الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مخرج على الطريق: أفلامي واقعية جديدة مُبهجة (2-3)

عدنان حسين أحمد

2016 / 7 / 8
الادب والفن


لوحات كبيرة

لابد لخان أن يتوقف عند الأحداث الكبيرة، وفوز يوسف شاهين بجائزة خاصة عن مجمل أفلامه هو حدث كبير من دون شك. يصف خان بعض أفلام شاهين مثل "اليوم السادس"، "وادعًا بونابرت"، "المهاجر" و "المصير" بأنها لوحات كبيرة ستصمد طويلاً أمام تقادم الأزمان.
مثلما أثنى خان على الدليل السينمائي لمحمد رضا يُشيد الآن بمؤلفات محمد سويد "السيرة المؤجلة" و "أفلام الحرب الأهلية اللبنانية" و "يا فؤادي: سيرة سينمائية عن صالات بيروت الراحلة". محمد سويد ليس ناقدًا فحسب، بل مخرج له وقع خاص جدًا يمكن أن يستشفه المتلقي في فيلمي "غياب" و "أنا لك على طول".
تجشم خان عناء 30 كم ذهابًا وإيابا كي يرى فيلم "المحترفون" لريتشارد بروكس لأنه كان مفلسًا بالطبع ولكن شاءت المقادير أن يلتقي ببروكس في هوليوود وتعجب هذا الأخير من المعلومات الكثيرة التي يعرفها عنه وحينما وقعّ له أوتوغراف على ورقة صغيرة كتب عليها: "أتمنى لك كثيرًا من الدولارات" ملمّحًا إلى فيلمه الذي أخرجه عام 1972 بعنوان "دولارات" لكن خان لم يجرؤ على إحاطة علمًا بحكاية الثلاثين كيلومترًا التي قطعها مشيًا على الأقدام كي يرى "المحترفون".
تجارب خان مع المنتجين عديدة ومتنوعة لكن تجربته مع المنتج حسين ياقوت متفردة حيث سأله هذا الأخير سؤالاً عابرًا وبريئًا: "معندكش فيلم أنتجه؟" فردّ عليه: "طائر على الطريق" بطولة الراحل أحمد زكي وجميل راتب. لم يتدخل ياقوت في أي شيء باستثناء ترشيحه لفريد شوقي بدلاً من جميل راتب مراعاة لمتطلبات السوق وحماية للفيلم. أما بقية تدخلاته فكانت تنصبّ على تحقيق الرؤية الإخراجية الكاملة لمحمد خان. وفي فيلم "مشوار عمر" يشيد خان بالممثل المنتج فاروق الفيشاوي الذي كان يبتسم كلما ارتفعت نبرة الخلاف بين المخرج والفنانة مديحة كامل مع أنه عصبي المزاج في حياته اليومية، كما لم ينسَ الإشادة بموقف مديحة نفسها التي أكدت له بأنها سوف تأتي إلى التصوير غدًا على الرغم من الشجار الحاد الذي استعر بينهما.
تتناسل الثيمات في المقال الواحد من هذا الكتاب فحينما يتحدث خان عن التكريم الذي حصل عليه غير مرة تزول أسباب النشوة التي اجتاحته على حين فجأة لأن أفلامه الصالحة للعرض هي أربعة أفلام من أصل عشرة المطلوبة في جنيف، فالمركز القومي للسينما هو المكان الوحيد لحفظ أفلامه على وفق الشروط العلمية المطلوبة لكن هذا المركز يطلب من المنتجين أن يطبعوا نسخة الإيداع على نفقتهم الخاصة الأمر الذي يضع المنتجين في دائرة التردد والعزوف عن حفظ الأفلام. ومع ذلك فقد تمكن خان من تهيئة سبعة أفلام له كما اختار خمسة أفلام من أبناء جيله الذين شقّوا طريقهم في الثمانينات وتمّ إقامة هذا الاحتفاء السويسري على الرغم من إحساسه الممض بأن أفلامه تموت أمام ناظريه.
كثيرة هي وسائل التسويق والدعاية للفيلم لكن خان لجأ إلى الصور الثابتة للممثلين التي يعلقها أصحاب السينمات على واجهات دور العرض أو في مداخلها ذلك لأن "جمهور اللحظة" كما يسمّيه خان الذي لا يقرأ ما يكتبه النقاد ولا يتابع تغطيات الصحفيين يقرر دخول الفيلم من عدمه اعتمادًا على صور الممثلين التي قد تكون قُبلة أو احتضانة أو تلويحة من بعيد!

