الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التجارة الحديثة والخطاب الإشهاري .. تفاعل كبير من أجل مردود أكبر

مصطفى المغراوي

2016 / 7 / 18
الصحافة والاعلام


تتسم الحضارة اليوم بالثورة العلمية والتكنولوجية، والتي انعكس تأثيرها القوي على جل النشاطات البشرية، وخاصة النشاط التجاري المهدد بالبوار والكساد، في غياب الدعاية والإشهار الذي أصبح فنا قائما بذاته، يروم التأثير في المتلقي واستقطابه بشكل ملح ومتكرر، عبر التركيز على الجانب الإنفعالي في الإنسان عوض الجانب الإقناعي العقلي.
لقد عرف الإنسان الإشهار قديما، فقد استخدمه الإغريق للتجارة وغيرها، ومارسه الرومان للإعلان عن العاب السيرك والمصارعة وبيع العبيد، كما عرفه العرب أيضا إبان ازدهار حضارتهم، عندما كانوا يعلنون عن أي شيء أو غرَض من الأغراض، بواسطة الصياح والطبول والأبواق وغيرها، أمام أبواب المساجد أو في الأسواق والساحات العمومية والمواسم السنوية، ويقوم بهذا الأمر أشخاص معينون كُلفوا بهذه المهمة قصد إبلاغ جميع المعلومات للناس في كل مكان وزمان.
وبعد ظهور الطباعة وازدهار فن الرسم والتصوير وتقلص الأمية، أصبح فن الإشهار يمارس بواسطة الصحف والمجلات والملصقات الجدارية، مما جعله يتطور ويصبح مهنة خاصة لها قواعدها وأصولها، وغدت تدرس كمادة جديدة في ارقي المعاهد وكبريات الكليات، وصاحب ذلك إنشاء وكالات محلية ودولية خاصة، تعنى بتنظيم الإشهار وتسهر على توزيعه، وتنويعه حسب الأجناس والأعمار.
لكن بعد الحرب العالمية الثانية والتي واكبها تقدم في الفنون الدعاية، وخصوصا الإعلان التجاري بشكل لم يسبق له نظير، بسبب ظهور أجهزة متطورة كالمذياع والتلفزيون والسينما وأضواء النيون الخلابة المختلفة الألوان والأشكال والأحجام، والتي نجدها في المحلات التجارية والشوارع والملاعب الرياضية غيرها، واخذ الأمر يتطور أكثر حتى فوجئنا بسيل هائل من الإعلانات يتدفق إلينا عبر شاشات الحواسيب وأجهزة الهواتف الذكية في كل يوم وكل ساعة وكل ثانية.
انه غزو من نوع جديد ليس الهدف منه تقديم معلومات فحسب، وإنما إقناع المستهلكين وإغراؤهم عن طريق وصلات إشهارية تعمل في اتجاه مضاد للاختيار العقلاني لديهم، حيث يقومون بانتقاء السلع والخدمات ليس على أساس الكفاءة والسعر، وإنما على أساس الإغراء وقدرة الإشهار على التلاعب بمشاعرهم، من خلال قدرته على خلق حاجات زائفة قد لا يكون الإنسان في حاجة ماسة إليها، فينجم عن ذلك نوع من الإقبال والرواج، رواج يقابله تراجع في الإقتصاد في النفقة، لمصلحة قيم الامتلاك و البحث عن الراحة المادية، إضافة إلى الاهتمام بالذات والمتعة كطريق وهمي نحو تحقيق سعادة مؤقتة زائفة.
إن تكريس عادات الاستهلاك مرتبط بتغير الأذواق لدى المجتمعات، لذلك صار الإشهار من الوفرة والإتقان والإغراء بشكل يصعب تصوره، من خلال استعمال خطاب إقناعي يقوم على تمجيد البضاعة، واستقطاب المتلقي عبر وسائل بلاغية واستدلالية متنوعة، تحولت بفعل المشاهدة والتكرار إلى عصا سحرية، في يد الشركات والمعامل والمتاجر الكبرى والتي تراهن على الربح السريع، عن طريق الزج بالمستهلك في متاهات الاستهلاك العشوائي، والانخراط فيه دون تردد ولو بالاقتراض أحيانا.
ومن هنا تحول الإشهار إلى أداة فعالة تربط الاتصال بين المنتج والمستهلك، والى وسيلة لنجاح البيع وضمانه، وكسب الزبناء وتأمين العمل، وتوظيف الأموال إلى الحد الذي نجد معه أن أضخم ميزانية ترصدها الشركات الكبرى لمشاريعها التجارية، هي ميزانية الدعاية والإشهار، لتحقيق هامش اكبر من الربح الذي يحفزها على إبداع سبل جديدة لمعانقة جيوب المستهليكين الحريصين دائما على إرضاء أنفسهم وذويهم.
لقد أصبح النفاذ إلى أفكار وقلوب الناس أمرا في غاية البساطة واليسر، من خلال ما تَوَفَّر الآن من تقنيات حديثة و مستجدات الفنون التشكيلية، إضافة إلى الاستعانة بعلم النفس باعتباره علما قادرا على سبر أغوار الذات الإنسانية، والاستفادة مما يتوصل إليه علماء النفس الذين يبحثون باستمرار عن الكلمات الموحية المؤثرة، والصور والمشاهد الأخّاذة الرائعة، مما يجعل الفرد ينقاد انقياد الخاضع المستسلم المهزوم أمام ما تمليه عليه الدعاية المفخخة.
ورغم ما يتمتع به المستهلك من مقاومة لعدم الرضوخ لإغراءات التاجر، إلا انه يتم الاستعانة عليه بوكالة للإشهار والتي تقوم بالنيابة عن صاحب السلعة من أجل تمجيدها وتعظيم شأنها وترقية مستواها، لتكوين فكرة حسنة عليها، ومن هنا أصبح الخطاب الإشهاري انتصارا على مقاومة المستهلك الذي يغير عاداته الاستهلاكية وهو مكره ومرغم على ذلك، لأنه أسيرا في قبضة هذه القوة التي تعمل بهدوء لكسب الثقة ودفع الزبون للاقتناء و أداء قيمة الخدمات المعروضة.
فالإشهار أصبح جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، في البيت وفي المقهى وفي الشارع، لذا فقد تحول من فكرة تسويق البضاعة إلى فكرة ترسيخ القناعة، بمخاطبة لا شعور المستهلك وإثارة مشاعره وأهوائه قصد استنزاف ميزانيته و مدخراته، حيث يرسم له عالما مثاليا خاليا من الفوارق والحروب والعنف، مما يجعله يعيش لحظة بل لحظات فرحة وبهجة وهمية، تجعله ينصهر تدريجيا ليسقط فريسة بين مخالب الإغراء والتغرير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلسطينيون يرحبون بخطة السداسية العربية لإقامة الدولة الفلسطي


.. الخارجية الأميركية: الرياض مستعدة للتطبيع إذا وافقت إسرائيل




.. بعد توقف قلبه.. فريق طبي ينقذ حياة مصاب في العراق


.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار




.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