الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إلى اليمين دُرْ

معتز حيسو

2016 / 7 / 6
مواضيع وابحاث سياسية



قبل نحو قرن من الآن، ربط زعيم الثورة البلشفية فلاديمير لينين انتصار الثورة الاشتراكية وتجاوز الأطر القومية بنهوض العمال في الدول الأوروبية الأكثر تطوراً، وبشكل خاص بريطانيا وألمانيا. لكن ذلك لم يحصل، فانتصرت الرأسمالية مقابل انحسار الاشتراكية المحققة في دول معينة، قبل أن تتداعى مطلع التسعينيات من القرن المنصرم. قبل ذلك رأى كارل ماركس أن الميول العامة الأساسية والكلية لرأس المال، التوسعية منها والاحتكارية، سوف تساهم في توحيد الكيانات السياسية، وتحطيم الحدود الجغرافية وتجاوز الأطر القومية وصولاً إلى صهرها ضمن اتحادات اقتصادية كوزموبوليتية.
وبالفعل نشأت اتحادات دولية تجاوزت، بأشكال مختلفة، كثيراً من القضايا المتعلقة بالقومية. وبفعل الثورة الصناعية وفي سياقها التراكمي، نشأت كيانات واتحادات اقتصادية تجاوزت الحدود الجغرافية القائمة على أسس قومية («منظمة التجارة العالمية»، «بريكس»، «آسيان»، اتحاد «اليورو»، «النافتا»..)، إضافة إلى شركات عملاقة عابرة للحدود والقوميات. وقد تعاظمت التحولات المذكورة مع تحوّل رأس المال الإنتاجي إلى رأس مال مالي، فكانت تعبيراً عن سعي رأس المال المعولم لاختراق الحدود والجنسيات بأشكال اشتغال ومستويات متعددة ومختلفة، وأحياناً متناقضة، نظراً لبنيته الداخلية القائمة على التناقض.
ويلاحظ المتابع أن ظاهرة إنعاش دور الدولة القومية تجلّى بوضوح العام 1929 على أثر أزمة الكساد العظيم. لكن بعد العام 1970، تمّ الاشتغال على تمكين سياسات اقتصادية نيوليبرالية قطعت مع السياسات الكنزية وتموضعات الدولة القومية. ثم، مرة أخرى، تمّ استنهاض دور الدولة لمواجهة تداعيات الأزمة المالية العام 2008.
وفي المحصّلة، لم تتمكّن التجارب السابقة، وكذلك التجربة السوفياتية، وأيضاً الممارسات القبيحة لرأس المال العابر للحدود والجنسيات، من إخماد جذوة الأيديولوجيا القومية والعرقية والدينية. فكانت بين فترة وأخرى تظهر حركات تدعو إلى إعادة إنتاج الدولة القومية سياسياً (انفصال بعض الجمهوريات عن الاتحاد السوفياتي مثلاً). أما تجليات ذلك اقتصادياً، فقد عُرفت بالاقتصاد المتمحور حول الذات، وأقرب مثال على ذلك التجربة الصينية، إضافة إلى نشوء تكتلات اقتصادية تحمل ملمحاً قومياً. أما على المستوى الديني، فقد ظهرت تجليات متعددة ومختلفة في أفغانستان وإيران والجزائر وحالات أخرى، أوروبية وعربية.
من حيث المبدأ، يتقاطع خروج بريطانيا سياسياً من الاتحاد الأوروبي مع بعض التجارب المذكورة. لكن على المستوى الاقتصادي، يبدو أن التحوّلات اللاحقة لهذا الخروج ستكون مختلفة نسبياً. علماً أن القيام حالياً بدراسة منهجية لأسباب وتداعيات قرار عودة البريطانيين الشكلاني إلى جزيرتهم المعزولة، فيه صعوبة كبيرة، ويحتاج إلى مراكز بحثية متخصصة. ومن المعلوم أن بريطانيا كانت على الدوام رمزاً للسياسات الاستعمارية والإمبريالية التوسّعية. وكان ذلك يُعبِّر عن ميول رأس المال الصناعي بداية والمالي لاحقاً. وذلك يحمل دلالة تفيد بأن البريطانيين يمتلكون المقدّرة، بناء على إرثهم السابق، على إعادة ترتيب قضاياهم الاقتصادية وسياساتهم النقدية والمالية، فضلاً عما يتعلّق بالاستثمارات بأشكالها كافة. أما سياسياً، فإن خروج بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي يمكن أن يُكسب البريطانيين مزيداً من الاستقلالية في السياستين الخارجية والداخلية.
وفي هذا السياق، يشكل القرار البريطاني بالنسبة إلى أنصار العولمة مخالفة صريحة للسياسات التي دأبت على تحويل العالم إلى قرية كونية تخدم مصالح كبار المستثمرين والشركات العملاقة، فضلاً عن صندوق النقد والبنك الدوليَين. وجميعها كان له دور في إفقار الشعوب، وتهديم دول ومجتمعات. ومن المرجّح أن تتأثر بالقرار البريطاني دول أوروبية وغير أوروبية. بمعنى أن القرار سيفتح الأبواب أمام حكومات وأحزاب وشخصيات يمينية، لإنعاش خطاب قومي يمهّد طريق العودة إلى كنف الأطر القومية. ومن المرجّح أن يدعو كل من أيرلندا الشمالية واسكتلندا إلى استفتاء للانفصال عن بريطانيا، علماً أن المقاطعتين تعتزمان الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في حال حصولهما على الاستقلال. وثمة من لا يستبعد أن يحذو حذو بريطانيا مستقبلاً كل من هولندا، اليونان والبرتغال وإيطاليا، خصوصاً في حال عانت من أزمات اقتصادية ناتجة عن تفشي مظاهر البيروقراطية وتغوّل أصحاب الرساميل والشركات، إضافة إلى سياسات جائرة تفرضها الدول الأكثر تطوراً ضمن الاتحاد، وجميعها حوّلت أعداداً كبيرة من الأوروبيين فقراء، لكن ليس بمقياس الفقر العربي.
أخيراً، من المتوقع أن يساهم القرار البريطاني وتداعياته المرتقبة، في تحجيم المدافعين عن قدرة رأس المال المعولم على تذويب الأطر القومية وإلغاء الحدود الجغرافية. ما يعني أننا سنشهد في الأعوام المقبلة تحولات سياسية واقتصادية ومالية على درجة من الأهمية. ولن تكون تأثيراتها مقتصرة على الدول والحكومات الغربية، لكن ستطال بلداننا بأشكال وآليات مختلفة، ولذلك علاقة مباشرة بطبيعة أنظمتنا السياسية ومستوى تخلفنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشاد: المرشحون للانتخابات الرئاسية ينشطون آخر تجمعاتهم قبيل


.. رويترز: قطر تدرس مستقبل مكتب حماس في الدوحة




.. هيئة البث الإسرائيلية: تل أبيب لن ترسل وفدها للقاهرة قبل أن


.. حرب غزة.. صفقة حركة حماس وإسرائيل تقترب




.. حرب غزة.. مزيد من الضغوط على حماس عبر قطر | #ملف_اليوم