الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين صوت العقل وصوت القطيع ودور الإعلام

صائب خليل

2005 / 12 / 14
الصحافة والاعلام


" قال القطيع : من فتش تاه, ومن إنعزل ما أمن العثار. وأنت قد عشت طويلاً بين هذا القطيع ولسوف يدوي صوته ملياً في داخلك" : نيتشة, هكذا تكلم زرادشت.

العقل والقطيع:
ليس الإنسان خروفاً في قطيع, بل كائن مفكر مبدع ذو ارادة مستقلة وخيار حر... ولكن ليس دائماً.
فالإنسان كائن مفكر, لكنه كائن اجتماعي ايضاً, وتتنافس صفتيه هاتين على السيطرة على قراراته, فتنتصر واحدة حيناً, وتنتصر الثانية حيناً اخر.

كلما زاد الفرد وعياً وثقافة وقدرة على التمييز, ازدادت رغبته في اتخاذ قراره على اساس عقلي, وازدادت قدرته على الوصول إلى القرار الصحيح والثقة به, حتى لو رأى الآخرون عكس ذلك.
أما من كان اكسل ذهناً أوأقل جرأة للمغامرة في إتباع قراره المنفرد فأنه يفضل غالباً الحل الجاهز الذي يقدمه له القطيع ليسير خلفه. ولكن, حتى المثقف المستقل المعتز برأيه وعقله, يستفيد كثيراً من توجيهات القطيع دون ان يعلم.

في الستينات من القرن العشرين اجرى عالم نفس امريكي التجربة التالية:
يجلس مجموعة من الأشخاص أمام منظم التجربة, الذي يخبرهم ان الهدف من التجربة هو معرفة دقة التقدير البصري للفرد. ثم يقوم بعرض مجموعات من البطاقات, تتكون كل مجموعة من بضعة بطاقات رسم علي كل منها خط, وكل خط بطول مختلف. ثم يسألهم المنظم أن يشيروا الى البطاقة ذات الخط الاطول.
وفي الحقيقة فأن جميع المشاركين في التجربة هم من الممثلين عدا شخص واحد يجلس بينهم ولايعلم ان التجربة تجري عليه لوحده.
تبدأ التجربة فيشير جميع الممثلين الى بطاقة خاطئة عمداً. يرى الشخص ان الجميع يختلف معه, لكنه يشير الى البطاقة الصحيحة. وبعد تكرار العملية بضعة مرات يبدأ الشك بالتسرب الى نفسه, رغم انه يرى بوضوح ان الخط الأطول هو غير ما يشير الآخرين اليه. وأخيراً يستسلم ويبدأ بالإشارة الى نفس البطاقة التي يشير اليها الاخرون! فالإختلاف عن المجتمع يسبب القلق, والإتفاق معه يعطي إطمئناناً وراحة.

ولو حاولنا نقل نتائج هذه التجربة الى عالم الإنتخابات نجد أن الناخب قد يتأثر قراره العقلاني برأي الغالبية أيضاً, حتى لو كان المنطق يشير الى ان الإختيار يجب ان يكون تحليلياً عقلانياً بحتاً.

ولكن ماذا يفعل الإنسان المنتبه المعتز بعقله المميز لما هو صحيح عما هو خطأ بإستقلال, عندما لايجد ذلك العقل حلاً؟ من الطبيعي عندها أن يلتفت الى القطيع يسأله حلاً! لذا, فمن المعقول ان القطيع حين يفشل في اقناع البعض, ان يلجأ الى منعهم من الوصول الى حل, وسيتخذون بأنفسهم القرار بالعودة اليه. مثل هذه العملية المنظمة لايقوم بها القطيع عادة, بل يمكن ان يفعل ذلك من يقود القطيع ويسيطر عليه.

ألإعلام:
حينما كان القطيع مكوناً من بضعة عشرات او مئات من الأفراد, كان بإمكان كل فرد ان يرى ويسمع رأي القطيع وخياراته. أما اليوم فيتكون من ملايين وعشرات الملايين واحياناً مئات الملايين من الافراد يجتمعون في دول. لذا لم يعد ممكناً في رؤية وسماع القطيع مباشرة بل من خلال وسائل الإعلام. وبما ان المجتمع, أو غالبيته, لاتسيطر على وسائل الإعلام, فأن تلك الوسائل لاتعكس رأي تلك الاغلبية بالضرورة, بل تعكس رأي المسيطرين عليها!

