الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دراسة في مسرحية -الشريط الأخير- لصموئيل بيكيت

مصعب وليد

2016 / 7 / 18
الادب والفن


دراسة في مسرحية الشريط الأخير لصموئيل بيكيت
المُترجم: مصعب وليد

في عام 1958 كتب صموئيل بيكيت مسرحيته "الشريط الأخير- شريط كراب الأخير" والتي تتحدث في ثناياها عن كاتب كان يُسجل فكره وآراءه التي إستمدها من حياته على شرائط سُجِلَت بصوته مذ كان في الرابعة والعشرين من عمره. حيث إعتاد كراب أن يرتب هذه الشرائط التي كان يرقمها ويحتفظ بها في أدراج مكتب مغلق داخل بيته. تُعَلِمُنا هذه المسرحية، التي يصغي فيها كراب الى تسجيلات من الماضي، أحداثاً مختلفة من ماضيه حيث تمنحنا فهماً لشخصية كراب. يلاحظ كراب، في ذات الوقت، من خلال آلة التسجيل، التغيير الذي أدى الى بلورة شخصيته الجديدة خلال الأعوام.
تمدنا هذه المسرحية بوصف شخصية كراب في التاسعة والستين من عمره كرجل عجوز مُرهق يرتدي بنطالاً أسود كالح اللون لا يناسب جسده، ومعطفاً أسود بدون أكمام، وساعة فضية ثقيلة وسلسلة، وقميصاً أبيض مُتسخ وبلا ياقة، ينتعلُ حذاءً غريب الشكل، أبيض قذر، مقاسه عشرة على أقل تقدير. يتصف كراب بوجه أبيض وأنف أُرجواني، شعره رمادي مشعث.. غير حليق. سمعه ثقيلٌ جداً، يمكننا ملاحظة ذلك خلال المسرحية عندما ينحني مقترباً من آلة التسجيل للإستماع إلى نفسه من خلال آلى التسجيل. نظره قصيرٌ للغاية (لا يلبس نظارة مع ذلك) يمكننا ملاحظة ذلك في بداية المسرحية عندما يُخرج مجموعة من المفاتيح من جيبه ويقربها إلى عينيه للعثور على المفتاح ضالته ليتمكن من فتح أدراج المكتب الذي يحتفظ بتسجيلاته فيه.
تبدأ المسرحية بمشهد حيث كراب رجلٌ يمتاز بالضعف عندما يتعلق الأمر بالموز، وهو على وشك أن يسرد، في آلة التسجيل، أحداثاً من حياته قد حصلت في السنة الماضية. وقبل أن يقوم بذلك، قرر الإستماع الى شريطٍ قام بتسجيله عندما كان يبلغ من العمر التاسعة والثلاثين. كانت هذه السنة مليئة بالأحداث، من بينها رفضه لحب فتاةٍ تُدعى بيانكا، وفي ذات السنة كانت أُمه قد توفيت في أواخر الخريف. يرصد هذا الشريط مجموعة من الأحداث، إلا أن مُعظم هذا الشريط يرصد كراب جالساً يستمع الى ما سجله، مع عددٍ قليلٍ من الوقفات، محاولاً فهم أغرب الأصوات وما قد تعنيه هذه الأصوات عندما قام بتسجيل الشريط في سن التاسعة والثلاثين. على سبيل المثال، عندما ذكر كراب في هذا الشريط موت والدته في أواخر الشتاء "بعد ترملها الطويل"، لم يُدرك كراب معنى كلمة ترمل، حينما كان يستمع الى الشريط، ما أعاده الى القاموس للبحث في معنى كلمة ترمل. قد يكون كل هذا من أثر الشيخوخة عليه، إلا أن الأمر كان يبدو وكأن شخصاً آخر يتحدث، شخصاً لم يتمكن من التعرف عليه حيث التغيير الكبير الذي طرأ عليه، لربما أنه، من خلال هذه التسجيلات، لم يُصدق بأنه كان ذات الرجل الذي يستمع إليه. لقد كان السبب الوحيد لإيقاف الشريط مؤقتاً خلال المسرحية إما لأن يُتَمْتِمَ ببضع كلمات غير واضحة أو للشرب. وهنالك سبباً آخر، خروجه من الضوء الى عتمة المسرح.
يشعر كراب بأن الرجل اليافع في الشريط المُسجل أكثر حماقةً وسذاجةً من الرجل الذي أصبح عليه الآن (الأمر الذي يشعر به معظم الناس)، إلا أنه مُعجبٌ أكثر بصوت الأمل الذي يُصدره كراب الشاب اليافع ذو التاسعة والثلاثين عاماً. ويُركز كراب على إيمانه بالإختلافات التي تنقسم الى زمنين مختلفين، وهما كراب الذي يظهر من خلال شريط مسجل وما قبل ذلك من خلال مقولته: "ربما تكون أجمل سنوات عمري قد مضت. بينما كان هنالك فرصةً للسعادة. إلا أنني لا أُريدها أن تعود. ليس والنار متأججة بداخلي. لا أريدها أن تعود." لربما تدل هذه المقولة على ندمه لرفض حبه لبيانكا "الفتاة ذات المعطف الأخضر الرث على رصيف المحطة..." ورحلة القارب الطويل فوق سطح البحيرة التي قضاها مع امرأة ما (ربما تكون بيانكا أو امرأةً أُخرى من الماضي)، حيث يقول: "وجهي مدفونٌ في صدرها ويدي تحوطها. ونحن مستلقيان هناك دون حراك لكن كل ما تحتنا يتحرك، فيهدهدنا برقة وعذوبة، صعوداً وهبوطاً، ومن جنب إلى جنب!" ولربما هو ندم كراب نتيجةً لعدم إلتزامه بالقرارات التي إتخذها في التاسعة والثلاثين من عمره بالتقليل من الشراب، إلا أنها قد تكون فكرة مُستبعدة لشربه عدة كؤوسٍ خلال المسرحية.
لقد إختار كراب أن يفصل نفسه عن أي علاقةٍ مع الآخرين، وإختار بالتالي حياة الوحدة. وقد كانت الرفقة الوحيدة التي حظي بها حتى الآن مجموعة الأشرطة التي سجلها عبر السنين لتذكير نفسه بالرجل الذي كان عليه سابقاً وبالحياة التي كان ليحصل عليها.
الشريط الأخير:
"بوسعي أن أُحْصَرَ في قشرة جوزة، وأعد نفسي ملك الرحاب التي لا تُحدّ— لولا أنني أرى أحلاماً مزعجة."
- هاملت
تصور مسرحية "الشريط الأخير" أقصى أنواع الوحدة وتفتيت الهوية التي يتحمل عبئها أي رجل يخلو من المعايير الدينية والإجتماعية والأغراض البيولوجية. لم يختبر كراب ذو التاسعة والستين من العمر أكثر من لحظة إحساس بالإستيفاء أو راحة البال، على الرغم من الإمكانات الفكرية والعاطفية التي يتسم بها بكل وضوح. ولم تنشط أو تحفز المُثل الدينية أو العلمانية ولا الإلحاحات الإبداعية أو الجنسية كراب في رسم هدف لحياته. ولم يكسبه موت والديه سوى تذكاراً لعبثية الحياة، وعلى الرغم من الشعور المتبادل بالمودة، إلا أنه لم يتوصل الى الهدف من هذا العالم— وذلك في نطاق القناعات الإجتماعية والثقافية والدينية، من مثل عليا للفن، أو حتى ما يصفه كارل بوبر بـ"مشروع الدمقرطة للجميع"، في تكوين أسرة.