موافقة هوليوودية
مفاجآت هذا الكتاب كثيرة يكشف عنها خان تباعًا، فحينما طلب عرض فيلم "الرغبة" في سينما مترو بالقاهرة تلّقى شرطًا مفاده "أن يُعرض الفيلم لمدة لا تقل ولا تزيد عن خمسة أسابيع فقط" ثم تبيّن أن موافقة إدارة السينما ومدة عرض الفيلم المصري قد جاءت من مكاتب شركة "مترو غالدوين ماير" في هوليوود! ولك عزيزي القارئ أن تتخيل هيمنة الشركات الأميركية على معظم أنحاء العالم والقوانين التي يفرضونها لحماية صناعتهم السينمائية. لا يفوّت خان الفرصة للتنويه بأن جودة السينما الأميركية هي جودة آلية تفتقر إلى التطور الفكري المطلوب وأنها تعتمد على المؤثرات والخدع السينمائية التي تهدف إلى إبهار العين وليس العقل وهذه التفاتة لا ينتبه إليها إلاّ الناقد السينمائي المحترف. هذا الناقد نفسه سوف يردّ على مقال لجاسر الجاسر ويفنِّد إدعاءاته، مثلما سوف يرد على الناقد اللبناني هوفيك حبشيان مؤازرًا له، ومعززًا لطروحاته النقدية.
يستولي الهاجس النقدي على خان كثيرًا فلا غرابة أن يعتذر عن حضور ندوة في معرض القاهرة الدولي للكتاب لمجرد أن المشاركين فيها لا يمثلون مستقبل السينما المصرية، بل يمثلون ماضيها وحاضرها، وهو يزعم بأنه معتنق أمين لمبدأ التطور الفكري والشكلي في آنٍ معا. كما يدقق في لجان التحكيم قبل أن يعلن موافقته النهائية للانضمام إليها. وفي مهرجان السينما العربية الرابع في باريس يتحفظ خان على المخرج فريد بو غدير بسبب هجومه الدائم على السينما المصرية، وسوف ينزعج جدًا عندما يسخر هذا الأخير من اللغة العربية لحظة منحه الجائزة الكبرى للمهرجان.
يؤكد خان دائمًا بأن الشخصية هي التي تعطيه فكرة الفيلم وليس "الحدوتة" نفسها لذلك يتماهى في حُب المخرجين الذين يولون الشخصية جلّ اهتمامهم مثل ديفيد لين صاحب "جسر نهر كاواي" و "لورنس العرب" فمهما بلغت ضخامة هذه الأفلام فإن لين لا يفقد اهتمامه الشديد بشخصيات أفلامه، وتفاصيل حياتهم، ناهيك عن البُعد النفسي الذي يضفيه إلى كل شخصية رئيسة.
يتعامل خان بجدية وصرامة مع كل الأجناس الفنية كالإعلان والفيديو كليب وما إلى ذلك. ومع أنه لم يُخرج سوى أغنية "عدّى الهوى" لحنان ماضي إلا أن البعض يعتقد أن خان من محترفي الفيديو كليب. كرّت السبحة فأخرج خان أغنية "مستر كاراتيه" وأدّاها الراحل أحمد زكي فتكاثرت الطلبات لكن شروطه كانت كثيرة "على أن يستغرق التصوير مدة أسبوع، وعلى شريط سينمائي، وأن يحمّض في إنكلترا لضمان جودة التصوير".

