الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- الكافر سعيد - رسول المغاربة (4)

موريس صليبا

2016 / 7 / 8
مقابلات و حوارات


سعيد الكافر وبعض ذكرياته عن تطوّر أسرته وعلاقاتها بالمجتمع الفرنسي

نواصل في هذه الحلقة الحوار مع الأخ سعيد أوجيبو الذي يصف نفسه ب"الكافر سعيد". ويحدّثنا فيها عن حياة أسرته وصعوبة اندماجها في المجتمع الفرنسيّ وعن احتكاكها ببعض الأسر الفرنسيّة.

س – الأخ سعيد! قلت إن المهاجرين يعانون كثيرا من صعوبة الإندماج في المجتمع الفرنسيّ. بالنسبة لأسرتك، كيف عشت ذلك؟ وهل يمكنك أن تصف حياتكم العائليّة وكيفيّة معاناتها في مجتمع غريب عن حضارتكم وتقاليدكم المغربيّة ومعتقداتكم الدينيّة؟
ج - لم تكن حياتنا سهلة على الإطلاق. فأخي الكبير مثلا أدمن على تناول الكحول والمخدّرات، وعاش مهمّشا في المجتمع. عاش الهجرة بفشل ذريع. كونه الكبير في الأسرة لم يستفد من دخوله المدرسة الفرنسيّة باكرا مثلنا، لربّما يعود ذلك إلى تقدّمه بالسنّ مقارنة مع زملائه. لم يتكيّف في المدرسة بسبب فارق السنّ، ولم يشعر بالإنفتاح على الآخرين إطلاقا. لذلك انتهج سريعا طريق الراديكاليّة وانزلق نحو التطرّف الأصوليّ الإسلامي والانحراف على مستويات عدّة.
أما أبي، فبعد مرور فترة من الزمن على وجودنا في فرنسا وحياة عائلية شبه عاديّة وهادئة، أخذ يتردّد باستمرار إلى المسجد، الأمر الذي لم نعهده فيه من قبل. وقد أثّر ذلك كثيرا على حياتنا العائليّة، إذ تبدّلت طبيعة سلوكه معنا في البيت وكذلك كيفيّة التعامل معنا. فحال وصوله مساء إلى البيت عائدا من العمل، كان يلاحقنا في شقّتنا السكنيّة ويركض وراءنا حول الطاولة ليلزمنا بتلاوة الصلوات. أحيانا كنّا نتمرّد عليه ونعاكسه، وأحيانا كنّا ننصاع له خوفا، فنتلو الصلوات بشكل ميكانيكي، دون أية علاقة روحيّة مع الإله الذي فرضت علينا الصلاة له.
كذلك كان يثور غالبا غضب أبي على أمّي ويضربها بسبب أو بدون سبب. نعم كان يضربها أمامنا ويحمّلها مسؤوليّة كلّ مشاكل الأسرة، وكأنّها هي مصدر الشر، وانحراف الأولاد، والمشاكل مع الجيران، والابتعاد عن الدين. كانت المشاجرات تحصل بينهما غالبا بعد عودة الوالد من المسجد، وكأنّ هذا المكان الذي صلّى فيه وما سمع من إمامه، يحثّه على تلك الممارسات. وهذا أمر كان يؤلمنا كثيرا ويولّد لدينا الصدمات والعقد النفسيّة والنظرة السلبيّة إلى الوالدين وإلى سلوكهما المتوتّر في العلاقات الزوجيّة وإلى ممارسة النكديّة بينهما وتبادل الإتهامات أمامنا وعلى مسامعنا.