وقد حاول كراب، من وقت لآخر، أن يُحفز نفسه أو يُسكنها في عالم الرومانسية والإبداع والدين، إلا أنه وجد في النهاية راحته المؤقتة في تكرار طقوس ماضيه المُسجلة في الأشرطة وهوسه المُفرط في ملاطفة الكلمات والموز. لم يكن لديه رغبة في أن يكون يافعاً مرةً أخرى لأنه لم يجد حكمة عميقة تمكنه من إستثمار حيوية شبابه بشكل أفضل. على عكس أوديب في كولونوس، لن يقول أبداً، وبصرف النظر عن المأساة التي حلت به، أن هنالك شيء حق في هذا الكون. وعلى العكس من المشكك ديفيد هيوم، فإنه لن ينتظر الموت بهدوء وسكينة بعد أن علم بأنه قام بإنجاز ما أُحيل إليه في هذه الحياة. ليس هو الرجل العجوز الذي يصفه وليام بتلر ييتس في إبحار الى بيزَنطية، قوله "الحياة كائنةٌ في الموت، والموت كائنٌ في الحياة." إن كراب لا يتدرج، في السلسلة العظيمة من الكينونة، الى العلو أو السقوط.
وفي خضم ما يبدو عليه بأنه تيارٌ لا نهائي من الأمسيات الوحيدة، يبدأ كراب طقوس عيد مولده. حيث العديد من المناسبات أو الإحتفالات الخاصة، ومن الممكن القول، العديد من السيناريوهات والقرارات المختلفة. إلا أننا في هذه الليلة نلحظ إعتراف الكاتب العجوز بشكل مباشر بالمكايد التي أهدرت حياته على أقل تعبير، ومواجهة زوبعة داخلية عاطفياً. يتنقل كراب دخولاً وخروجاً في الزمن الماضي من خلال تركيبات وأوهام الحياة التي كرسها على نحو محتمل للفن والفكر. مع ذلك، فإن التناغم المُعقد من الماضي والحاضر والمستقبل يكشف، للجمهور على الأقل، بأن الحياة العاطفية المهجورة من أجل "النور" و"النار" ليست ضرورة حياتية مُلحة ولكنها أساسٌ غير معترف به من إنجاز فني. قد يكون كراب ألقى بناظريه عن جمال شبابه وما قد يحققه من نشوة عن طريق الحب، إلا أن شعره القيم كان يُثار بفضل لحظات العاطفة التي حظي بها. إن المسرحية تُحافظ على نهاية مُزدوجة تجاه خيارات عدة في حياة كراب، وعلى الرغم من ذلك، حتى وهو يستمع الآن الى النصوص الشعرية التي سجلها على الأشرطة، فإنها قادرة على أن تنقله للإدراك الذاتي. إن مسرحية الشريط الأخير تصور حالة الحياة الحديثة التي ينفصل فيها العقل عن الجسد ويظهر فيها التفتت العاطفي الذي يتبعه إرتباطات أساسية في تحلل تماسك وصلاحية وجهة نظر العالم.
تتكرر عبارة "الوقت موجود في الحاضر، والحاضر في الماضي؛ ولربما كلاهما حاضران في المستقبل..." خلال المسرحية حيث يرسم بيكيت صوراً مجازية (الماء والنار) ويربطها بالوقت والنفس والشخصية— مروراً بهيراقليطس حتى آينشتاين، ومروراً بالإنجيل حتى ت. س. إليوت. في عبارة "بدايتي تكمن في نهايتي" يتخلل هذه المرحلة من الشعر تشكيلة موسيقية مشابهة لـرباعيات أربع لمؤلفها ت. س. إليوت أو ذكرى الأمور الماضية لمؤلفها مارسيل بروست. يصف بيكيت الحياة، في أي لحظة من اللحظات، بأنها مُتكررة وفيها "صيرورة". ويرى بأن هذه الحياة موجودة في أكثر المصطلحات التقليدية للعقل الراشد حيث وجود الإنسان بين وقت "الماضي" ووقت "المستقبل"، وهي تفاصيل واضحة في المسرحية.
للتأكيد مرة أُخرى، إن موضوع بيكيت الأساسي هو الوعي، بمعنى آخر هو بطل المسرحية، أما الوقت فهو الخصم. إن العلاقة بين كلاهما مسرودة بشكل إبداعي: تعمل آلة تسجيل كراب كمحفز وكمجيب للذاكرة الطوعية وغير الطوعية. وتتضمن الأشرطة وتثير في ذات الوقت إرتباطاتٍ عقلانية وغير واعية، ونظراً للعدد اللامتناهي من أفعال العطف اللفظية وغير اللفظية التي تظهر على المسرح، فإنها تُظهر الإدراك النادر لجوهر الذات الذي تسعى شخصيات بيكيت لتفسيره.
إن قدرة كراب على تقديم الأحداث في أشرطته من خلال زر الإرجاع السريع وإرجاعها الى الماضي كمن يستدعي أحداث الماضي ويرفضها من خلال الذاكرة الطوعية. ومع ذلك، فإن كل من شخصية كراب في الأشرطة القديمة وفي اللحظة الحاضرة في المسرحية، توهم نفسه بالتفكير في أنه يسيطر على الإرتباطات والذكريات. ويفشل كراب في إدراك سقوط الذاكرة الطوعية كفريسة سهلة للذاكرة غير الطوعية، وأن بإمكان مخزن العقل أن يطلق مجموعة غير محدودة من المواد غير المُرحب بها. وبالتالي فإن آلية العقل تعمل كما آلية الجسد، لا محالة.
في البداية وقبل كل شيء، إن الأشرطة القديمة مليئة بالتناقضات والإزدواجية. حيث كراب الذي يبلغ من العمر ثمانية وعشرين يسخر من قوله في ما يسميه شبابه: "شكراً لله أن كل ذلك قد إنتهى على أية حال"، إلا أنه في التاسعة والثلاثين من العمر يلحظ "مجموعة خاطئة هنالك" وكأنه لم يكن كافياً. أما كراب في الوقت الحاضر فهو يقلل من شان كل الأشرطة السابقة، وتستمر طبقات الغموض في الإزدياد. تُظهر مجموعة كراب في الخامسة والأربعين من العمر مجموعة مختلفة تماماً من الأشرطة التي قد ألقاها جانباً، وبالتأكيد فإن هذه التشكيلة من مواد النقد الذاتي المكثف كبيرة جداً. ومن الممكن في حالة مزاجية أخرى من التدقيق في ذاته أن يصنع مجموعة جديدة مختلفة من الأشرطة.
في كل شريط من ثلاثة أشرطة نرى الرجل الأكبر سناً يُقيم ذاته في شبابه، حيث يقول: "كنت منذ لحظات أُنصت الى ذلك الغبي المزيف، عدت بنفسي ثلاثين عاماً مضت"، ويضيف الى ما سبق: "إنه من الصعب أن أصدق أنني كنت رديئاً على ذلك النحو أبداً". وتتكرر أفكار رئيسية، فيما يتعلق بوظيفته والحب والإهتمامات الجنسية وصحته، وفي كل منهم "مشهد إعتراف". إلا أن هذه الليلة قد تظهر "حالة رجعية"، فقد بلغ كراب من العمر التاسعة والستين؛ "النهار الآن قد ولى، وليل يجر وراءه ليل".
