الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أجراس وعلامات..مكان ربما

ناصر قوطي

2016 / 7 / 2
الادب والفن


أجراس وعلامات..مكان ربما
ناصر قوطي
"الطفولة وحيدة والذين يجيئون غامضون"
إيف بونفوا
بدءاً قبل الغوص والعودة إلى المكان والنبش في الرماد،أو التمرغ في تراب طفولتنا باعتبار التراب المكان الأول الذي عرفناه وسنعود اليه رغم انوفنا،لابد لنا، أن نطرح على أنفسنا سؤالا قبل أن تسترجع ذاكرتنا رائحة وسطوة الأمكنة التي ساهمت بخلق ذاكرتنا ووجهة نظرنا ازاء مايحيط بنا..السؤال:ما الذي يعنيه المكان؟هل هو البيت،جدران الغرفة،الخمارة،الجامع،الكنيسة،القبر.
هل هو هذا الحيز الجامد من الحجارة والتراب والاسمنت.أم ان المكان بالمكين،بمن تواجد فيه،هو الوجوه،الناس،الاصدقاء،الزوجة،الأطفال،الكائنات،الأشجار التي تتنفس،رائحة عطر ما أو نغمة موسيقية ظلت عالقة في الذاكرة تثير شجنك كلما سمعتها،لأنها وقعت وشممتها في لحظة لها خصوصيتها.على الصعيد الشخصي مررت بعدة أمكنة،سأرجىء "البصرة"لأن الحديث عنها يطول،وسأعرج على نينوى وبغداد.في نينوى لما يزل ذلك اللقلق الحزين الذي جلبه أبي،برقبته الهيفاء ومنقاره المحراثي الطويل وعينيه الفيروزيتين اللتين أورثتاني حزنا لم أزل أستشعره حتى اللحظة حين فقدته،يوم أهداه أبي إلى زميل له يعمل في سلك الشرطة الحدودية.ذلك االطائر الوديع غدا جزءا من المكان،احتل حيزاً في الروح قبل الذاكرة.في بغداد "البتاوين" خلف كنيسة الأرمن، لم تكن مخيلتي ترصد أو تتعدى حدود سياج المقبرة،كنا نعتلي حائطها الطيني الواطىء أنا وصديقي قاسم،ونترك نظراتنا البريئة تجوس وتتجول في غروب رمادي يخفق فوق القبور،يمتزج بلون برتقالي شفيف،يعج بأطياف لاتحصى، ثمة شبحان اعتدنا رؤيتهما كل غروب.ظلان يتقاذفان الكرة،لم يكن الشبحان إلا شقيقي الكبير مهدي وزميله يوسف ابن سيد سلمان،ولم تكن الكرة إلا جمجمة بشرية.
قرب سياج المقبرة وفي أحد أركانها،كانت تنتصب شجرة سدر عملاقة تعود الى السيد سلمان،الذي كان ينهرنا كلما اقتربنا منها.ثمة كوخ واطىء ليس بعيدا عن السدرة يضم جسد امرأة عمياء تعدت عقدها الثامن تدعى "كورهن" كانت تعيش على الصدقات.عند بابها يربض كلب رمادي هرم،احدى عينيه غدت حفرة غائرة،حين فقأها السيد سلمان بعصاه يوم جلب الكلب جثة طفل رضيع من المقبرة،وأحضرها الى كوخ العجوز. ربما اعتقد الكلب انها كانت جائعة وكان اليوم عيد..لم يذكرها أحد يومها فالجميع كان منشغلا بهندامه وزياراته،أذكر انني سرقت رغيف خبز وأحضرته اليها،وراحت تشير بأصابعها العجاف ممتنة لي لتهبني بركاتها حين تتمتم بكلمات غامضة وتشير الى سقف كوخها الواطىء بأصابعها المتشنجة.كان الكلب الذي اعتدنا رؤيته وملاطفته يربض قرب بابها ولاينبح إلا حين يرى غريبا،في ذلك اليوم وكان اليوم عيد،حين وصل الخبر الى السيد سلمان قام مع أولاده بتخليص الجثة المكفنة من بين أنياب الكلب.من يومها اعتقد الناس ان في جسد الكلب روح شيطاني،كما ادعى السيد سلمان،فقام بسمل إحدى عينيه بعصاه.ظل الكلب يعوي ويتمرغ بالتراب _ولأعوام_ كلما رأى السيد سلمان بقامته الفارهة وعصاه.
العلامة الفارقة الأخرى التي لم تنطمر تحت رماد النسيان،تنبثق صورة المجنون"فوفي"هذا الرجل العملاق الذي التهم قدراً كاملا من أقراص "الشلغم" من عربة أبو نعيم،وفي غفلة منه.و"فوفي" هذا رجل مجنون طويل القامة يعتاش من القمامة ولايتحمل ثقل ثيابه التي كان يمزقها كلما سعى أحدهم إلى إلباسه حلة جديدة،وفي حقيقة الأمرلم يكن هؤلاء الذين يعطفون عليه بلباس ورداء كرماء معه،بل كانوا أبخل من في المنطقة،ولكنهم كانوا خائفين من عريه الفاضح وهو طويل القامة..وشيؤه طويل..ولأن زوجاتهم جميلات ويتلصصن عليه كلما مر عاريا وهو يرقص ويجدف ويشتم كل من يراه ويصادفه أمامه،فقد نشأت تلك الرحمة والقسوة المضمرة ،ليكملوا وجاهتهم ويحسنوا صورهم.وليدفعوا _في نهاية الأمر_ التقولات التي راحت تتناقلها الألسن عن الزوجات الجميلات ودعوتهن للمجنون والاختلاء به في الظهيرات القائظة.الصورة الأخرى التي انطبعت في الذاكرة هي سماعنا لناقوس الكنيسة،وهو يقرع بإيقاعه المألوف،لنهرع نحن الصغار صوبه،ونعود محملين بالهدايا والحلوى، والشموع الصغيرة الملونة.حتى باتت ايقونة السيد المسيح وتمثال السيدة مريم منطبعة في الذاكرة..تلك المشاهد أو المشاهدات في الذاكرة الطفلية التي كنت رأيتها من قبل في "نينوى" مسقط رأسي،تكررت في بغداد قرب كنيسة الأرمن.ولما تزل تلك الأجراس برنينها الكنسي تصلني عبر خمسة عقود من الزمن لتوقظ في الذاكرة تلك البهجة والمرح الطفولي ولم تزل تذكرني بقلنسوة الكاهن السوداء وابتسامته الوديعة،والراهبات اللاتي يشبهن الفراشات،بحفيف أرديتهن وأرواحهن المرفرفة الخافقة،ووجوههن المدورة الصغيرة البيضاء،والابتسامة لاتفارق شفاههن.تلك الأجراس التي كانت تعني لدي الكثير،لم تذكرني بصلب السيد المسيح على جبل "الجلجلة"ولم تثر في داخلي ذكرى موت امرء ما.أو تشير الى مأتم،بقدر ماكانت تملؤني بالبهجة والمرح...السؤال: هل المكان هو سيد سلمان؟الكلب الأعور.."فوفي" المجنون.. "كورهن" العجوز..الجدار الطيني الواطىء للمقبرة..الجمجمة التي يتقاذفها الصديقان..جرس الكنيسة..الراهبات..اللقلق الحزين..أم ان كل ذلك يشكل أيقونة مؤطرة لمكان يسمى وطن؟










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا