتين وإلغاء التمايز شيئاً فشيئاً حتى تصبحا متماثلتين مضموناً، ومختلفتين شكلاً مع اتخاذها موقع التابع للثقافة الغربية، هذا الخداع الذي يمارس من اجل إقناع الجماهير بأن ذلك التقارب هو من باب حوار الثقافات في ظل قرية كونية صغيرة تدعى "عولمة"، وبالتالي هذا الاقتراب والحوار هو لمصلحة الجميع مع أنه في مصلحة من يمتلك أدوات التأثير المادية والرمزية المرتبطة بالمال أيضاً، ووسائل إنتاج الثقافة، وهذه المكونات هي للأسف موجودة "غربياً" أكثر منها لدى من يملك رؤية مختلفة لهذا الواقع.
محصلة هذه الهوة في امتلاك وسائل التأثير، التقارب الثقافي الظاهري، والنسخ الباطني للثقافة الغربية، وتحديداً تلك الأبعاد التي تبين السيطرة والهيمنة كوضع طبيعي من إنتاج الظروف لا من إنتاج البشر، والنتيجة الأخرى المرتبطة هي فقدان البدائل الثقافية والفكرية بحكم سيادة وهيمنة ثقافة تحمل بذور الهزيمة وتعيد إنتاجها، بحيث يصبح البديل هو الخروج عن "الطبيعي" التي تكون نتاج عمل بنيوي ومؤسساتي، ورفض المجتمع "التقليدي" لهذا الخروج وشطب الخارج عن مألوف التفكير والثقافة.
خلاصة الحديث أن الخطير بأمر المعركة الثقافية أن جاز التعبير أنها من طرف واحد فقط يمتلك كافة الأدوات والوسائل اللازمة لإعادة تشكيل ثقافة "مسيطر عليها" بنيوياً من قبل مؤسسات إنتاج لهذه الثقافة محلياً تقوم عليها نخب محلية ضالعة بدور جلي وواضح لها، خفي عن المجتمع، تؤسس لتغيرات ثقافية "تعتبر طبيعية" يعاقب من يخرج عنها، أو يحاول نقدها وتغييرها سواء من الداخل أو من الخارج، وحينها فقط يصبح بالإمكان القول ان حلقات الهزيمة اكتملت.
*باحث/ منسق مشروع الحكم الصالح








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السياسة الفرنسية تدخل على خط الاحتجاجات الطلابية


.. روسيا تزيد تسليح قواتها ردا على الدعم الغربي لكييف | #غرفة_ا




.. طهران.. مفاوضات سرية لشراء 300 طن من اليورانيوم | #غرفة_الأخ


.. الرياض تسعى للفصل بين التطبيع والاتفاق مع واشنطن | #غرفة_الأ




.. قراءة عسكرية.. صور خاصة للجزيرة تظهر رصد حزب الله مواقع الجي