السينما الصادقة
يتعجب خان من رئيسة التلفزيون المصري التي رفضت إنتاج أفلامًا وثائقية عن "الأم البديلة" أو "المسنّون" أو "أطفال الشوارع" خشية أن يعرّوا الواقع المزري الذين يعيشون فيه لكن خان نفسه ينتمي إلى "الواقعية الجديدة" التي تنزل إلى الشوارع، والحارات الضيقة وتستمد منها مادتها الأساسية. ولعل فيلمه القصير "أطفال الشوارع" هو نموذج لهذه السينما الصادقة التي ترفض الرتوش، وتقاطع التزويقات الخارجية.
يستوفي كل مقال شرط نجاحه من طبيعة الموضوعات التي يعالجها. فمقال "العيد في السينما" ينبهنا إلى أن المخرج الغربي يستثمر أعياد رأس السنة، بينما تغفل السينما العربية عيدي الفطر والأضحى المباركين. أما مُشاهد الأفلام المخضرم فهو يتذكر أسماء أبرز الشركات السينمائية في العالم مثل "فوكس للقرن العشرين" و "بارامونت" و "كولومبيا". وقد يصف لك هذا المُشاهد هندسة صالات السينما وأفيشاتها المعلّقة، وكراسيها، والعديد من الأفلام التي عُرضت على شاشاتها ليُشعرك بأن السينما لما تزل بخير.
يُرجع خان نجاح مديحة كامل في فيلم "الصعود إلى الهاوية" إلى أدائها المبهر الذي يجمع بين القوة والضعف، حيث تأخذ قوة الشر هنا شكل الخيانة، بينما يأخذ ضعف الإنسان شكل الفخّ الذي وقعت فيه. لقد جذبت مديحة كامل المتلقي ودفعته للتعاطف معها، كما يرى خان، ليس لأنها جاسوسة بل لأنها إنسانة ضعفت وأخطأت ثم دفعت الثمن غاليًا في نهاية الأمر.
خمس مقالات متتالية عن "هند وكاميليا" بدءًا من هند، المربيّة التي سينصع منها فيلمًا جميلاً وانتهاءً بالآراء النقدية الحادة لأنيس منصور الذي اتهم المخرج بالمبالغة في تصوير القبح وقد نعت الكاتب محمد سيد أحمد هذا الأسلوب النقدي بأنه "أقرب إلى تلبية تطلعات المؤسسة الرسمية وربما بالذات وزارتي السياحة والداخلية منه إلى التعبير عن مشاغل وهموم دوائر الثقافة"(ص139). تتمحور أهمية هذه المقالات الخمس في التأكيد على قلب المدينة النابض الذي يعتبره خان مصدر إلهامه، مثلما تلعب الشخصيات دورًا مهمًا في استدراجه إلى كتابة ثيمة تتناسب مع الشخصية التي يختارها تمامًا كما هو الحال مع شخصية "هند" في "أحلام هند وكاميليا"،أو فارس في "طائر على الطريق" أو فتاة المصنع نفسها.
قبل أن نطوي القسم الأول من هذه المراجعة النقدية للكتاب نذكّر بأن محمد خان هو مخرج سينمائي ينتمي إلى "الواقعية الجديدة" ولعل تذكيره الدائم للمونتيرة المبدعة نادية شكري بأن تُمنتج أفلامه على أنها Nouveau وليست واقعية فقط!
لا يتمحور هذا الكتاب على المخرج محمد خان فقط وإنما يمتد إلى غالبية الفنانين وكُتّاب السيناريو والتقنيين الذين تركوا بصماتهم الفنية سواء في أفلامه حصرًا أم في بقية الأفلام المصرية المُعتَبرة التي حفرت أشكالها ومضامينها في ذاكرة المتلقي العربي. فمثلما يناقش محمد خان القضايا الخطيرة ويصنع منها أفلامًا مهمة مثل "زوجة رجل مهم" أو "أيام السادات" لا يجد ضيرًا في أن يكتب عن هواجسه الذاتية وهو يشاهد عرضًا خاصًا لأحد أقرانه المخرجين أو يبوح بمشاعره العميقة حينما يتحدث عن التقنيين سواء أكانوا ممنتجين أم مصورين أم متخصصين في المؤثرات الصوتية والبصرية.
يتفادى محمد خان العروض الخاصة للأفلام الجديدة قدر الإمكان لأنها تضعه دائمًا في "مأزق الرأي الصادق"(ص373) فهو بالنتيجة إنسان، مثله مثل الآخرين، الذي يقعون في "مطبّ" المجاملات ويغضّون الطرف عن البوح بالحقائق الناصعة التي تترك أثرًا سلبيًا على صاحب العرض الخاص. تكتظ مقالات خان بالمشاعر الصادقة والأحاسيس الداخلية المرهفة التي تقول كل شيء دفعة واحدة وتعبّر عن روح اللحظة الآنية التي يعيشها فإذا كان الفيلم المعروض ضعيفًا ومحطّ انتقاد الجمهور فإنه يتهرّب من السؤال المُربِك: "إيه رأيك بالفيلم؟"، ولكنه يبحث عن أية كاميرة تلفازية لكي يبدي رأيه إذا كان الفيلم ناجحًا وقادرًا على الصمود أمام تقادم السنوات.