س – كبف تفسّر هذا التحوّل في حياة أبيك؟
ج - تعود هذه الظاهرة إلى نهاية السبعينات وبداية الثمانينات في القرن الماضي، عندما برزت الصحوة – عفوا الظلمة -الدينيّة الإسلامويّة مع الثورة الإيرانيّة الخمينيّة. قبل ذلك لم نكن نلاحظ أي تطرّف إسلاميّ في فرنسا بين أفراد الجالية المغربيّة والجاليات العربيّة الأخرى. ولكن ملامح هذا التطرّف أخذت ترتسم بقوّة في أندية الشباب والمقاهي العربيّة التي كان أبي يتردّد إليها كي يلتقي فيها بالمواطنين المغاربة. كذلك أخذت تتكاثر مساجد جديدة ذات ميول راديكاليّة متطرّفة. فأبي كان يعرف جيّدا وطنه الأم، لم ينس جذوره. لم يكن بالإمكان أن تتكلّم معه عن إسلام آخر. كان مطّلعا على بعض الأمور الدينيّة. غير أنّ المساجد الجديدة كان يشرف عليها أناس متطرّفون، يتنقّلون ويعملون لنشر التيّار الدينيّ الجديد المتطرّف الكاره للآخر، خاصّة لغير المسلمين والأوروبيّين. كان هؤلاء الناس متديّنين جدّا، يطلقون لحاهم ويقولون بأنّهم أتوا من بلاد مصدر الإيمان وذلك لإهدائنا - وكأنّنا من الضّالين - إلى الطريق الصحيح الصالح، وتأهيلنا إسلاميّا للوقوف في وجه "الغرب الفاسد"، "الغرب المادّي"، "الغرب المستعمر" الذي أكل ثرواتنا، ونهب خيرات بلداننا، وحرمنا منها، فشرّدنا في العالم أجمع، وقد سهّل لنا المجيء إلى بلاده لاستغلالنا وتهميشنا ودفعنا إلى الفساد والانحلال. كانوا يقولون لأهلنا ويردّدون باستمرار: ((أنظروا إلى أولادكم، فهم يذهبون إلى مدارس الكفر، ويتحوّلون شيئا فشيئا إلى فرنسيّين، من المفروض عليكم أن تعيدوهم إلى دينهم قبل أن يبتعدوا عنه نهائيّا وينسوه تماما وينخرطوا في مجتمع أوروبيّ نصرانيّ ضالّ أو ملحد أو لا دينيّ.)) في تلك الأجواء كان الصراع محتدما بين الشرق والغرب، بالإضافة إلى ظاهرة معاداة الساميّة، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي يستقطب الأحاديث والمناقشات والنزاعات بين الناس وفي وسائل الإعلام.

س – هل كان أبوك وأمّك متديّنين فعلا في البيت؟
ج - في الحقيقة ما كان أبي ولا أمّي متمسّكين بممارسات طقسيّة عباديّة. كنّا نمارس سابقا إسلاما شكليّا داخل المنزل. ولدنا مسلمين وبقينا مسلمين دون التعرّف على الإسلام واختياره بملء الرضى والإقتناع. ولكن مع طفرة الحركات الأصوليّة والإسلامويّة سرعان ما بدأ الوالدان بتشجيعنا على التمسّك بهذا الدين كما هو دون طرح أي سؤال. كان علينا أن نقبل الإسلام على علاّته، وأن ونمارسه كما يقول الشيوخ والأئمة – المعصومون بنظرهم عن الخطأ - . لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ بعض الناس فرضوا آنذاك أنفسهم كأئمة ودعاة إسلاميّين، همّهم الوحيد توجيه المسلمين إلى التمسّك بالدين كمعركة سياسيّة. فعمدوا إلى زجّ المهاجرين فيها رغما عنهم. فعندما كانوا يأتون إلى مسكننا، كنّا نستمع إلى أقوالهم وخطبهم وتوجيهاتهم التي أثّرت كثيرا في تفكيرنا. وهكذا ترسّخ في أذهاننا أن الغرب والفرنسيّين والمستعمرين هم مصدر الشرّ وأعداء الإنسانيّة والإسلام. كذلك كانوا يصوّرون لنا اليهود وكأنّهم شرّ البليّة ومفسدة العباد. في الحقيقة، كانوا يقولون لنا عكس ما نعيشه على أرض الواقع، ويلوّثون أذهاننا بأكاذيبهم الواهية الوهميّة. في تلك الفترة، ونظرا لصغرنا في السنّ، كنّا نعتقد وللأسف أن ما يقوله الكبار المتديّنون "المؤمنون" – وأيّ إيمان؟ - هو جوهر الحقيقة. لذلك كنّا دائما نحاول إبراز أنفسنا أمام الآخرين أي الفرنسيّين، وكأننا ضحايا مؤامرات العالم كلّه علينا نحن المسلمين. ولكن لم يكن بوسعنا آنذاك إبداء أيّ مقاومة أو التعبير عن أيّ انتقاد أو المناقشة أو التعبير عن الرأي بحريّة.