إن كراب، في واقع الأمر، آخر شخصية لِمُهرج كوميدي تراجيدي من أعمال بيكيت. يتعثر، ثم يشتم، يسعل، ثم يتنهد وكأنه نسخة أُخرى من شخصيتي فلاديمير وإستراغون من مسرحية في إنتظار غودو لنفس المؤلف. كراب أيضاً كان يبحث عن معنى (بمعنى آخر: غودو) طوال السنين ولكنه لم يتوصل إلا لطقوس تعويضية. ولأنه ليس هنالك ما يؤمن به فإنه يعوض عن ذلك بسلسلة من أفعال روتينية دقيقة: يجدول ملذاته (حين يشرب ويقرأ)، ويحصي حرفياً كل خطواته (أربعة خطوات أو خمسة فقط في ذات الوقت)، حتى أنه يعتمد طريقة جلوس معينة للإستماع للأشرطة. وعلى غرار الشخصيات الأخرى لبيكيت فإن كراب يفتقد الى الرفقة (الأنا والآخر)، وربما لهذا السبب يبدو أنه أقرب الى فلاديمير وإستراغون أو شخصيات الثلاثية لتشكيل صورة صريحة عن نفسه. إلا أن كراب محاط بمجموعة من المرايا التي تُشكلها أشرطته، وكما تُمثل هذه الأشرطة الوقت والذاكرة وحياة كراب بشكل أعم، فإنها تشبه كذلك الأشرطة المتروكة كشعارات محددة لكمال مُحتمل في أعمال كل من ييتس وإليوت، والتي قد تحظى بمعانٍ مختلفة من الناحية الفلسفية والعاطفية.
لقد عاش كراب حياةً تخلو من نظام إيمان مُحفز وتخلو من راحة العلاقات الشخصية، حيث تجسد الأشرطة حركة دائرية تعبر عن شعار بيكيت في تحمل البشر هفواتهم؛ "هيا بنا- إنهم لا يتحركون..." وهذا هو إصدار بيكيت الخاص عن مسرحية الملك لير "يخرجُ تارةً ويعود تارة". وعلى صعيد شخصي، فإن أشرطة كراب ما هي إلا فسيفساء من هويته. حيث أن كل واحدة منها تعبر عن جزء من الشخصية الكاملة، وكل عام من حياته يرسم صورة منعكسة عن شخصيته التي من الممكن رؤيتها عن بعد فحسب، كما الظلال والألوان الرئيسية في لوحة رسم ما بعد الإنطباعية، حيث أن قيمتها الحقيقية تكون ناقصة إذا لم تجتمع كل الألوان في سياق واحد.
وعلى الرغم من أن شخصيات بيكيت الأخرى في أعمال سابقة تُصغي إلى "صوتها الباطني"، على سبيل المثال: وات ومولوي وغودو، حيث تُعَرَّفُ بطريقة فريدة في شخصية كراب من ناحية عاطفية. يكرر بيكيت عبارته الشهيرة "لا أستطيع المضي قدماً. سوف أمضي..." من حدود المعرفة واللغة الى الحدود القصوى من الحياة العاطفية. وتُصور عادة جدلية الفشل والمثابرة من خلال الكلام والصمت، ويمتد الآن الى العاطفة والإنسحاب العاطفي. ومن هذا المنطلق، فإن كراب شخصية غير عادية. وبالنسبة لموران واللامسمى، فإن الفكر هو الحصن ضد تحلل الجسد؛ فيما يتعلق بقدرة كراب الجنسية ورغبته المتواصلة، على النقيض من ذلك، الى جانب الصور الحسية لآخر ملاحظاته، فإنها نتيجة لأعراض إمكاناته العاطفية المستمرة، بصرف النظر عن إزدرائه المنطقي للعاطفة.
تعتبر شخصية كراب من شخصيات بيكيت القليلة التي تمشي بشكل مستمر ومتمحورة حول الجنس، ما يجعلها شخصيةً فريدة، الى جانب معاناته من فكر ضعيف. وقد كان يسعى حول حياة العقل، كما توضح الأشرطة، مميزاً "الحبوب" من "القشور"، متبعاً بصيرته التي سوف تنجيه من الوهن، أو هكذا كان يعتقد. إلا أن هذا لم يجلب له سوى الحد الأدنى من النجاح، والأهم من ذلك رضا أقل. واليوم، فإن عبء الوجود الإستثنائي لكراب يكمن في معرفة الثمار المرة للعاطفة التي لم يسعى لها، والحقيقة الجائرة في شيخوخته، فهو لم يحظى براحة السعي وراء الإبداع أو العلاقات الشخصية. تكمن المفارقة الرئيسية – أو المفارقات— في لامبالاته الحاضرة نحو "المعجزة" الفكرية التي سوف توجهه "نحو اليوم الذي سيكون فيه عمله قد أُنجز" وفي المعقل الذي سوف تكون فيه العاطفة قد عادت إلى حياته. إن إنكاره للحب، في الواقع، بوصفه "ميئوس منه وليس منه فائدة" قد عرّف حالته الحالية بشكل موحش. يُلخص كراب حياته بوصفها "طعامٌ بغيض ومقعد مكبل بالأغلال"، لوحة تصويرية لحياته في بضع كلمات تجسدها بشدة، صورة قوية لرجل تتضمن ملذاته التكلم بطريقة طفولية، لشخص لا يملك أحداً سوى مجموعة من الشرايط التي يصفها بـ"الأوغاد".
إن قراءة المسرحية أشبه بقراءة قصيدة أو تفسير حُلُم حيثُ يعتبر كل تفصيل جزء لا يتجزأ من المعنى، لا سيما الملابس والإضاءة والتأثيرات الصوتية والإيماءات. لربما السبب أنها تتعلق بالحدود القصوى للوجود— الحياة والموت، الماضي والمستقبل، الطموح والفشل، الإسترداد والخسارة— يعتمد ذلك مجازاً وبصرياً على التناقضات المطلقة بين الأسود والأبيض. وفكرة أن هذه المسرحية تتمحور في عمليات التفكير الواعي واللاواعي في العقل فإنها تعلل كثرة الظلال والضوء. ولا يعمل العقل باللون، سواء كان ذلك بالأحلام أو التفكير المنطقي، ولربما أكثر الأشخاص فهماً لهذا المصطلح هم رسامي المدرسة التكعيبية.
إن ما يظهر أمامنا في هذه المسرحية هو الوجود المجزأ لشخصية كراب في الأعوام 28 و39 و 69، والسنين القريبة من هذه المراحل في حياته. يرتدي كراب قميصاً أبيض، وحذاءً أبيض، ومعطفاً أسود، وبنطالاً أسود. وكلما تنقل بين الأشرطة التي تحتوي على العديد من السنين، قام يتحرك داخل المسرح وخارجه بين مناطق الضوء والظل. وهنالك لحظات مهمة في ماضيه تُعرف نسبةً للظلال والضوء: "المربية السمراء" ("جمال الشباب المُظلم" في رداءٍ "أبيض" كذلك)، والكرة "السوداء" (التي رماها لكلب "أبيض")؛ بيانكا "البيضاء" كذلك، التي عاش معها بشكل متقطع في شارع كيدار ("الأسود") والتي رفضها كذلك؛ وكذلك المرأة التي ذهب معها في رحلة على قارب، التي سيطرت علىيه عاطفياً وجنسياً، حيث الظلال تُغطي عيونها بسبب أشعة الشمس الساطعة؛ الكاتب الواثق بنفسه في سن التاسعة والثلاثين الذي كان يضع "ضوء جديد على طاولته".