الرهان البصري
منذ أن ترك خان الهندسة المعمارية واتجه لدراسة التقنيات السينمائية بدأ يثق بدور السينما في الحياة، ويعوّل على خطابها البصري الشديد الأثر على المشاهدين في كل مكان من هذا العالم. فحينما حضر خان مهرجان سويسرا الشتوي عام 1997 كان السويسريون قد قدّموا أكبر عدد من الضحايا في تفجير الأقصر الإرهابي الأمر الذي دفعهم لإلغاء حفل المهرجان لكن العروض تواصلت على الرغم من الحادثة المفجعة التي ألمّت بهم. ولأن خان يراهن على السينما دائمًا فقد قدّم كلمة اعتذار لهم عبّر فيها عن أسف الشعب المصري لما حدث، وقد جاءت المواساة في محلها خصوصًا وأنها صادرة من قلب رجل سينمائي يحب اللغة البصرية ويتماهى مع خطابها الإنساني الذي يتطلع نحو الأمن والسلام وبدونما لا يمكن لهذا الفن أن ينتعش. تتجسّد أهمية هذا المقال بفكرة جوهرية مفادها أن السينما تستطيع أن تداوي الجروح، وتذيب الثلوج، وتدفئ القلوب.
يهتمّ خان كثيرًا بردود أفعال المشاهدين لأفلامه فكيف إذا جاءه ردّ الفعل من رئيس الجمهورية، فذات مرة حضر الرئيس المخلوع حسني مبارك لمشاهد فيلم "أيام السادات" فأخبر خان قائلاً: "أنا كنت فاكر نفسي حأنام بس الفيلم شدّني"(ص386). وهذه شهادة مهمة جدًا من رئيس دولة كبيرة مثل مصر تدلل على أن الفيلم كان مثيرًا وممتعًا ولم يبعث على الملل. وبالطبع، لم يضع محمد خان في حسبانه، كما يقول في نهاية المقال، بأن هناك ثورة سوف تندلع ويوضع فيها الرئيس مبارك خلف القضبان!
يُلفت خان عنايتنا إلى أهمية الأفّيش Affiche أو الملصق الذي يمكن أن تشتريه بثمن زهيد جدًا في حينه، لكن هذا الملصق سوف يصبح "كنزًا من ورق" كما حدث لبوستر نجمة الإغراء مارلين مونرو في فيلمها الشهير Bus Stop الذي صدر عام 1956 غير أن هذا الملصق نفسه قد أصبح ثمنه عام 1999 عشرة آلاف جنيه إسترليني! وفي مصر يحرقون كميات كبيرة من الملصقات ليتمكنوا من رفع أسعارها بوصفها بوسترات نادرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ذكرى وفاة الشاعر أمل دنقل.. محطات فى حياة -أمير شعراء الرفض-


.. محمد محمود: فيلم «بنقدر ظروفك» له رسالة للمجتمع.. وأحمد الفي




.. الممثلة كايت بلانشيت تظهر بفستان يحمل ألوان العلم الفلسطيني


.. فريق الرئيس الأميركي السابق الانتخابي يعلن مقاضاة صناع فيلم




.. الممثلة الأسترالية كايت بلانشيت تظهر بفستان يتزين بألوان الع