س – تحدّثت سابقا عن الجيران، هل استمرّ التوتّر بينكم وبين جيرانكم أم حصل أي تطوّر جديد معهم؟
ج - رغم التوتّر والعداوة والنظرة الإستكبارية التي كنّا نتخيّلها عند بعض الجيران، إلاّ أنّ عائلة فرنسيّة كانت تسكن في الطابق الذي يعلو مسكننا. حاولت تلك العائلة التودّد إلينا وإقامة علاقة حسن جوار معنا. فمرّة أضطرّت والدتي بسبب عارض صحّي إلى البقاء في المستشفى فترة من الوقت، فحضرت تلك العائلة واهتمّت بكل أفراد عائلتنا بمحبّة وتفان دون أيّ مقابل. كما كان بعض افرادها يأتون لزيارتنا من حين إلى آخر، ويذهبون إلى المستشفى لتفقّد الوالدة. كان سلوكهم هذا غريبا ومفاجئا لنا، لم نكن تنوقّعه. ولكنّنا كنّا فرحين جدّا بالتعرّف عليهم والاحتكاك بهم ومعاشرتهم وإقامة علاقات طيّبة معهم. فكانوا أحيانا يطبخون أطباقا فرنسيّة ويأتون بها إلينا. ونحن بدورنا لم نقصّر بالواجب والمعاملة بالمثل. فكنّا نحضّر الأطباق المغربية الشهيّة ونشركهم بها. فمع تبادل الأطباق، وجدنا يوما مع وعاء التاجين الذي أعادوه إلينا كتاب الإنجيل. في الحقيقة لم نكترث آنذاك كثيرا لهذا الكتاب، بل بادلناهم بالمثل، فأرسلنا لهم القرآن، - لم أعد أذكر إن كان بالعربيّة أو بالفرنسيّة-، مع وجبة كسكس مغربيّة بامتياز، لاولكن أعلم إن قرأوه أو تمكّنوا من قراءئه، وأدركوا من خلاله حقيقة الإسلام والتعاليم الواردة فيه.

س – هل تنامت هذه العلاقة مع هؤلاء الجيران وتطوّرت إلى ابعد من ذلك؟
ج – نعم تنامت علاقتنا بهم إلى حدّ أنّ الثقة المتبادلة معهم توطّدت كثيرا، حتى شعرنا بأنّنا اصبحنا عائلة واحدة. فإذا ما احتجنا لغرض ما، توجّهنا حالا إليهم، وهكذا كان حالهم. غالبا ما كانوا يأخذوننا معهم بالسيّارة، فنتنزّه معهم، ونزور أماكن جميلة في المنطقة، ونتعرّف بفضلهم على معالم تاريخيّة وحضاريّة جديدة. وبفضل تطوّر هذه العلاقة تأكّدنا أنّهم لا ينظرون إلينا إطلاقا نظرة استعلائيّة بل إنسانيّة. لم نكن بنظرهم أدوات أو أشياء غريبة تسترعي الإنتباه أو الإزدراء، ولا جماعات بدائيّة تستحقّ ((الفرجة))، بل كائنات بشريّة جديرة بالإحترام والمعاملة الحسنة بصرف النظر عن مستوانا الإقتصاديّ والإجتماعيّ والعلميّ وأصولنا واشكال وجوهنا المغاربيّة.

س – هل دامت العلاقة مع هذه الأسرة على هذا الشكل أم تعكّرت الأجواء معها؟
ج – كلاّ، غير أنّ شقيقتي الكبرى فاطمة تودّدت كثيرا إلى هذه العائلة وتعلّقت بها. فكانت تخرج معها يوم الأحد قبل الظهر وبعده. فتلبس أفضل الثياب وترتّب شعرها بشكل أنيق وتتركه يسترسل على كتفيها. وعندما تسألها أمّي إلى أين أنت ذاهبة يا فطّومة، كانت تجيبها: ((أنا ذاهبة في نزهة مع الجيران)). ولكن عندما تكررت هذه "النزهات الترفيهيّة" وأخذت شكلا روتينيّا مستديما، بدأ الفار يلعب في قلوب افراد الأسرة وأخذ القلق والخوف عليها يستفحل كثيرا. فاعتقدنا أنّها بمجرّد معاشرتها الفرنسيّين، ستصبح فرنسيّة مثلهم، ستتزوّج منهم، ستنسى أصلها ودينها، وبالتالي ستفقد هويتها وتراثها المغربيّ، ولربما قد تتخلّى يوما عن أسرتها. وبالرغم من ذلك كان التقرّب والإحتكاك بالفرنسيّين، أو بالأحرى الإندماج في المجتمع الفرنسيّ أمرا محتوما لا مهرب منه. وإلا لما كان علينا أن نلجأ إلى ديارهم، ونعمل في مصانعهم، ونأكل من خبراتهم، ونتعلّم في مدارسهم. ولكنّنا وللإسف كنّا مسلمين ونمارس إسلامنا ونتمسّك بديننا ولا نعرف إلا التقوقع على ذواتنا. غير أنّ تصرّفات شقيقتي الكبرى المتمثّلة بخروجها الدائم مع الجيران ومعاشرتهم ومشاركتهم في أمور كثيرة، أزعجنا في الحقيقة كثيرا، بالرغم من ثقتنا بتلك العائلة. لذلك أخذت العلاقات تتوتّر معها.

