الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ولم تسقط طائرة لندن

نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)

2016 / 7 / 6
مواضيع وابحاث سياسية



الصوت يدوى "اربطوا الأحزمة" الطائرة تنتفض وركابها يرتجفون، يتعلمون الخوف من الموت منذ يولدون، يقرأون الفاتحة على أرواحهم، تبدو غالية لحظة الفقدان، وأنا عشت الموت منذ مولدى. فلم يعد مخيفا، عزرائيل أصبح رفيقا وطيفا لطيفا، يلهمنى بالليل ما أكتبه بالنهار.
رحلتى إلى لندن فى الأسبوع الاول من يوليو، الطائرة تابعة لمصر للطيران، أفضلها عن الخطوط البريطانية، ابتسامات المضيفات المصريات، ونكهة الشاى الأخضر بالنعناع، لكن الكون يهتز والكوب ينقلب، والصوت يدوى: اربطوا الأحزمة، فى ذاكرتى حطام الطائرة من باريس للقاهرة، تغلينى رغبة الاستطلاع، فأغلق عينيى لأشهد موتى من تحت جفونى، ثم افتحهما "مبحلقة" فيما حولى، أنشد التقاط اللحظة التاريخية، حين تنفصل روحى عن جسدى، وتنتصر الرغبة الآثمة فى المعرفة، على غريزة البقاء، منذ أمنا حواء، إلى جوارى رجل إنجليزى يرتجف متمتما بآيات من الكتاب المقدس، لا تجذبنى عيون العجائز المنطفئة بالأحزان، ولا تمتمات الكهنة والقسس والمشايخ، لا تختلف تمتماتهم فى المآتم والأفراح، ويغلبنى الضحك فى الفشل والنجاح، لا أعرف الفاصل بين الموت والزفاف، لا أصدق أن الموت موجود، خاصة "موتى" أنا بالذات، وإن سقطت الطائرة الآن فى البحر، سأسبح كالجنين فى بطن أمى، وأصل معها للشاطئ.
استعادت الطائرة توازنها، وتوقف العجوز الإنجليزى عن الصلاة وسألنى: هل أنت من المؤيدين لخروجنا من الاتحاد الأوروبى؟ قلت لا، وماذا رأيت فى لندن؟ وكيف كان المؤتمر؟ لا يكف عن الكلام، تغيرت الشخصية الإنجليزية، تلاشى البرود والاستعلاء الاستعمارى القديم، شحبت بشرتهم الحمراء المتوردة بالدم، أصابتهم الانيميا مع فقدان المستعمرات والخيرات، وانتقلت العدوى إليهم من الأفارقة والأسيويين والعرب المهاجرين، وقال إنه رجل أعمال يأتى إلى مصر ليمارس البزنيس، خرقت كلمة "البزنيس" طبلة أذنى، فلم أعد أسمعه، فى المؤتمر الأدبى الدولى وجدت روايتى "مذكرات طفلة" ضمن سلسلة عمالقة الأدب العربى، الصادرة بالإنجليزية هذا العام، عن دار "ماكميلان بالجريف" كتبتها وأنا تلميذة بحلوان الثانوية، صدرت منها عدة طبعات مصرية وعربية، وروايات متعددة كتبتها منذ منتصف القرن الماضى، لم يرد ذكرها فى أى مؤتمر مصرى، وتضحك الطفلة من سخرية القدر، وهى تشهد روايتها، التى كتبتها بالقلم الرصاص، فى الثالثة عشرة من عمرها، ضمن ما يسمونهم عمالقة الادب، وسألتنى صحفية إنجليزية: ما تأثير طفولتك على إبداعك الأدبى؟ قلت: نهر الذكريات الطفولية منبع إلهامى حتى اليوم.
النساء الانجليزيات والمهاجرات، من شمال إفريقيا وغرب آسيا، أو ما يسمونه "الشرق الأوسط" باللغة الاستعمارية، نظمن مؤتمرا ثوريا، وأصدرن بيانا بثمانية مطالب للحكومة البريطانية كالآتى: أولا - التوقف عن التدعيم الاقتصادى السياسى الإعلامى للتيارات الدينية السلفية والإخوانية، ثانيا - إلغاء جميع القوانين التى تفرق بين أفراد الشعب البريطانى وتكرس اللا مساواة فى الاسرة والدولة، ثالثا - إلغاء مجالس الشريعة الإسلامية، ومنها المرأة والشريعة، التى تكونت منذ عهد تاتشر - ريجان، باسم التسامح والتعددية والحرية، رابعا - مقاومة الردة التى تدعمها القوى الرأسمالية ما بعد الحديثة، التى فرضت قانونا دينيا يحكم المهاجرين والأقليات والنساء، مما أدى إلى الفتن وتغلغل التيارات المتطرفة، مثل داعش، بالمملكة المتحدة، خامسا - إلغاء التناقض فى النظام القضائى، وقد أصبح النظام القضائى الدينى غير الرسمى يوازى القضاء الرسمى المدنى، مما يناقض العدالة ويدعم العنصرية ويخلق التناقضات والتفرقة، سادسا - تشكيل لجان قانونية لمناقشة الأضرار التى وقعت على ضحايا المجالس الإسلامية، خاصة النساء والأطفال والفقراء والمهاجرين، وتطبيق الدستور والقانون، وليس الشرائع الدينية، سابعا - يكون أعضاء اللجان من علماء القانون، وليس من المشايخ والقسس، ثامنا - فضح العلاقة بين التيارات الدينية المتاجرة بالحجاب، والختان والشريعة، والقوى الدولية المتاجرة بالسلاح والبشر.
قبل عودتى للقاهرة تجولت بالمكتبات، أجر حقيبتى ذات العجلات، لا شيء فى لندن يعلو على الكتب، إلا أفلام السينما والموسيقى والمسرحيات، واكتفيت بما يمكن للطائرة المصرية أن تحمله دون أن تسقط فى البحر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حلم الدولة الكردية.. بين واقعٍ معقّد ووعود لم تتحقق


.. ا?لعاب ا?ولمبية باريس 2024: سباح فلسطيني يمثل ب?ده ويأمل في




.. منيرة الصلح تمثل لبنان في بينالي البندقية مع -رقصة من حكايته


.. البحث عن الجذور بأي ثمن.. برازيليون يبحثون عن أصولهم الأفريق




.. إجلاء اثنين من الحيتان البيضاء من منطقة حرب في أوكرانيا إلى