لذا فإننا عندما نحار في خياراتنا في الانتخابات مثلاً, فأننا نلجأ الى وسائل الإعلام لنستشف منها رأي "القطيع", وبذلك نقع في الفخ. فإن قرأت عشرة مقالات تؤيد الجانب الأول مقابل مقالة واحدة تؤيد الثاني فأنك تستنتج دون وعي, أن معظم الناس تؤيد الجانب الأول, رغم انه لايعني سوى ان عدد من يؤيد ذلك الجانب من المسيطرين على وسائل الاعلام اكثر. لايقع في ذلك الافراد العاديون وحدهم بل كذلك مؤسسات سياسية كاملة. كمثال لاينسى على ذلك اتذكر أن الفلسطينين اقتنعوا بهزيمتهم الإعلامية أمام إسرائيل وأعترفوا بها رسمياً من خلال مسؤوليهم الإعلاميين قبل بضعة سنوات. وبعد فترة قصيرة جداً ظهر الاستفتاء الاوروبي الذي يبين ان جميع شعوب اوروبا الغربية بلا استثناء كانت تقف بالضد من اسرائيل!

لم يملك الفلسطينين أن يسألوا الناس فرداً فرداً, ولا حتى اجراء استفتاء مستقل جيد, لذا اعتمدوا على مايبدوا على تقدير رأي الناس من خلال مواقف حكوماتهم وصحفهم وبقية وسائل الاعلام, وكان ذلك خطأ تماماً!

وهناك ميزة اخرى للإعلام في الفترة التي تسبق الانتخابات, وهي القدرة الاضافية على الكذب وتشويه الحقائق. فمشكلة الكذب الاساسية أنه غالباً ما يكتشف بعد فترة. لكن في الايام القليلة السابقة للانتخابات يتحرر الكذب والتشويه من ذلك العوق, لأن اكتشافه بعد الإنتخابات لن يكون مهماً لذا فعليه ان يصمد لبضعة ايام فقط.

في الساحة الاعلامية العراقية الآن حملة تشويه حقائق لم تشهدها من قبل, جلها موجهة لإمتداح المرشح علاوي وتوجيه التهم الى منافسيه من الإئتلاف الشيعي. ولو صدقنا تلك الحملة, فعلينا أن نصدق ان الشيعة وحوش جاءوا من ايران لإفتراس العراق, وأن ننسى انهم الغالبية الكبيرة في العراق, وأنهم عراقيون, ربما اكثر ممن يشكك بعراقيتهم.

كذلك تصور الحملة إيران على انها البلد الخطير الذي تملأ مخابراته العراق ويستعد لإحتلاله من خلال تعاونه مع الشيعة. هذه الصورة بدت مقبولة الى درجة ما في هذه الضجة الإعلامية رغم ان إيران لم تعتد يوماً على العراق لكن العكس كان صحيحاً.

نسي العراقيون فجأة انه في عقد الثمانينات أن الخنادق لم تتوزع بين العراق في مواجهة إيران, بل كان صدام وحثالته وأميركا وبريطانيا (وبقية الغرب) والسعودية والكويت والإردن في جبهة, والشعب العراقي وأيران وسوريا في الجبهة الأخرى, وإن ذهب الجنود العراقيون لقتال ايران فليس إلا بسبب الخوف من فرق الاعدام التي أعدها لهم أعداؤهم الحقيقيون في الخلف. ونسي العراقيون ان جنودهم وجنود ايران التقوا وتعانقوا حين اعلن وقف القتال الذي لم تكن لهم فيه ناقة ولاجمل, واستغربوا ان يتقاتلوا ثمان سنين بلا معنى.

لست محباً لحكومة الجعفري ولا ابرئها من كل ما اتهمت به, ولا من مسؤوليتها عما وصل اليه الحال بحماقاتها البالغة ومراوغاتها وتملقها المجاني, لكني ارى الجانب الآخر اخطر كثيراً, ويا للبؤس ان نضطر في النهاية للخيار بين خطرين, وياللبؤس ان يصدق البعض كذبه ويعدنا بالخير ان صوتنا الى احدهما دون الآخر. والحقيقة ان الشارع العراقي صار في حالة هذيان من حملة كذب لم يسبق لها مثيل في العراق.

إحدى مصادر الاعلام تنقل خبراً عن سجن الجادرية السري من "مصدر أمني سابق رفيع المستوى" هو منتظر السامرائي دون ان تذكر انه لص هارب من وجه العدالة الى خارج العراق..دون ان تذكر انه لص رفيع المستوى! أما صحيفة الزمان فلاتترفع عن العنوان التالي: أول اعتراف لمسؤول سابق في الداخلية: سجنان للنساء بين تسع سجون سرية في العراق. لاحظوا اولاً كلمة "أعتراف" والتي توحي بأن المصدر هو من الجانب الحكومي وأنه يقول الحق على جماعته "لأول مرة".
وبالطبع ليس ذلك "المسؤول" غير لص السيارات المختبئ في عمان: منتظر السامرائي

إشتكى علاوي من محاولة لإغتياله ( وهي ليست المرة الأولى) على أيدي جماعة في النجف, وصفهم بأن "ملابسهم غريبة" ولايشبهون العراقيين وأنهم اطلقوا النار عليه. وعلينا بذكائنا الخارق ان نعرف قصده "غير المباشر" بأنهم أيرانيون. لقد عرفت أيرانيين عديدين, واتحدى علاوي ان يميز بالشكل بين العراقي والايراني!
أما بالنسبة لمحاولة الاغتيال فأشير لكم الى ان كبير مراسلي السي إن إن الدوليين, "نيك روبرتسون" كان مرافقاً لعلاوي, لكنه لم يسمع اية إطلاقات, كما يقول في المقالة التالية :
http://edition.cnn.com/2005/WORLD/meast/12/04/iraq.main/index.html

قصة قديمة جداً:
هذه المسرحية التي كررها علاوي كثيراً في الفترة الماضية ليست "مقطوعة من شجرة" بل لها اسلاف كثيرين في التأريخ أولهم جد قديم في أول صفحة من قصة الديمقراطية, أو بالاحرى من خداع الديمقراطية.

فحين عاد صولون, الأب الأكبر للديمقراطية, الى بلاده أثينا بعد ان تركها لسنوات عديدة ليعيش في مصر, وجد فيها شاباً طموحاً يرشح نفسه ويخدع الناس بكلامه المعسول. وفي احد الأيام ظهر "بيسيستراتوس" هذا في السوق وقد لف ذراعه ولطخ جلده بالدم, قائلاً ان "اعداء الديمقراطية" ارادوا اغتياله! وطالب على اساس ذلك ان يسمح له البرلمان بتعيين خمسين رجلاً لحمايته.
حين سمع صولون بذلك قال: "ان اعطيتموه الخمسين رجلاً فلن تعرف أثينا الديمقراطية لزمن طويل".

إنتخب الأثينيون بيسيستراتوس رغم ذلك, فقال صولون لهم: "انتم بالفعل أذكياء كأفراد, أما كمجموعة فلستم الا احمقاً كبيراً". وبالفعل حكم بيسيستراتوس, الذي ضاعف عدد حمايته فيما بعد مرات ومرات, حكم اثينا حكماً مستبداً هو وأبناؤه لنصف قرن من الزمان أمتد من 561 ق.م. وحتى 510 ق. م.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما هي تداعيات إبطال محكمة العدل الأوروبية اتفاقيين تجاريين م


.. إسرائيل تستعد لشن هجوم -قوي وكبير- على إيران.. هل تستهدف الم




.. واشنطن بوست: تساؤلات بشأن مدى تضرر القواعد العسكرية الإسرائي


.. مسيرات تجوب مدنا يابانية تنديدا بالعدوان الإسرائيلي على غزة




.. رقعة | كيف أبدل إعصار هيلين ملامح بلدات نورث كارولينا في أمر