س – هل هذه هي العائلة الفرنسيّة الوحيدة التى تعرفتم عليها، أم هناك عائلات فرنسيّة أخرى؟
ج – لم تكن الوحيدة، بل أذكر عائلة فرنسيّة أخرى كاثوليكيّة كانت تدعونا غالبا إلى تناول طعام الغداء في بيتها. كانت ربّة تلك الأسرة تمارس حياتها المسيحيّة بإيمان عميق وتقوى مثاليّة. تعرّفت على والدتي عندما كنتُ أنا في المدرسة الإبتدائية، فشعرت والدتي أنّها إنسانة لطيفة متواضعة ومحبّة للآخرين، إستأنست كثيرا بها وأحبّتها وكانت تحترمها وتثق كثيرا بها. كانت تلك العائلة تسكن في بيت مستقل تحيطه حديقة مليئة بالزهور والأشجار، وليس في شقّة سكنيّة داخل بناية ذات طوابق عديدة مثلنا. في زيارتنا الأولى لتلك العائلة، تناولنا طعام الغداء في قاعة الجلوس على طاولة جرى تمديدها كي تستوعب قبيلتنا. أكلنا يومها بشهيّة كبيرة طبقا من الدجاج مع البطاطا المقليّة على الطريقة الفرنسيّة. حدث ذلك يوم أحد بعد عودة تلك الأسرة من حضور القداّس الإلهي في كنيسة كاثوليكيّة. في الحقيقة، لا أنسى إطلاقا ذلك اليوم، بالرغم من زيارات لاحقة فمنا بها لهذه العائلة المثاليّة بكل معنى الكلمة.

س – قلت إنّك ما زلت تذكر ذلك. ما هو السبب؟
ج – لأنّنا شعرنا ببعض الإزعاج تجاه تلك الأسرة الطيّبة، إذ شاهدونا نأكل بأيدينا دون أن نستخدم مثلهم الشوكة والسكّين الموضوعتين إلى جانب الصحون. فاعتبرنا قبولهم بذلك أمرا رائعا، إذ لم يتأفّف ولم يشر أحد من أفراد تلك العائلة إلى شيء. فقد احترم جميعهم بهدؤ واحترام وفرح عاداتنا وتقاليدنا، كما أنّهم، احتراما لنا كمسلمين، لم يقدّموا الخمر أثناء الطعام كما يفعل عادة الفرنسيّون وفقا لعاداتهم.

س – ما كان شعورك بعد ذلك؟
ج – حينها لم يكن بوسعي التعبير عن مشاعري. ولكن مع مرور الزمن، أدركت جيّدا أنّ تلك العائلة كانت تعيش بتقوى الربّ وروح الإنجيل واحترام الآخر. كانت أسرة مسيحيّة حقيقيّة. لم ينظر أيّ فرد منها إلينا كمهاجرين أو كغرباء أو كمتخلّفين، ولم يهتّم أحد بمظهرنا الخارجي أو بثيابنا. استضافونا دون مقابل ودون أيّة غاية دينيّة أو تبشيريّة. وهذا ما جعلني أفكّر لاحقا بأنّ كلّ الفرنسيّين ليسوا متجانسين ولا عنصريّين. فهناك اختلاف بينهم. وهذا أمر جميل ومشجّع. حالهم كحال كلّ البشر والشعوب في العالم.

س – نعود لو سمحت قليلا إلى أسرتك. فبعد ما ذكرت الأجواء المضطربة بسبب سلوك والدك مع الوالدة ومعكم كأولاد بحكم تأثير الإسلاميّين عليه، هل كان الجوّ دائما متوتّرا داخل الأسرة وهل حدثت أمور أثارت أحيانا إزعاجا لكم؟
ج – في الواقع، كانت حياتنا العائليّة بسيطة للغاية و إلى حدّ ما هادئة، بالرغم من شيطنتنا في سنّ الطفولة وكذلك في سنّ المراهقة، والتوتّر الذي كنّا نسبّبه أحيانا مع الجيران أو مع الآخرين، وتصرّف الوالد غير اللائق مع الوالدة ومعاملته لنا وتسلّط أخي الكبير على أخواتي. غير أنّ الجوّ بدأ يتوتّر داخل الأسرة، عندما بلغت شقيقتاي سنّ الزواج. إذ أخذ يتردّد على مسكننا عدد لا بأس به من طلاّب الزواج المغاربة، من بينهم شباب، وكذلك رجال مسنّين كانوا أكبر سنّا من والديّ. آنذاك كانت أختاي قد بلغتا، الأولى الثامنة عشر من العمر والثانية السادسة عشر. وكنت أنا قد ترعرعت معهما، فأخذت فكرة ابتعادهما وانفصالهما تماما عن البيت وعن الأسرة تؤلمني وتسبّب لي اضطرابا مؤلما. وبفضل الربّ، لم يحصل في بيتنا أي زواج قصريّ كما هو الحال في عائلات مغاربيّة كثيرة حتي هنا في فرنسا. فوالداي، بالرغم من أميّتهما، قاما بتربيتنا وفقا للإمكانيّات المتوفّرة، وكانا يستمعان دائما إلى رأي الأولاد حول طلاّب الزواج من الأخوات، فكنّا نرفض دائما. وللتعبير عن ذلك، كنّا نعلّق ملاقيط الغسيل على ظهر معاطف الزوّار أو في قبعاتهم، إشارة إلى رفضنا لهم. كم كنّا نمزح ونضحك ونستهزئ بطلاّب الزواج بعد خروجهم من البيت!

س – تحدّثت سابقا عن وجود أسر مغاربيّة كات تسكن في نفس المدينة التي سكنتم فيها. كيف كانت علاقاتكم مع تلك الجالية من المغاربة؟
ج – بالفعل كانت مأسويّة. فمهما فعلت أو تحركت أو ذهبت إلى مكان ما أو تحدّثت مع شخص غريب عن الجالية المغربية، أو زرت عائلة فرنسيّة، لوجدت حالا أنظار أهل بلادك مصوّبة عليك، تلاحقك، تتجسّس عليك، وتتبادل الروايات الصحيحة أو الملفّقة عنك وعن أسرتك. فمعظم العرب المغاربة كانوا ينتقدون أخواتي لأنهنّ كنّ يذهبن مع الفرنسيّين والفرنسيّات إلى المدرسة، ويلبسن ثيابا فرنسيّة. فبعض المغاربة كان يشاهد أخواتي يتبادلن القبلة على الطريقة الفرنسيّة مع زملائهنّ. وهذا أمر طبيعيّ وعاديّ في فرنسا. ولكنّ الثراثرة المغاربة وأصحاب النوايا السيئة كانوا يسرعون لإعلام والدي بذلك، الذي، ولحسن الحظّ، لم يهتمّ إطلاقا بأخبارهم وأقوالهم وثرثرتهم. أماّ بعضهم فكان يشي بذلك إلى اخي الكبير، ويضخّم له الخبر، كما هي العادة عند العرب أو العربان، إذ قال أحدهم مرّة لأخي: شاهدنا شقيقتك تقبّل زميلا لها في القطار بشكل غير مقبول ومخجل، إلخ... فما كان من أخي إلا الإسراع حالا إلى البيت مغتاظا ونار الغضب تشرقط من عينيه. لا يمكنك أن تتخيّل كيف هجم بوحشيّة رهيبة على شقيقتي وأمسكها بشعرها، وأخذ يوسعها ضربا ولطما. كان المشهد رهيبا مرعبا لم أتحمّل رؤية تلك الشراسة والهمجيّة. فهربتُ واختبأت تحت السرير. كان عليّ أن أختار، إما المواجهة مع هذا الأخ الفاجر أو الهرب. فقررت الهرب. وهنا ثارت مشاعر التمرّد والغضب في داخلي. نعم هربت، ولكن سرعان ما عدت. فهجمت أنا وإخوتي على هذا الأخ المتوحش وأشبعناه بدورنا ضربا، حتى ارتدّ عنها.
ماذا تنتظر من انعكاسات مثل هذه الأجواء والمشاهد والأحداث داخل الاسرة على الأولاد، خاصّة عندما يعتبر اللجوء إلى الضرب والقتل والانتقام لمعالجة أيّة قضيّة، السلاح الوحيد بيد الوالدين والأخ الأكبر. هذه أمور مؤسفة ومؤلمة، لم تدرك مجتمعاتنا بعد مدى آثارها السلبيّة المحطّمة لشخصيّة الإنسان وطاقاته الخلاّقة.

وإلى الحلقة القادمة من هذا الحوار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الضربات بين إيران وإسرائيل أعادت الود المفقود بين بايدن ونتن


.. الشرطة الفرنسية تعتقل شخصا اقتحم قنصلية إيران بباريس




.. جيش الاحتلال يقصف مربعا سكنيا في منطقة الدعوة شمال مخيم النص


.. مسعف يفاجأ باستشهاد طفله برصاص الاحتلال في طولكرم




.. قوات الاحتلال تعتقل شبانا من مخيم نور شمس شرق طولكرم