وفي حين نتنقل بين الماضي والحاضر، وبين الفرص والخسارة، يعيد كراب تكرار كلمات معينة ("عيون"، "صرخة"، "بلطف") ويربط بينها وبين الدفء والبرد. إن هذه الكلمات والتصورات الحسية مثل الضوء والظلام تعمل كمحفزات موسيقية، ويختلف المعنى تبعاً لدرجة الصوت التي تُنطق بها الكلمات: عند إستواء درجة الصوت أو إنقطاعه، يظهر ذلك، على سبيل المثال، عندما يتصنع كراب كممثل (على الشريط) ويشوش على كلماته لتتداخل مع صوته. يقوم المستمعون، في هذه اللحظات، بوضع الكلمات في سياقها السابق، ما يسمح لهم بوصول خاتمة نص بيكيت في هيكلها الثلاثي النموذجي.
في هذه المسرحية، هنالك على الأقل أربعة شخصيات مستقلة لكراب، وكل من هذه الشخصيات التي ينفر بعضها من الآخر بارزة بشكل واضح. في النهاية، يكون هنالك شخصية (هوية) واحدة تبدأ بالظهور، وهي شخصية كراب ذو التاسعة والستين من العمر التي تتوصل إلى بصيرة فيما يتعلق بتقسيمة العقل/الجسد التي إعتاد أن يعاني منها. وحتى ذلك الوقت، هنالك (1) الرجل ذو التاسعة والستين من العمر وهو شاهد وجودي على كل من شخصية كراب خلال عام التاسعة والستين وشخصيته الشابة؛ لم يكن هنالك نص مسجل لهذه الشخصية. (2) شخصية كراب في التاسعة والثلاثين من العمر الذي يستنفذ تسجيلاته في إستذكار موت والدته، مصدر بصيرته الفنية والفكرية، والمرأة التي إصطحبها في رحلة على القارب. (3) شخصية كراب قبل 10 أو 12 عام (التي سجلها "بشكل عشوائي") حيث أنه في هذا الشريط يُكثر من الشتائم والشرب والجنس، ويذكر، على نحو ممل، موت والده؛ في هذا الشريط كذلك يذكر عيني بيانكا، حين يعترف بأن ذلك العام كان تعيساً لدوام تلك الذكرى التي تضم صورتها الأخيرة في محطة القطار. أما الشخصية الأخيرة (4) فهي شخصية كراب اليافع الذي يسخر من شبابه، حيث يذكره على نجو موجز.
ومن المرجح أن عقدة نفس كراب تُعزى الى كل شريط وكل تفصيل وما تحتويها كل منهما. وفي تحليل كل شخصية بتفصيل يكشف لنا إزدواجيته العميقة للحياة التي كان يسعى من أجلها والحياة التي رفضها. على سبيل المثال، تثير الدقائق الأولى من المسرحية عدداً من الأسئلة التي تتكرر خلالها. لماذا ينبغي على كراب قبل تشغيل كل شريط الخوض في سلسلة أكل الموز/ مداعبتها/ ملاطفتها بالفم؟ حتى وإن سلمنا بفكرة الإستمناء (بعبارة أخرى روتين الموز، الذي يجعله "ساكناً عديم الحركة ويحدق بلا أي معنى أمامه"، يبقى من الصعب فهم سبب قيامه بهذا الروتين عندما يعود ويستذكر يوم ميلاده. ولنسلم بأن هذا الروتين ليس طقسه الوحيد: هنالك طقسٌ آخر حيث يتواجد في الظلام ويشرب ثلاثة كؤوس من الكحول ويعود مرة أخرى للقراءة، ويكون كل ذلك قبل تشغيل الشريط. ومن ثم يبتسم ويقرأ "بتلذذ" كلمة "بَكَرَةْ/spool". وفي هذه اللحظة فحسب يبحث عن بَكَرَةْ 5 في صندوق 3.
لكن ما السبب الذي يكمن وراء هذه النسبة الكبيرة من التأجيلات في تشغيل الشرائط؟ هل من الممكن أن تكون متعته الكبيرة في توقع لهفته للنظر الى السنة التي كان يبلغ فيها تسعة وثلاثين من العمر؟ أم أننا نشهد تدميراً ذاتياً لكراب؟ (يصف الموز بأنه "أشياء قاتلة" "لرجل في حالته.") هل يا تُرى بأن كراب يربط بين الموز والجنس أو الحب؟ وهل يكون الطعام و"الفن" أكثر إستدامةً من تجارب الماضي؟
إن تتابع الأنشطة التي يقوم بها كراب تنمق هذه الأسئلة من خلال وصف هويته بالتفتت. وعلى الرغم من أنه كان "على قمة الموجة" في سن التاسعة والثلاثين، إلا أنه اليوم قد نسي السبب. وعلى الرغم كذلك من أنه كان يشعر بترابطاتٍ غير قابلة للكسر مع ما لا ينساه من تساوٍ لليل والنهار، إلا أنه اليوم بالكاد مهتم بهذه الأحداث. لربما قد يكون غير مبالٍ تماماً (على نحو واعٍ) تجاه الصدمة في حادثة "وداع الحب"، حيث أنه "يقلب ورقة الدفتر" عندما يصل الى ما يتعلق بموضوع الحب. وكذلك يقوم بإسراع الشريط عندما يصل الى القسم الذي يتعلق بتساو الليل والنهار حتى يوقفه تماماً، حيث يقول "من الواضح أخيراً بالنسبة لي أن الظلام الذي كنت أعاني في محاولة إخفائه هو في الحقيقة أكثر..." عندها يضطر الجمهور للسؤال: "أكثر ماذا؟" إن الأسباب المحتملة لمقدمات كراب المفصلة تبدو معقدة على المستويين الواعي واللاواعي، لربما قد يكون غير مبالٍ جداً ويشعر بالملل من الإستماع، ولربما أنه مشتت فحسب، أو يشعر بالألم كلما كان يصغي الى تسجيلاته. إن ألم المعدة الذي يعاني منه يحرمه حتى من إتمام متعة الإستماع الى الأشرطة، وربما أكثر أهميةً، اللحظة التي يكون فيها شاعرياً ولكن بمبالغة وصف الجناس لإلتزامة الإبداعي ("الصخور الجرانيتية الضخمة التي تصد أمواج البحر المزبدة العالية في ظل ضوء المنارة") حينها يفشل في أثارة نفسه— ربما قد يكون السبب الكلام المبتذل و/أو التجربة المرتبطة بها. وعلى صعيد آخر، عند وصول الشريط الى حادثة القارب، يعيد كراب تكرار ذات المقطع دون مغزى: "وجهي مدفونٌ في صدرها ويدي تحوطها. ونحن مستلقيان هناك دون حراك لكن كل ما تحتا يتحرك، فيهدهدنا برقة وعذوبة، صعوداً وهبوطاً، ومن جنب إلى جنب." إن هذه الكلمات اللطيفة والكلمات الشعرية و/أو التجربة ذاتها أثارت كراب بشكل واضح، على غرار المقطع الذي يذكر فيه "الصخور الجرانيتية الكبيرة".
يبدأ كراب هنا فقط "أثره الرجعي" في تسجيل الصمت مرتين. وفي محاولته الثالثة تبدأ أعذاره بالضعف فيما يخص رفضه للعاطفة، رغماً عن بعض السخرية تجاه شخصيته وهو صغير السن وملخصاً يوجز فيه سنته الموحشة في الوقت الحاضر. وتصل المسرحية ذروتها عندما يبدأ كراب بإيقاف الشريط ورمي ملاحظاته (ظرف كتاباته) بعيداً، وحين يصف حياته بأنها "طعامٌ بغيض ومقعد مكبل بالأغلال". إضافة الى ما سبق يستمر في تكرار قوله "ليل يجر وراءه ليـــــلـــ..". (عندما مثل مارت هيلد دور برلين من إخراج بيكيت، كان يتلقى تعليمات بالنظر المستمر نحو كتفيه. يفسر بيكيت قوله "العجوز نيك هناك"، "على أن الموت يقف خلفه مباشرةً ويبحث عنه بلا وعي". لربما يفسر ذلك قوله "ليـ...لـ.."). ومن ثم يقوم كراب "بفتح الشريط ’الجديد‘" ويستمع للمرة الثالثة الى المقطع الذي يذكر فيه رحلة القارب. وفي ختام الشريط (المسرحية ككل)، تعبر كلماته الأخيرة عن رفضه للحب حيث يجلس ساكناً دون حراك "يحدق" في الصمت.
ويبدو أن طقوس عيد ميلاد كراب قد إنتهت، حتى الآن على الأقل، مع كل مسوغاته (وبالكلمات). وفي حين أن هنالك كماً لا بأس به من الإحتمالات فيما يخص مستقبل كراب- إن كان هنالك أي مستقبل- فإن كل الإستنتاجات تؤكد على الفراغ الذي أكد عليه في ملاحظاته الختامية. إن الأمر الوحيد الأكيد بالنسبة لنا هو أن "فصل" اليوم قد إنتهى، ولن يكون هنالك الليلة فصل آخر من الضوء والظلام والإلهامات القابعة بينهما.
إلا أن "اليوم" ينطوي دائماً بالنسبة لبيكيت على أحداث في غير زمانها، وبالنسبة لأبعاد الوقت والزمان للمسرحية حتى في عنوان المسرحية، ما يجعل من التوصل الى قرار سهل أمرٌ صعب. إن إسم كراب- الى جانب ألم المعدة، والبكرة، والطابة السوداء وعدم قدرته على قضاء حاجته- تبلور في ثناياها حياة كراب العاطفية. إن هذا الوصف مناسبٌ جداً لما يشعر به بالمفهوم الديكارتي للأشياء، وطبيعة صعوبة قضاء الحاجة بالنسبة لكبار السن. إضافة الى ذلك، فهو إسم يناسب رجلاً كان قد أقصى نفسه عن الحياة. كراب نفسه يعيد تكرار قوله الذي يصف فيه عزلته ووحدته: لم ترافقه "روح على الأقل" في بيت النبيذ في عيد مولده التاسع والثلاثين؛ "بالكاد كان هنالك روح" تُؤنسُه عندما كانت أمه مريضة؛ والآن، وفي عامه التاسعة والستين عندما يتجه خارجاً لوهلة من الراحة "قبل الـ... برد"، ليس هنالك "روح واحدة" (ثلاثية أخرى). كان غناء ميس مكجلوم العجوز قد إختفى خاصةً تلك الليلة بالنسبة لكراب، وكان قد رفض بطبيعة الحال العواصف والماء والرياح بأي شكل من الأشكال حتى تكون الراحة والمدفأة أقل وحدةً في غرفته، حيث يشغل نفسه بالعمل على تحقيق شهرته وخلوده، بوصفه "أن هذه الأمور قيمة جداً عندما يصبح رماداً منثورا". لقد إبتعد كراب عن النساء، حتى تلك المربية (ولربما يذكر ذلك بصيغة دفاعية) التي كانت تمتلك صدراً لا يُقارن والتي كان يراقبها في حين كانت أمه مريضة. يعيش كراب، في هذه الشيخوخة، على الأغلب في عالم الخيال وحيث كان يدفع للعاهرة فاني من أجل الجنس (التي يمارس معها الجنس بفحولة)، حيث يقول أنه "إحتفظ" بكل هذه الفحولة طيلة حياته من أجل لحظات كهذه.
إن كلمة "آخر" كلمة صعبة ولها إزدواجية، فقد تعني "نهائي" أو "نهائي مطلق" وبالعودة الى المعنى الأخير في قوله ("هذه حبيبتي الأخيرة.") إلا أن كلا المعنيين لا يقدمان شرحاً كافياً لما يقصده كراب: فهل هو يتقدم أو بتراجع في مسيرة التعلم الذاتي (وما الذي تعنيه هذه المصطلحات على أي حال)؟ وهل تصبح هويته أكثر تفتتاً أم أكثر تكاملاً؟
إن كان بيكيت يقصد بكلمة "آخر" المعنى الأول ("نهائي" أو "نهائي مُطلق")، قد لا يكون هنالك سبباً لبناء حبكة المسرحية في المستقبل (إلا إن كان إهتمامه بالتفاصيل مبالغ فيه، حيث كان يعاني من مشكلة خلق الأحداث دون تسلسلها الزماني، فهو رجلٌ سبعيني بدأ بتسجيلاته قبل 45 سنة، والذي قد يعيدنا الى عام 1913)؛ أما بالنسبة للمعنى الآخر للكلمة، قد لا يدل شريط كراب "الحديث" في كل من الصندوق السابع والتاسع على تسجيلاتٍ متتالية بعد أن كان يبلغ من العمر التاسعة والثلاثين. قد تعني كلمة "آخر" بالنسبة لكراب، كما يعتقد روبي كوهن، بأنها موته. وكأن التسجيلات هي ذاتها "أسباب الموت" بالنسبة لكراب، ما قد يوحي للبعض أن شخصية كراب هي إصدارٌ آخر لشخصية اللامسمى. إن الأمر الأكيد بالنسبة لنا هو أن كلمة "آخر" تدل على الماضي والحاضر والمستقبل، والتي تدل على سير الوقت الطبيعي خلال المسرحية. ومن الملاحظ، في الحقيقة، أن أشرطة كراب، كالذاكرة، عندما يقوم بتشغيلها في الحاضر تُصبح جزءاً من نفسيته في الوقت ذاته؛ إن دوره المستقبلي الذي يؤديه على خشبة المسرح يصبح حاضره وماضيه القريب. إن الوقت في هذه المسرحية مثله كمثل الجسد في الرسم المعاصر والموسيقى والعلوم نسبي، حيث يعتمد على عوامل المكان والسرعة بالنسبة لتقييم الأشخاص.
ولكن، ومنذ أن هذه المسرحية كتبت في المستقبل، فإن كراب يعيش بشكل كلي خارج الزمان، على بقعة أرض محايدة، في ماضٍ مُعاد ومستقبل مُتوَقع. إن حل هذا التناقض والغموض كتقييم الأحداث في إطار تسلسل حيزي زمني. وكلما يشغل كراب تسلسل الأحداث، فإن تجاربه تحدث في حاضر لحظي كمن يعيش في حاضر مشوش، وتنتقل بشكل فوري الى الماضي (على الرغم من وجود لحظات نفسية كموت أمه، حيث يحاول الهروب إلى عزلته الوجودية والمعاني الشخصية لـ"لحظاتها، ولحظاتي، ولحظات الكلب"). إن من يحاول تحديد الوقت لإستخلاص المعنى أو لوصف "شخصية كراب المتكاملة"، فهو كمن يسعى، من غير جدوى، لتصحيح نقطة واط في مركز الدائرة، حيث أن كل محاولة لتركيز النقطة، في كون متحرك بشكل مستمر، تعمل على إعادة النقطة إلى نفس المسافة البعيدة عن مركز الدائرة. إن المعنى وجوهر الذات، كالماضي والحاضر والمستقبل، يعبر عن ذاته ويتراجع بشكل مستمر.
بالتالي، الزمان والمكان أصبحى "شخصيتان" واقعيتان في الإخراج السينمائي بالنسبة لبيكيت، في مختلف جوانب كراب في تناوبه من بطل للمسرحية وكورس: مهما كان من ماضي أو مُستقبل متوقع، وكدوره في الحاضر حيث يتحول إلى واقع جديد، وكـ"تفسير" يجعل من كراب شاهداً، بمعنى أو بآخر. ويكون هنالك أيضاً جانباً آخر من شخصية كراب، كجزءٍ مضاف الى الفسيفساء بشكل كلي. وكما ينتقل الزمان والمكان في أنماطٍ متصاعدة ويندمج شخص كراب العجوز مع شخصيةٍ سابقة، فإن كل ذات من ذواته المنفصلة تصبح منفصلةً أو مندمجةً بشكل أكثر مع كل ذات أُخرى. وإنه من المستفز قيام بيكيت بتعريف صوت كراب المُسجل على أنه "مغرور". إن طرح كراب، كفنان، لـ"لأجيال القادمة" شخصيته ككاتب وممثل يجب أن يحول بالضرورة التجربة التي يشعر بها الى هيكل مطلق في اللغة والقواعد. وفي إعتماد هذه الترجمة، فإنه سوف ينسى حتماً بعض "الإرتباطات غير القابلة للتناثر" وراء النص المكتوب بعناية، بما معناه "ذكرى تساوي الليل والنهار". وكذلك فهو أمرٌ لا مفر منه حيث التجارب التي مر بها ووضعها وراء الكلمات سوف تؤثر به بشدة، أي بيانكا والمرأة التي إصطحبها معه في القارب.
وفي خضم هذه اللوحة الفنية الغنية بصور إنقسام الذات، تظهر إخفاقات كراب السابقة. وقد زود الصمت والضحك العصبي والتلعثم والشرب واللعن والتنهد كراب بخصم قوي لعباراته التي إعتاد تسجيلها. والتي كانت بمثابة مصدر سذاجته وتسويغاته ونكرانه للحقائق المسلم بها لهذا العمر. إن هذه الحقائق تلتئم في النهاية مع عبارات كراب التي تبدو لأن تكون أكثر عفوية ومصداقية لمشاعر كراب المبطنة، وبداية مواجهته الحقيقية لماضيه. يقوم بيكيت حتى بإطالة مدى الوقت حتى يصل ما وراء المستقبل، حيث تتمحور أحداث المسرحية وحيث مجموعة كراب الأولى من الذكريات الطوعية العفوية (غير المسجلة على شرائط): شغف الماضي- مشهد القارب والشعر الذي يكرره فيه- يثير شوقه لمتعة المستقبل. وفيما يظهر بأن بداية إعتراف، يقر كراب أنه قبل تسعة وثلاثين عاماً "كل شيءٍ كان هناك، كل شيء... في هذا العمر الكئيب، الضوء والظلام والجوع ومتعة ومتعة الطعام". ويصيح فجأةً ليؤكد "نعم!" لكنه على الفورة ينتقل الى مسوغاته السابقة لرفض الحب في قوله "لربما كان محقاً". ويكشف على الفور أن حياته الحاضرة "لم تترك له شيء كي يقوله"، ولم تترك له "روح واحدة" للراحة، إن توقه يكمن في شيء شخصي- إن لم يكن ذلك متأخراً جداً. يعترف كراب بحاجته لعائلة، لألوان، للطبيعة، ومن الممكن أيضاً للإيمان، لكل شيء كان قد رفضه أو أنكره:
"اضطجع في الظلام متماسكاً في فراشك. وطف هنا وهناك. فلتكن ثانية في الوادي الصغير العميق الظليل في ليلة عيد الميلاد، وأنت تجمع بقدسية، نبات الايلكس وثمار العنب الأحمر... (وقفة) لتكن ثانية في كنيسة جروجهان في صباح يوم الأحد، وسط الضباب، مع الغانية، تتوقف وتنصت الى الأجراس. (وقفة) وهكذا (وقفة) فلتكن ثانية. فلتكن ثانية."
وإن كان توقه واضح، فإن خوفه من الألم – الضوء والظلام والجوع والطعام – واضح كذلك. وبالتالي فهو يوازن بين عبارته "فلتكن ثانية" مع تكرار قوله "كل ذلك البؤس القديم". إن هذه اللحظة قد تكون إحدى اللحظات الأكثر صراحةً في حياة كراب، لكنه لن يعلق أو يكتب بشأن كل منهما. وقيامه بتحطيم المغلف، يكون بذلك قد هجر طقوسه في صنع تسجيلات جديدة لعيد ميلاده، وبدلاً من ذلك يقوم بإعادة الإستماع لتسلسل أحداث مشهد القارب.
إن الشريط الأخير لكراب، اليوم على أقل تقدير، سيكون شريطه في التاسعة والثلاثين من العمر. وحيث تنتهي المسرحية "بصمت"، على الرغم من الفراغ العميق الذي سيكون في صمته الحاضر. وبالرغم من الفقرة التي تضم غنائية لطيفة على القارب ("قد تكون الأرض غير مأهولةٍ بالبشر")، فإن كراب يعيد تكراره لمصدر هذا "البؤس" و"الكلام الفارغ"، مسلطاً الضوء على غموض هذه اللحظة وصعوبة التنبؤ بـ"مستقبله". بمعنى آخر، قد يتمكن، أو لا يتمكن، من قبول خسارته الدائمة للظلام والعاطفة؛ وقد يبررها أيضاً بموازنتها بالظلال؛ ومن ثم قد يتحمل "فصول" حياته- فنه. وقد يعمل على كتابة الأدب في كلماتٍ قليلة، كما فعل بيكيت في مهنته الأخيرة. لا يقدم بيكيت هذه الإحتمالات، فهو يقوم، عوضاً عن ذلك، بتعزيز التباديل والتوافيق التي يكررها ويغيرها ويعيد تكرارها مرةً أخرة خلال حياته—من خلال تدفق الضوء والظلام. إن كان كراب يقترح أي شيء دائم في تجربة بشرية، فإنه يقدمه في اللاوعي من أجل تنشيط الإزدواجية البشرية. وقد يظهر كراب بانه إختار حياته وسيطر عليها بالطريقة التي يريدها، ولكن هنالك عامل سري حفزه وأملى عليه نوعية الذوات الحقيقة والخيالية التي إحتوت عليها الأشرطة. وقد ألفت الشرائط الضوء على طبيعة إزدواجية الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبة لحياة كراب، كمستودعٍ لعملية اللاوعي الرئيسية البحتة، تجاه الجنس والكتابة والنساء والتجربة الجسدية والعقلية، وكذلك تجاه الهرم والشباب.
وعلى الرغم من أننا ناقشنا مرحلة الضوء والظلام كما هي مصممة في خلفية المسرح لماضي وحاضر ومستقبل كراب، فقد تكون كذلك مصممة بدقة لتناسب عقله اللاواعي. إنه كعالم الفكر في عمليته الإبتدائية، حيث تكون الأنشطة العادية على شكل أداء طقوسية، حيث الحالم، في حالة كراب، يستطيع مراقبة نفسه وكأنه شخصيتين منفصلتين يعبر عنهما بـ"هو" و"أنا". (وفي بعض الأحيان، يتحدث عن نفسه وكأنه منفصل الى ذوات متفرقة، مشيراً الى نفسه بـ"خاصته هو"، و"أنا-كراب" وكذلك "أنا-المسيح"). يعرف كراب نفسه، في هكذا عالم، (ليس "كـ") كلب أو حتى كطائر أو أغنية الهويد "الأسود". وإذا كانت أسعد أوقاته تكمن في كلمات كـ"بكرة-spool"، فإن السبب وراء ذلك يكمن في أن الكلمات – والشرايط- ليس فحسب تعبر عن حياته، وإنما أصبحت حياته على نحو كلي.
ومنذ أن عالم الأحلام الخاص به يرتبط بتماثله وتجاوره على السواء، وحيث الأحداث "المهمة" و"غير المهمة" تتداخل في بعضها البعض، فإن كراب يستذكر موت والده بلا عاطفة، ويذكر بشكل متداخل في دفتره أن "والدته قد إرتاحت أخيراً" وقوله "تحسن طفيف في أحوال المعدة". إن هذه الأحداث والأفكار تتداخل تتحول فيما بينها الى أشياء أخرى، موحدةً بأشياء، من غير المرجح، أن تكون متشابه: على سبيل المثال، "بَكَرة" كراب تأخذ هيئة العيون والكرة السوداء التي فُتن بها. إن الأنشطة العادية التي يقوم بها كراب تأخذ شكل السحر في الأساطير، أو الخرافات، بتعبير أدق: بالتالي يخطو كراب أربعة أو خمسة خطوات بسرعة في وقت واحد، يشرب في عشرة أو خمسة عشر ثانية من الوقت، يسجل نفقته من 1.700 من أصل 8.000 ساعة في المبنى العام؛ طقوسه كذلك يقوم بها ثلاث مرات سحرية: يقوم بفرك يديه، ثم يترك "دين" في الظلام وكذلك الكحول، ومن ثم يستمع الى شريطه يقول "وداعاً أيها الحب".
إن كل كائن، بمعناه الخاص، يصبح جزءاً من هذه المسرحية الأخلاقية المعاصرة- حيث الصراع بين العقل والجسد، وبين الفكر والجنس. المغلف كالموزة، على سبيل المثال، كلاهما يأخذ سمات الوظيفة الجنسية: فهي كوعاء قد يملئها كراب بمتعة جنسية، وهي كذلك المكان الذي كان يسجل عليها كراب ملاحظاته. إلا أن المغلف لم يمده بوسائل الخلود: فقد رفض المرأة التي عرضت عليه سبباً للغناء، وآلة التسجيل التي سمحت بإنتقال كلماته الى العالم أصبحت عديمة الفائدة، وكالساعة التي كان يرتديها، مجرد دعامة ليس إلا. وإن المغلف، الذي يكثف الإعتماد المتداخل بين الكتابة والعاطفة، فهو الآن فارغ. وإن "أدراج" كراب المفتوحة- كلمة فضولية- غريبة تشير الى الفن، والملابس، وكذلك المكتب- وكذلك تستحضر، بشكل تصويري، رغبته الجنسية وهي كذلك صورةً أخرى لإزدواجيته. وكما هي على خشبة المسرح، فهي تحفز الجمهور، كما تحفزهم حركة كراب عندما يلاطف فمه بالموزة.
أضافة الى ذلك، فإن تفاصيل كراب بـ"الدقيقة" توجز إزدواجيته في الجنس والكتابة: إحدى أدراج مكتبه تحتوي على أشرطة؛ وأخرى تحتوي على الموز. حيث أن كلاهما تُشير إلى فكرة الإستمناء (حيث يجب عليه أن يفتح أدراج المكتب بالمفاتيح)، وقد يرى البعض أن متعة كراب البديلة تكمن في نزع السدادة عن علبة النبيذ، ويلاحظ بأن شرابه الثالث يزداد الى درجة شرب الويسكي مع مياه غازية، وما قد يشير الى الدلالة الجنسية أكثر هو سيفون الصودا. إن الشرب والطعام، ونزع السدادة وفتح الأدراج، وكذلك الموز –الجنس (أو الإستمناء) والطعام- كلها تظهر كصورٍ تبدو مكملة لمغامرات كراب الإبداعية.
يبدو أن حياة كراب وما يتضمنها من شرب وحياة جنسية وكتابات وفن وعقاب ذاتي واضح في وصفه لممارسة الجنس مع فاني بأنه "افضل من ركلة في العكاز". اسم فاني يتماشى بالصوت والهجاء مع اسم إيفي و ربما هذا هو السبب الذي يفسر لما اخطئ كراب بكتابة اسم أفي برايست-Effie Briest -Effiأفّي بطريقة تشدد حرف الفاء. لا منطقية كراب تعادل كلمة "عكاز-crutch" مع "منشعب-crotch" (تماما كما تُصبح كلمة "بكرة-spool" مقعد-stool"). فحاول ككاتب ان يفصل القمح عن القشر، فالقشر، كشكل آخر للعكازة و الموزة، هو تذكير بالعضو الجنسي الذكري. فشكل القشر مثل أي أداة كتابة. يشير الخلط بين الإستعارة التقليدية (أن تكون قشرة أفضل من أن تكون عصافة) الى عدد من التناقضات والإزدواجيات. يكمن ذلك حتى في العينين اللاتي يعيد الكاتب تكرارهما، فيما يصفه كراب وحدة الروحانية والمادة، كإجابةٍ للضوء والظل. وفي ذكر العينين، أكثر من عشر مرات في المسرحية، يعمل ذلك كمدخل الى الجنس والروح. ومنذ الأمد الطويل الذي رفض فيه كراب بيانكا، بالرغم من عينيها غير القابلات للمقارنة والدافئتين؛ فإن عيني المربية كانتا كـ"الزبرجد" (خضراوتين)، كلمة يستخدمها بلاك أوثيلو (أهو قدوة أم شخصية عقابية؟)، الذي أساء قراءة ديسديمونا على أنها "عاهرة".
وعندما يحدث "الأثر الرجعي" في عيد ميلاد كراب، يستذكر موضوع "من المهد الى اللحد- wombtomb" الذي سيطر على أعمال بيكيت، وكذلك ألم الولادة الذي ينبع من الصمت والماء. إن حضور كراب وسلوكه في هذا اليوم، في نواحٍ عدة كالطفال الذي ما زال قيد النمو حيث (يرتدي بنطالاً لا يلائم جسده "قصيرة جداً"، كما لو كان ربما يفعل ذلك كطفلٍ ينوي الذهاب الى صلاة الغروب)، يحمل مقارنةً لشخصيات أخرى مهرجين من عالم بيكيت، حيث أنه يفتقر الى ضمان النجاة الذي لا مفر منه. وقد يكون كراب يملك كل الزخارف التي تقارنه ببصيرة المهرج القصير في قاعة الموسيقى ذات الصوت المنعزل، مع زي أسود رث وحذاء كبيرة الحجم، وفي إستنتاجاتٍ سابقة، أنف أبيض- لكن على نحو أقل، ليس من شخصيات المهرجين في أعمال بيكت الأخرى، يمارس الهزل في أصعب أداء لها، ينزلق على قشرة الموز، يغلق الأدراج، ويطرق الأشياء على الطاولة. كشخصية هزلية، فإن كراب يثير الدموع من كثرة الضحك، لأن هنالك شيءٌ عميق مُحرك إزاء هذا الهزل النموذجي.
كان كراب على الدوام بحاجة الى من يرعاه، وبالعودة الى وقت سابق، فإنه يصف المربية في سلسلة تربط بين غريزته، وعقابه، وأمه، والحياة والموت. لقد رأى كراب المربية السوداء، في لباس أبيض تجر عربةً سوداء ضخمة، قد تكون على نحو أمومي، إلا أنه يراها جذابة من ناحية جنسية. وعلى الرغم من أنها هددته بالإتصال بالشرطة عندما كان يراقبها وتمنى حينها موت أمه، لقد كان "يعرفها جيداً"، يوضح ذلك بقوله أنه يعرفها من خلال مظهرها وليس من خلال جسدها (جنسياً). ومرةً أخرى، فإن إزدواجية هذه الترابطات ومن ثم إضفاء هويته كطفلٍ ومربية بالغة، حيث يتكلم كراب حول إزدواجية الأبيض والأسود في المربية والكرة السوداء والكلب الأبيض. ثم يتبع ذلك تسلسل لا منطقي: يبدأ يذكر لطفه للكلب وإعطائه الكرة عندما ماتت أمه. ومن ثم يعرف نفسه وهو مع الكلب كـ"وغد" أو "حقير" (كما فعل ذلك مع الأشرطة عندما كان يبلغ من العمر التاسعة والثلاثين) ومن ثم يعترف بحظه المزعج "مع صرخة". وإضافة الى ذلك، يربط نشاطات كتابته بالـ"عاهرة"، حيث يخبرنا بأن ميس ميكجلوم (لاحظ إسمها) لم تُغنِّ له منذ وقت؛ وعلى الرغم من عودته الأخيرة للجرس وصلاة الغروب، فإنه ينام على وقع الموسيقى.
إن مثل هذه اللامنطقية المعقدة تصاحب كل كلمة وعبارة في النص، حتى ملاحظته الأخير "العفوية"، عندما كان يود لو أنها "تكن مرة أخرى، فلتكن مرة أخرى". هنا يصف كراب مشهد مرافقته لكلبه (الذي يصفه بالـ"عاهرة") يوم الميلاد وسماعه لأجراس الكنيسة، قرب الماء كذلك مرة أخرى. إلا أن ذكره للماء هنا مرة أخرى يدلل على إزدواجيته ويقلل من رغبته المحتملة: حيث أن كل اللحظات التي كان يشعر فيها بمشاعر جياشة قد حدثت قرب الماء: الجنس/ الحب (في القارب)، موت والدته (حيث جلس حينها على السد)، و"ذكرى تساو الليل والنهار" (خلال العاصفة). وفي الواقع، حيث يعيد كراب تشغيل شريطه الأخير للجمهور بعد إنتهاء المسرحية، فإن كل كلمة وإيمائة تتكدس بشكل متزايد كمعانٍ خصبة. إن كلمة "بلطف"، في وصفه للحظة موت والدته، والرغبة الجسدية والروحية: كل ما تحتنا كان يتحرك، يهدهدنا برقة وعذوية، صعوداً وهبوطاً، ومن جنب الى جنب، وكذلك الكلب الذي أعطاه "الكرة" في فمه، بلطف، بلطف.
قد يبحث البعض عن قرارات، فيما يخص إستماع كراب، للمرة الأخيرة، لمقطع القارب. حيث أنها، وبكل وضوح، أكثر الأحداث تأثيراً في تجاربه وذاكرته وتعبيراته. وعودته للإستماع لها مرةً ثالثة يثير عقدةً بالمعنى والمشاعر المتراكمة التي يشعر بها أي شخص عند تكرار لحن سوناتا:
فقالت: من قطف نبات عنب الثعلب. فقلت ثانية، أعتقد أن من الميئوس منه وغير المستحب أن نواصل فوافقتني دون أن تفتح عينيها. (وقفة) طلبت منها أن تنظر الى. وبعد لحظات قليلة- (وقفة)- بعد لحظات قليلة نظرت الي بعينين مفتوحتين بالكاد بسبب الوهج، وانحنيت فوقها لأظللها فتستطيع أن تفتحهما جيداً. (وقفة. بصوت منخفض) توغل بي الى الداخل أكثر. (وقفة) توغلنا الى الداخل وسط أعشاب البحيرة فغرزنا. كان الطريق الذي نزلا أسفله وهما يتنهدان، قبل الحاجز (وقفة) أستلقيت على الأرض بجانبها ووجهي مدفون في صدرها، ويدي تحوطها. ونحن مستلقيان هناك دون حراك. لكن كل ما تحتنا كان يتحرك، يهدهدنا برقة وعذوية، صعوداً وهبوطاً، ومن جنب الى جنب.
(وقفة. كراب يحرك شفتيه. دون صوت).
منتصف الليلة الماضية. لم تشهد إطلاقاً سكوناً مماثلاً.. ربما كانت الأرض خالية من سكانها.
ولأول مرة الآن يسمح كراب للشريط بالمتابعة لرفضه الحاسم للحياة قبل ثلاثين عاماً. "ربما تكون أجمل سنوات عمري قد مضت. بينما كان هنالك فرصة للسعادة. لكني لا أريدها ان تعود. على الرغم من النار المتأججة داخلي الآن. لا أريدها أن تعود." وعلى الرغم من الإحتمالات الإلهامية والموحية للحظة، حيث أنها أكثر بياناً من غيرها، يستمر بيكيت في إيضاح ملاحظته حول الإزدواجية التي حققها خلال المسرحية. وفي واقع الأمر، قول كراب الشاب "لا أريدها أن تعود" تتبع قول كراب العجوز على نحو قريب "فلتكن ثانية. فلتكن ثانية"، كما سبق قوله "يجب علي أن أسيطر" على "نزواتي الأخيرة" ويبقى مزاج كراب الغامض الذي يثيره تتابع ذوات كراب نفسه.
وبالتالي "تنتهي" أحداث المسرحية في نطاق حلقة مستديرة تزيد من عقدتها الزمانية. ويواجه كراب نفس السؤال الذي وُجه إليه عندما كان في سن الثامنة والعشرين والتاسعة والثلاثين؛ وهو كيف يعيش الإنسان حياته. إن كراب الشاب قد عرف كمالاً زائلاً في لحظات حُبٍ وعاطفة. وكذلك يخضع كراب العجوز لإعادة تجربة تلك اللحظات من خلال الفن وذاكرته. وقد يشعر البعض للحظة على الأقل، وبصمت يجرب ما وصفه وردزورث "العاطفة تعيش في القلب كما الحقيقة". هل كان كراب كشاب ليختار بشكل مختلف؟ وهل شهدنا "مشهد إعتراف"، وهل هو أكثر حكمةً الآن؟ وهل هنالك "رسالة" للجمهور الذي يمتد الى فهم ما وراء كراب؟ إن طرح الأسئلة بالنسبة لبيكيت (أي كيف يعيش المرأ ولأي هدف يعيش) تبدو أسئلة "من الممكن إجابتها" في عصر تكون فيه العقائد الدينية والإجتماعية والثقافية غير مرتبطةً بالروح. أما "المعنى" وحتى القيمة من وراء الوجود فهو أمرٌ قد طُرح جانباً للتسائل.
في الواقع، إن مسألة "تكون أو لا تكون" تبدو السؤال الرئيسي لنهاية هذه المسرحية، وإذا كان هاملت يضطر لأن يسأل هذا السؤال عندما يختل نظام عالمه، فهي ذات الحالة الوجودية البديهية التي وُلد فيها كراب. في الحقيقة، هو ذات السؤال الذي يسأله كل أبطال نصوص بيكيت، على الرغم من أن إجاباتهم تكون، في أحسن الأحوال، مؤقتة. وإن العيش في وحدة موحشة في عالم بلا أجوبة تكون غير مطاقة تقريباً، إلا أن الرغبة لفهمها تستمر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل