الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نبع الحنان

عباس مدحت محمد البياتي

2016 / 7 / 15
الادب والفن


نبع الحنان
يحف خطواتها الارتباك وهي تجري مهزوزة الأسارير في أروقة الدار، محفوفة بإيمان حسها الواهف بين خطايا الوهم، كغصن يقارع الريح، تجتث نجواها من فك الحيرة المحيط بها، أسيرة النوى، تتهادى بين جدران الوهن، قمر يتهادى بين ثنايا الغيوم خلف النوافذ المظلمة.
تستهوي لحظات السكون.
تهفو بخطوات البراءة خلف ظلال الصمت المحيط بها، أحيانا تستأثر كفاف الثوب، فتنكب على وجهها، ينهمر بكاؤها سيلا من الآهات تموه بها بزفرات الأنين، تشجو بشجو ملئه شقاء، تستغيث، تنهض، مقيدة بسلاسل النياح خلف قضبان الصخب، حمامة تنوح أسفا على غربتها.
صورة خريفية تتراءى في سدم الأفق، الدمع يترقرق في المقلتين، ينسل على وجنتيها الورديتين، كلآلئ برد تتعلق في عناب خديها. كندى الصبح المتعلق بذوائب الورود البهيجة. تصرخ بأزيم صوتها النغام، ماما ماما....
لا تدري أية وجهة تستقل ولا لأي اتجاه تمضي، فكرها قيد حيرة صماء شلت قدراتها، أرخت سدولها، أسرت هواجسها.
دمية الكترونية تدور في أرجاء الصالة، تبحث في زواياها عن رمق أمل هافت، يسعف فؤادها الضامر بين جوانح الحزن وخفايا القدر.
تمشي وقناديل أوصافها تشع نوراً في أرجاء الصالة، العطر يفوح من ثغرها الأهدل، يمتد زاكيا مع صخب قصيد قوامها الرشيق.
النور يتلألأ في بريق عينيها السوداويين، مصابيح تتراقص في أجنحة الأفق.
شعرها كرستال ؛ينسل على كتفيها كنهر من عشق بري، يطوف بتمائم الهوى.
قلنسوتها شريط فضي؛ يختلج وميض النور المتدفق من نوافذ الصالة.
شفتاها ورقتان جوريتان؛ تحيطان بتويج أسنان قوادم.
ثوبها المزركش ربيع يصدح بألوان قزحية، يوسطه حزام فضي، ليتوافق سحراً مع شريط رأسها، ولون حذائها الإسفنجي.
لم أتمالك نفسي أمام حيرتها الجامحة في طوفانها الواهف بين الرجاء والوهم. هجست بمشاعري تلفظ حمم بركانها على القدر المجني، فتمد بذراعيَّ في شغف لتحيط إبطيها بحب وحنان، كخيوط الشمس ؛وهي تحتضن أدم الأرض بدفئها صباحاً.
حضنتها، قبلتها، داعبتها، مسحت دموعها، ولأقوض حيرتها همست بأذنيها ....
يا إمارة... يا حبيبتي ...لا تبكي... هيا ماما ستجلب لك زجاجة الحليب.... هيا كفي البكاء. هيا نمضي اليها....
خفت من حدة بكائها لكنها لم تخف من بركان حيرتها، ظلت تتلفت في كل الاتجاهات بعينين ساحرتين، تجولان الأفق بحثا عن وسادة الحب والأمان، عن نغمة حبور تتهامس بها القلوب الواجفة، عن كأس عطف تذرفها العيون النائلة، عن نبع الحنان، عن رمق الأمان، عن الطيبة المباحة، عن ماما الحبيبة.
مضت لحظات من الشك المريب المنسكب من لواحظها، كسيل من الصمت في أدم حيرتها، ألهب أحراش الفؤاد، فبات ينبض بسرعة غير عادية، جعلتها تنفض غبار الحيرة كدخان من سطح الأنين، اجتاحت به مشاعري الراكدة، والمنهكة.
رعد وبرق، أهاب نجيم إحساسي المضنك بموجات نحيبها، بدت الرتابة تتقوقع في نصاب الأمور، كأنّ الاشياء تسامت في رقائق الحياة، قفار وجنان، هياكل صمت تستنجد بصخب الأرواح العائمة في سراب آمالها، كأنّ الأرض بها توقفت عن الدوران.
الزمن أستنفذ لحظاته، الفكر تاه في مبدأ الخطوة الأولى، الأقدار اكتسحت أشرعة المراكب، الوضع أصبح مرعبا يزحف خلف كسوة السكون السرمدي، ينتظر حسابه الأخير.
حتى قلبي المتدثر بآلامه المسهبة، كاد يتوقف عن الحركة، ذاب في بودقة الحب، لينصب قبلٍ من الشوق ،من الحب والحنان على خديها ويديها.
لحظات ثقيلة عجاف، ولدت بين البراءة المزهوة بعمرها، والقدر المحيط بها كثعلب ماكر.
كماشة من النار غرست اظلافها في عنقي، كدت أختنق، أنهار، كدت اصرخ وأبكي لولا بزوغ هلال أمها يتهادى في الأفق، تشع أمانا عبر أثير صوتها الدافئ، الذي صار يزحف على وجهها ليدب الأمل فيه ،فرش بساط الابتسام فيه، وكأنها طاقة كهربائية قد رفدتها فألهمت نورها إشعاع وفرح قوض حيرتها.
بزغت أمها من خلف الستار الذي حال بينهما، تناجيها بروح مرحة، بصوت يهدل مع تناغم تغريدها ومناغاتها ، رقت ودا وحنانا في باحة سهدها، داعبتها بعطف وشوق منقطع النظير.
باتت تضحك، أختلط شجو بكائها بقهقهة وشهقات ضحكاتها ومناغاتها، صارت تهتز في حضني وبين ذراعيّ كالنابض، فرحة جذلى، كأفراخ الحمام حين تكتكت وتزقزق سروراً وبهجة بقدوم الأم. تغدق بكركرة، نخرت جدار بكائها، نور تلألأ في سراج السعادة، حبى بأحلامها البريئة نحو قبس اليقين.
استسلمتُ للقدر المصحوب بقيد الفزع المطبق على أوصالي، بعد أن طعنتُ بنصل براءتها في صميم مشاعري، ألمّ بيَّ الجرح، نزف غيرة في محبتي وخجل مكفهر في وجاهتي وانكسار سحيق في هيبتي وأبوتي، جعلتني أتلذذ وخز الألم وهو يسري في عروقي الجافة كسيل من الندم عبر مسارات العمر.
مزقت صور الحماقة المعلقة على جدران المشاعر، الطبيعة فرضت سحرها على لون إحساسي في مواجهة جم الأسئلة، تلك التي تبحث عن أجوبة في ثرى السعادة المرجوة.
حينها احسست بحقيقة حجمي وقباحة شكلي، أمام تلك البراءة التي عبرت عن هيبتها. أوحت لي صغيرتي ؛بان الانسان لا يحتاج الى قوة كي ينتصر، فها أنا أُهزم أمام براءة الطفل، تلك العصا الرقيقة الطرية التي تهفو بها على مكامن الألم، لتترك أثراً في النفس والذاكرة تمضي مع سنين العمر.
أنها إرادة الله، الجزاء بقدر العمل، فعادل الكيل بالميزان، فنضح كل إناء بما فيه، لم تستوي الأواني المستطرقة، معادلة الحياة الحسابية جادت بثقالها، لتنبثق سعادة واقعية مقابل زيف حقيقي كان قد ساورني.
سعادة لابد منها، بخلافها ستبدو مخارج الحياة ضيقة في الأطر الرمزية المباحة.
إذا لابد من أن أتبع سياسة جديدة اتجاه صغيرتي، واتجاه الأسرة، تلك التي مدى بصرها لا يتعدى أطر حدودي، تلك التي تتذرع الى الله أن يصون قدري في حدودها الأنية.
فبقدر إهمالي و تقصيري، جاد سوط العقاب في تأنيبي. نتيجة لانشغالي بأمور ليست ذات أهمية، سُرقت من بين يديَّ أسرتي.
تلك الأسباب؛ جعلت العلاقة واهية بيني وبين أسرتي، لم أكن أبصر لون القدر الفاقع تحت أقدامي، إلا بعد أن بعثرت صغيرتي بعصا براءتها جمرة القطيعة لتلسعني، فانتبرت بأحضاني شرارة صدعها، أرمضت زغب الأحاسيس والمشاعر، بددت ستائر الغشاوة من نافذة الصمت قبل انزواء الشمس في بطون الغسق.
كان لابد من صدمة حقيقية؛ تعصف بأوراق الحيرة، قبل أن تعصف بخيمة السعادة، ومن ثم تحرقها عن بكرة أبيها.
كان لابد من عاصفة شديدة تقطع تلك الخيوط الواهية الممسكة بسعادة مزيفة.
لابد من جز سنابل الوهم من حقل المحبة الحقيقية.
لا بد من صياغة خواطر جديدة، تفيض سلالها آمالاً تبنى عليها السعادة.
بعد تلك الحقبة التي مضت وأنا أعيش على فُتات الحياة مع الأسرة، وبالذات مع صغيرتي التي نادراً ما ألاطفها أو ألاعبها أو أداعبها، الكلل والملل يرافقان عودتي المتأخرة، الروتين المتكرر؛ جدول أعمالي اليومية، الإحساس؛ مكفوف البصر، المشاعر؛ مقيدة، متعثرة في مسالكها الوعرة، الحب؛ متسكع في الشوارع خلف بنات الهوى والنوادي الليلة، الحنان؛ يرتجف في ثنايا الغيرة الباردة.
تلك هي مهازل أبوتي، اصطبغتُ بها عبر تلك المرحلة من العمر المريض، استطاعت صغيرتي أن تستحوذ عليها ببراءتها، أن تدغمها في قفا مبالاتها، غير آبهة بما يحوم حولها من غربان ونسور.
تلك غيمة انقشعت إلى حتفها، النجوم بدأت تومض أفق الحياة الجديدة. انتبرت مخالب الغيرة تفتك بخدود الوهن، وتُفرِتْ بينابيع وعيون الأبوة في سهل الأسرة، لتسقي بزلالها تلك العروق الظامئة.
طفح رضاب المحبة على الشفاه الجافة، بدأت تتساقط كقطرات الندى كقبل على خديها وعينيها، تتقفز كالعصافير تبحث عن الحب المنثور على وجنتيها ، تنزل على صدرها ،على يديها ،على رجليها ، لتلقط بذرات المحبة الصافية من هنا وهناك .
عروس بثياب الزفاف اصبحت تلك السعادة المرجوة، كدت أنسى ملامح شكلها بعد أن تُرِكتْ على رفوف الزمن ، لم تحمل في جوفها سوى الجفاء والفتور.
وأنا في إسهابي أراجع أيام خلت، هملت فيها شجرة السعادة، أبحث في غورها عن الحقيقة الضائعة. انسلتت من بين يدي كسمكة انتشلت نفسها متشبثة بالحياة، ارتمت بأحضان أمها، متشبثة بذراعيها الصغيرتين في رقبتها، تشم رائحتها، تلعق صدرها، كأنها عطشة للحب والحنان.
استكان غضبها كسكون العاصفة بعد أن دمرت كل شيء بعصفها.
انقطع أنينها كانقطاع الوتر.
طفحت بذور الأمان والابتسام في وجهها، كما يطفح العشب في وجه البسيطة.
أغمضت عيناها؛ لتنام قريرة العين على كتف أمها، باطمئنان في القلب، وصفاء في البال والخيال، بعد أن تركت الغامها تتفجر في أحضاني بين آونة واخرى، لتترك سعيراً من الألم، تعيدني إلى المربع الصحيح، كلما زاغت أقدامي عن مساراتها الطبيعية.
انها تجربةٌ؛ زرعت في حقولي بذور الحكمة . غسلت بدني من كل رجس رجيم، ألهمتني أسرار السعادة الحقيقية، جعلتني أشعر بقيمة ذاتي، جعلتني أعرف جيداً أين أضع خطوتي القادمة.
إنها فعلا إرادة الله، قبل أن تكون إرادة صغيرتي سبباً في إصلاح ذاتي، ((وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)) صدق الله العظيم. وكقوله سبحانه تعالى: - { المال والبنون زينة الحياة الدنيا} صدق الله العظيم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب